قبل 5 سنوات قرر الطبيب السوري فراس الغضبان (37 عامًا)، وليد مدينة سرغايا بريف دمشق، أن يجتاز الحدود السورية اللبنانية في مغامرة خطيرة بحثًا عن الأمان له ولأسرته، نحو البلاد التي تغصّ بمخيمات اللاجئين السوريين المتناثرة على الجغرافيا اللبنانية.
تقافزت إلى مخيلة الغضبان، وهو يحكي لـ”نون بوست” تفاصيل أيامه الأولى في لبنان، مشاهدُ تلك الحياة، قائلًا: “منذ أيامي الأولى في لبنان اتّجهت للبحث عن عمل مرتبط بمجالي الطبي (الصحة العامة)، لكن فشلت في إيجاد ذلك العمل بعد بحث متواصل لـ 4 أشهر، بسبب ضياع أوراقي الرسمية وشهاداتي التي فُقدت بعد استهداف منزلي في سوريا”.
ويكمل: “ثم وجدت نفسي متّجهًا إلى سوق الخضروات للعمل فيه بالبيع والشراء بهدف إعالة أسرتي، حينها كنت فارغ الجيوب ومن دون مأوى لأني تركت كل شيء وراءي في مدينتي سرغايا، لقد كانت أيامًا ثقيلة”.
لعل الصدفة هي ما حملت الغضبان للعمل كمتطوع ضمن إحدى منظمات الإغاثة والتنمية في مخيمات اللاجئين السوريين بالبقاع الأوسط والغربي في لبنان، إلا أنه لم يلبث في عمله إلا 3 أشهر فقط بسبب توقف الدعم عن المنظمة، أشهر ثلاث كانت كفيلة برسم مشهد متكامل للوضع الطبّي المتردّي في مخيمات اللاجئين السوريين في لبنان.
عاد الغضبان إلى عمله القديم في بيع الخضروات ولكن في دكان صغير، في حين ظلّت مأساة اللاجئين الطبية عالقة في ذهنه، خاصة أنه لاحظ ضعف الخدمات الصحية، فقرر توظيف خبرته الطبية وتخصيص ساعتَين أو 3 للمرور على المخيمات ومساعدة قاطنيها عبر إنشاء عيادة في أي خيمة، وتقديم العلاج المجاني لهم.
يروي الغضبان لـ”نون بوست” رحلة البدء بمساعدة قاطني المخيمات: “في كل مرة كنت أتخذ إحدى الخيام كعيادة مؤقتة لمداواة المرضى، وتقديم الاستشارات لهم وتوصيف حالتهم المرضية بناءً على خبرتي الطبية، جرّاء ما شاهدته سابقًا من حاجة ماسّة لعلاج هؤلاء، وهذا ما أطلق عندي شرارة مشروع “عيادة متنقّلة” لمداواة قاطني المخيمات”.
ولفت إلى أن الخبرات التي اكتسبها في معالجة الإصابات والحالات الخطيرة في سوريا، كانت كفيلة بمعاينة مرضى المخيمات التي لا تقارن أمراضهم وحالاتهم أمام ما رآه وعاينه في سوريا.
المشروع عبارة عن عيادة متنقّلة تجوب المخيمات السورية والعديد من الأحياء اللبنانية الفقيرة التي يعيش فيها السوريون واللبنانيون
ساعد الغضبانَ في نجاح فكرته عملُه السابقُ كمتطوع، إذ استطاع بناء علاقات مع أطباء وممرضين ومتطوعين طبيين ليُطلق بالتعاون معهم ومع جهات أخرى مشروع “إندلس ميديكال أدفانتج” عام 2018، واختصاره بـ EMA، وبدأ بالتطور والانتشار شيئًا فشيئًا.
والمشروع عبارة عن عيادة متنقّلة تجوب المخيمات السورية والعديد من الأحياء اللبنانية الفقيرة التي يعيش فيها السوريون واللبنانيون، بهدف تقديم العلاج وتوفير الاستشارات الطبية وتشخيص الأمراض وتوجيه الحالات المرضية إلى المستشفيات والجمعيات التي تُعنى بالجانب الطبي، متحدّية ظروف الدعم القليل المقدَّم لها.
بدأت العيادة بتغطية 7 مخيمات، ثم وصلت لتغطية 40 مخيمًا من أصل 370 مخيمًا في مناطق متفرقة بسهل البقاع للاجئين السوريين، إضافة إلى تغطيتها بعض الأحياء السكنية اللبنانية مقابل رسوم رمزية جدًّا، كما استطاعت مؤخرًا وإلى جانب خدماتها الطبية من استشارات ومعاينات وتقديم أدوية حسب المستطاع، تقديمَ العلاجات الفيزيائية وعلاجات الأسنان، خاصة أن علاج الأسنان في لبنان باهظ الثمن.
يرى الغضبان أن هناك ليونة في الخطة اليومية لعمل العيادة، إذ تنطلق من التاسعة صباحًا حتى الخامسة مساء، معتمدة على عدد المرضى وعدد الاتصالات الواردة، ثم تتمركز في نقطة قريبة من كل الاتصالات والحالات، وهكذا تنتقل من مخيم إلى آخر، حتى باتت تغطّي يوميًّا 200 حالة من الأطفال وكبار السن من اللاجئين السوريين والمجتمع المضيف لهم من اللبنانيين، الذين زاد عددهم بشكل عام بالفترة الأخيرة.
ولم يقتصر عمل العيادة على المعاينات الطبية، إذ تُعتبر الاستجابات الطارئة من أولوياتها، حيث قدّمت العيادة خدماتها وقت انفجار مرفأ بيروت في أغسطس/ آب 2020 عبر إسعاف الجرحى ونقل الإصابات الخطيرة، كما كانت العيادة دائمة الحضور في المخيمات خلال فترات الفيضانات والسيول لتقديم الإسعافات والمساعدات الطبية.
يلفت الغضبان إلى أنه “بسبب عدد المخيمات الكبير والدعم المحدود لا نستطيع تلبية الاحتياجات كلها، لأن الاحتياجات كبيرة جدًّا وأكثر مما يمكن لعيادتنا الصغيرة تقديمه خاصة في آخر سنتَين بسبب الأزمة الاقتصادية في لبنان، وغلاء التنقلات والأدوية والطبابة وأجور المشافي، وعدم وجود أسرّة كافية للمرضى”.
وأقامت العيادة العديد من دورات التوعية الصحية، ودورات إسعافات أولية، وباتت أكثر من 30 عائلة على برنامج مساعداتها، إذا عملت على مساعدتها في دفع أجرة بيوتها أو خيامها، لأن بعض الخيام مأجورة في لبنان، ولا يقدر قاطنوها على دفع أجرتها وتحمّل مصاريف المعيشية القاسية، لكنّ “هناك عددًا كبيرًا جدًّا غير قادرين على الوصول إليهم بسبب إمكاناتنا الضعيفة”، يستدرك الغضبان.
وتساند الغضبان عائلته (وهو أب لـ 5 أطفال)، إذ تحوّلت العائلة إلى فريق متطوع في بيته الصغير الذي يشهد إقبالًا كبيرًا من المرضى، من خلال الاتصالات الهاتفية التي لا تتوقف، وزيارات المرضى في النهار والليل عند وجود حالات طارئة، فيما بات الغضبان يتعمّد العمل أمام أولاده كي يعتادوا ثقافة مساعدة الآخر والبذل والعطاء، حسب تعبيره.
ويسعى الغضبان لتوسيع مشروع العيادة المتنقّلة، وتغطية أكبر عدد من المخيمات في سهل البقاع وخارجه، بهدف مساعدة الأشخاص الذين يعيشون ظروفًا قاسية، إلا أنهم كفريق طبي يواجهون صعوبات عديدة، أبرزها عدم وجود أجهزة تحليل، حيث يضطر فريقه الاعتماد في تشخيص المرض على إعطاء أدوية للمرضى وانتظار النتائج.
يسعى الغضبان إلى الحصول على استثمار في مشروعه بما يمكنه من توسيع خدماته، إن لناحية زيادة عدد المرضى المستفيدين أو لطبيعة المساعدة الطبية التي يقدمها، إلا أن حلمه الأكبر -حسب قوله- هو العودة إلى موطنه سوريا بظروف أفضل، وإعمار بيته مجددًا وزراعة أرضه، إضافة إلى تطوير عمله الطبي هناك، وتقديم خدمات مماثلة كالتي يقدّمها في لبنان.