ترجمة حفصة جودة
في مطبخها الصغير بمنزلها المهدد بالهدم في أي لحظة، كانت ليلى مؤنس تطبخ الأرز والكوسة المحشية بلحم الضأن في صلصة الزبادي، وكانت رائحة هذا الطبق الفلسطيني التقليدي تملأ المكان، وفي الوقت نفسه، كان أطفالها يتجمعون في غرفة المعيشة استعدادًا لتناول الغداء.
بينما كانت مؤنس تقلّب الزبادي على الموقد، كان كل ما يجول بخاطرها مصيرها ومصير أسرتها، فقد بدأت “إسرائيل” في تنفيذ قرارها بهدم 12 قرية فلسطينية في مسافر يطا جنوب الخليل حيث يعيش 2500 مواطن، لتحويلها إلى منطقة تدريب عسكرية.
كان الجيش الإسرائيلي قد دمر سابقًا جزءًا من منزل عائلتها في قرية جنبة، لكن التهجير الذي تواجهه مسافر يطا اليوم لا يهدف إلى تدمير منزل واحد هنا أو هناك، بل اقتلاع جميع السكان من المنطقة بأكملها.
ستكون النساء من أكثر المجموعات تأثرًا بهذا التهجير الجماعي، فأولًا: هن بالفعل مجموعة مهمشة تفتقر إلى الاحتياجات الأساسية في المجتمع مثل عيادات النساء ومراكز التدريب، وثانيًا: تتحمل النساء مسؤولية عائلاتهن، وهي مهمة تزداد صعوبةً وتعقيدًا في هذه الظروف القاسية بمسافر يطا، خاصة في قرية جنبة حيث يمنع الاحتلال الإسرائيلي بناء بنية تحتية أو تعبيد الطرق، ونتيجة لذلك يعيش السكان في ظروف بدائية.
تشاركنا مؤنس – 44 عامًا – حياتها اليومية كأم وامرأة في مسافر يطا، فتقول: “حياتنا هنا صعبة كنساء، فنحن نبدأ يومنا مبكرًا جدًا بحلب الخراف ثم صنع الخبز على النار، وبعد ذلك نصنع طعام الإفطار لأطفالنا قبل ذهابهم إلى المدرسة، وخلال اليوم هناك الكثير من الواجبات المنوطة إلينا”.
يدرس أبناء مؤنس الـ12، حيث يذهب 2 منهم إلى الجامعة، بينما أنهى 2 تعليمهما الجامعي، فيونس درس الطب البيطري وحليمة درست علوم السمع والنطق، بينما تدرس بتول التربية ويدرس ريان اللغة العربية.
تقول مؤنس: “الهدف الرئيسي من تعليمهم تعزيز وجودنا هنا وتطوير قريتنا جنبة، الأمر ليس سهلًا لكننا نعمل على تحقيقه”.
مستقبل الأطفال
تشعر الأمهات هناك بالقلق على أطفالهن منذ لحظة ولادتهم، فمؤنس – التي تشعر بالقلق المستمر على أطفالها – أنجبت أولهم يونس خلال نقلها إلى المستشفى في جرار، تقول مؤنس: “نجا يونس بأعجوبة، وقد تكررت تلك المعاناة في الولادات اللاحقة، لصعوبة الوصول إلى المستشفى في وجود الحواجز الإسرائيلية التي تعيق حركتنا، لقد نزفت عدة مرات وفقدت الكثير من الدم، لقد كدت أفقد حياتي ليصبح أطفالي بلا أم”.
هذه الأيام يشغل بال مؤنس قلقًا إضافيًا، فمدرسة جنبة مهددة بالهدم مثل منازل القرية، وكذلك جميع مدارس مسافر يطا، رغم أنهم أُسسوا بدعم وتمويل من الاتحاد الأوروبي، تقول مؤنس: “أشعر بالقلق على مصير الأطفال ومستقبلهم، أين سيتعلمون إذا دُمرت مدارسهم، وكيف سيحققون أحلامهم؟”.
هذا الخوف العظيم من التهجير الذي يخيم على سكان مسافر يطا، يفاقم من مشاعر القلق والتوتر لدى أمهات جنبة، تقول مؤنس: “أعيش في قلق كبير، أشعر دائمًا بجفاف في حلقي من شدة الخوف الذي نعيشه، إننا ننتظر نهاية كل يوم لنشعر أنه مر بخير دون تهجير، ثم نستعد لليوم الجديد”.
“يشن المستوطنون هجمات على جنبة، ويقتحم الجيش منازلنا باستمرار ويجري تدريبات عسكرية بين المنازل، ما يضع السكان في خطر مستمر”، فاطمة الجبارين
تشعر جميع النساء في جنبة بانعدام الأمان، بينما كانت فاطمة الجبارين – 58 عامًا – وشقيقتها حليمة الجبارين – 52 عامًا – تعدان الغداء لأطفالهما العائدين من رعي الأغنام، قالت حليمة: “نعتمد بشكل أساسي على رعي الأغنام، لكن المستوطنات الإسرائيلية والجيش يحيطون بنا ويمنعوننا من الرعي بحرية، يتعرض أطفالنا بشكل مستمر لهجمات المستوطنين والجيش، ما يجعلنا في قلق عليهم حتى عودتهم كل يوم”.
خطر مستمر
قالت فاطمة إن اضطهاد الجيش الإسرائيلي امتد إلى داخل جنبة ومنازل السكان، وتضيف “يشن المستوطنون هجمات على جنبة، ويقتحم الجيش منازلنا باستمرار ويجري تدريبات عسكرية بين المنازل، ما يضع السكان في خطر مستمر”.
وحتى في أثناء الليل، تعيش النساء في جنبة في حالة قلق بسبب الخطر القادم من جهة مختلفة تمامًا، ففي إحدى الليالي رأت فاطمة وحليمة – اللتان تعيشان في منزلين متجاورين – أفعى مجلجلة في الجوار، التي تعد من أشد الأفاعي سُمًا في فلسطين.
تقول فاطمة: “اعتدت سماع صوتها عندما تتحرك، لم أستطع النوم خوفًا من أن تعض أحد أبنائي، كنت أسهر طوال الليل لأطمئن عليهم جميعًا”، بينما قالت حليمة إنها بعد ولادة ابنتها الوحيدة كانت نادرًا ما تتركها، وتشعر بالقلق المستمر من الأفاعي والعقارب.
وتضيف “في إحدى المرات وجدت عقربًا ميتًا بجوار ابنتي، ففزعت، ماذا لو كان قد قرصها، إنها ابنتي الوحيدة وأخشى فقدانها”.
مشكلات صحية
أدى انشغال حليمة وفاطمة بسلامة أطفالهما إلى إهمال مشكلاتهما الصحية التي ظهرت نتيجة الظروف المعيشية الصعبة، فكلتاهما تعاني من مشكلات في التنفس بسبب الجو المغبر في مسافر يطا، كما تعاني حليمة من مرض السكري وارتفاع ضغط الدم.
تقول حليمة: “هنا قد تموت النساء قبل وصولهن إلى المستشفى، في بعض الأحيان أعاني من ارتفاع مستوى السوائل في الرئتين وتصبح حياتي في خطر عظيم”.
في يونيو/حزيران، فقدت حليمة وفاطمة أمهما لطيفة محمود الجبارين التي كان عمرها 95 عامًا، ماتت لطيفة في المستشفى العام بيطا ولم تتمكن حليمة أو فاطمة من الوجود معها في لحظاتها الأخيرة.
ورغم أن ألم الفقد لا يزال حاضرًا، فإن عليهما مواجهة الهشاشة المستمرة لوجودهما ووجود عائلاتهما، تقول حليمة: “هناك تهديد حقيقي بهدم منازلنا وتهجيرنا من جنبة ومن مسافر يطا للأبد، لكننا لن نقبل بذلك ولن نترك منازلنا أبدًا حتى لو هدموها فوق رؤوسنا”.
كانت والدتها من أبرز سكان جنبة، فقد كانت القابلة الوحيدة التي تساعد النساء في الولادة وتنقذهن وقت الحاجة وتنقذ أطفالهن، بوفاتها تفقد جنبة إحدى أهم نسائها.
تقول فاطمة وهي تبكى أمها الراحلة: “لقد تعلمنا منها الصمود، لقد كانت من أقوى النساء حيث اعتمدت عليها القرية بشكل كبير، واليوم لم نفقد أمنا وحدنا، بل فقدتها القرية بأكلمها”.
منذ وفاتها، تضطر نساء جنبة إلى الانتقال إلى منازل عائلاتهن أو أصدقائهن في يطا عندما يقترب موعد ولادتهن، حتى يصبحن قريبات من المستشفى لإنقاذ حياتهن وحياة أطفالهن، ثم يعدن بعد عدة أيام بصحبة أطفالهن.
لقد نشأنا هنا
لكن الولادات المبكرة وحالات الإجهاض أو أي مشكلة صحية مفاجئة تظل تهديدًا للنساء في أثناء الحمل، وتعلم نساء جنبة أنهن وحيدات تمامًا ومعزولات، لقد مررن بظروف لا تتحملها الكثير من النساء في العالم.
والدافع الوحيد لصمودهن في مسافر يطا، هو إخلاصهن لأرضهن ووجودهن، ورفضهن للتهجير والمحو، تقول حليمة: “لقد نشأنا هنا، وورثنا وجودنا في تلك الأرض من أجدادنا، وسنواصل الدفاع عن وجودنا”.
تعيش غالبية النساء في مسافر يطا في ظروف صعبة مشابهة، مع مزيد من التعقيد في حياتهن بسبب الاحتلال الإسرائيلي.
في أحد منازل قرية التواني، كانت جملة الربيعي تقف وسط المنزل ورأسها مربوط بقطعة قماش، لكنها فكت رباطها سريعًا عندما رأتنا، تقول الربيعي: “يكاد رأسي ينفجر من الألم، لم أعد أستطيع تحمل الألم”.
اُعتقل اثنان من أبناء الربيعي الست – بلال ومحمد – في السجون الإسرائيلية وحكم عليهما بالسجن لمدة عام بعد اتهامهما بالاعتداء على مستوطنين، تقول الربيعي: “هاجمنا المستوطنون فخرج ولديّ للدفاع عنا، لكن الجيش اعتقلهما واتهمهما بالاعتداء على المستوطنين”.
بعد هجوم المستوطنين على عائلة الربيعي، هدم الجيش الإسرائيلي منزلًا تحت الإنشاء، كان محمد يخطط للعيش مع أسرته.
لا نملك بديلًا
مع ذلك، تمكنت العائلة من إعادة بناء المنزل ليعيش محمد فيه بعد خروجه من السجن، تقول الربيعي: “إننا نبني ونعيش في أرضنا ولا نملك بديلًا غيرها، وحتى لو هدموا المنزل ثانية، سنعيد بناءه، وسنصمد هنا”.
ترعى الربيعي أحفادها الـ10 في غياب آبائهم المعتقلين في سجون الاحتلال، كما ترعى اثنين من أبنائها المصابين بإعاقة عقلية.
تقول الربيعي: “لا أنام الليل قلقًا على أبنائي وأحفادي، وخوفًا من اقتحام الجيش وهجمات المستوطنين، يستيقظ الأطفال من الكوابيس مذعورين بسبب نوبات الهلع المتكررة التي تصيبهم في أثناء اقتحامات الجيش، أشعر بالخوف على أبنائي وأحفادي ليل نهار، ولا يهدأ قلبي أبدًا”.
المصدر: ميدل إيست آي