استيقظ المصريون في 7 يوليو/تموز الحاليّ على خبر منشور بالجريدة الرسمية للبلاد بشأن إصدار الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي قرارًا بتعيين المستشار صلاح محمد عبد المجيد يوسف، نائبًا لرئيس المحكمة الدستورية العليا، دون أي تفاصيل تذكر بخصوص هوية النائب الجديد في هذه الوظيفة الحساسة.
الخبر لم يلفت أنظار الكثيرين بداية الأمر، في ضوء الصلاحيات الممنوحة للرئيس التي تخول له إجراء بعض التعديلات والتعيينات داخل المؤسسات القضائية، لكن المفاجأة كانت عند أدائه اليمين القانونية أمام الجمعية العامة للمحكمة في 17 من الشهر، حين تكشف أن النائب الجديد هو اللواء صلاح الرويني، رئيس هيئة القضاء العسكري، لتكون السابقة الأولى من نوعها أن يعين جنرال ضمن تشكيل المحكمة منذ إنشائها عام 1979، بل وأن يصبح نائبًا للرئيس في خطوة أثارت الكثير من التساؤلات.
وقد شهدت السنوات التسعة الأخيرة تمددًا لنفوذ المؤسسة العسكرية داخل كافة مؤسسات الدولة، لكن ظل القضاء الساحة الأقل تأثرًا بتلك التحولات في ضوء السياج القانوني الدستوري الذي يحيط بها ويمنحها الاستقلالية – ولو نظريًا -، لكن مع هذا القرار تعززت العسكرة داخل القضاء، إذ لم يعد بالمستبعد أن يهمين اللواءات بدلًا من القضاة على المؤسسات القضائية الكبرى: المحكمة الدستورية ومحكمة النقض ومجلس الدولة.
على عكس الأعراف والتقاليد
وفقًا للمادة 204 من الدستور المصري، فإن القضاء العسكري هيئة تابعة للقوات المسلحة ولا علاقة لها بالقضاء المدني، كما أنه لا يجوز محاكمة المدنيين أمام القضاء العسكري إلا في القضايا المتعلقة بالاعتداء على أي من أفراد الجيش أو المنشآت العسكرية، رغم المناشدات والضغوط الممارسة لئلا يحاكم أي مدني أمام القضاء العسكري مهما كانت التهم وأن يكون ذلك أمام مؤسسات القضاء المدني العادية، وهي الضغوط التي لا تستجيب لها السلطات الحاليّة.
أما قانون المحكمة الدستورية العليا فوضع شروط صارمة لتعيين أعضائها من رجال القانون أبرزها أن يكونوا من العاملين بهيئة المفوضين بالمحكمة والمختارين من جهات قضائية أخرى، أو من أساتذة القانون الجامعيين، أو من المحامين المشتغلين أمام الإدارية العليا ومحاكم النقض، بجانب ألا تقل أعمارهم عن 45 عامًا.
جاءت التعديلات الدستورية التي أقرت في 2019 لتلقي بظلالها القاتمة على المشهد القضائي، فبجانب المادة الأكثر جدلًا الخاصة بالتمديد للسيسي رئيسًا حتى عام 2030، فهناك مواد أخرى لا تقل كارثية عن تلك المادة، على رأسها تلك التي تهدد استقلال القضاء وتجعله مؤسسة خاضعة للسلطة الحاكمة
ولم يسبق أن صدر قرار بتعيين أعضاء داخل المحكمة الدستورية من خارج السلك القضائي، إذ كان الأمر محصورًا في نقل قضاة من جهات قضائية إلى جهات أخرى، باستثناء حالتين فقط: الأولى في 2003 حين أصدر الرئيس الأسبق حسني مبارك قرارًا بتعيين المحامية بالنقض، تهاني الجبالي نائبة لرئيس المحكمة الدستورية، والثاني في 2020 بتعيين السيسي الأكاديمية فاطمة الرزار نائبة لرئيس المحكمة.
أما بخصوص النائب الجديد، اللواء الرويني، فهذا الاسم لم يكن معروفًا لدى الشارع المصري قبل 2018، حين تناقلت وسائل الإعلام عنه – بصفته المدعي العام العسكري – قراره بحظر النشر في قضية رئيس أركان حرب القوات المسلحة الأسبق، الفريق سامي عنان، الخاصة بترشحه للرئاسة دون موافقة القوات المسلحة، ثم عين بعد ذلك ضمن المجلس الأعلى للجهات والهيئات القضائية المشكل في أكتوبر/تشرين الأول 2021.
مجلس الدولة.. على قائمة الانتظار
يبدو أن المحكمة الدستورية لن تكون الضحية الوحيدة للهيمنة، بحسب صفحة “الموقف المصري” المعارضة، التي ترى أن هناك مخططًا لإفساد “مجلس الدولة” أحد أركان المؤسسات القضائية الثلاثة، الذي يفترض أن يقوم بدور الرقيب على الحكومة في كل قراراتها، ما دفعه للدخول في الكثير من المعارك السياسية مع الدولة عبر قرارتها وتشريعاتها.
ورغم الأدوار التاريخية التي قام بها مجلس الدولة في العديد من المواقف أشهرها أزمة مارس/آذار 1954، فإن الموقف الأبرز له كان في 26 يونيو/حزيران 2016 حين حكمت المحكمة ببطلان اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية التي بموجبها تنازلت الدولة المصرية عن جزيرتي تيران وصنافير.
وبعد الطعن المقدم من الحكومة حينها جاء حكم المحكمة الإدارية العليا الصادر في يناير/كانون الثاني 2017 تاريخيًا هو الآخر، إذ جاء في نصه أن: “المحكمة قد وقر واستقر في عقيدتها أن سيادة مصر على جزيرتي تيران وصنافير، مقطوع بها، وأن دخول الجزيرتين ضمن الأراضي المصرية أثر للسيادة المستقرة، وأن الحكومة لم تقدم ثمة وثيقة أو شيء آخر يغير أو ينال من تلك السيادة المستقرة”، ومن هنا بدأت الحرب على المجلس.
السنوات الأربعة الأخيرة بدأ اسم المجلس يتردد كثيرًا في الإعلام، لكنه التردد السلبي، حيث تسليط الضوء على الجرائم المتورط فيها أعضاء ينتمون لهذا الكيان، كان على رأسهم قضية المستشار وائل شلبي، أمين عام المجلس، الذي قيل إنه انتحر بعد القبض عليه في قضية رشوة في 2017، ومؤخرًا قضية نائب رئيس المجلس، أيمن حجاج، المتهم بقتل زوجته الإعلامية شيماء جمال، بجانب تورطه في جرائم غسيل أموال وتربح من وظيفته.
وكان أول تحرك سلطوي رسمي للانتقام من استقلالية المجلس، الإطاحة بالمستشار يحيى الدكروري (القاضي الذي حكم بمصرية تيران وصنافير) من التعيين كرئيس لمجلس الدولة بحكم المتعارف عليه وقتها وفق الأقدمية بعد المستشار محمد حامد الجمل، ورغم أن المجلس تقدم باسمه فقط كمرشح وحيد لرئيس الجمهورية للموافقة عليه، لكن وفي لمح البصر تم إجراء بعض التعديلات على قانون الهيئات القضائية يسمح للرئيس بتعيين من يراه مناسبًا، وبالفعل لم يكن الدكروري الشخص المناسب، الذي طعن على قرار عدم تعيينه أمام الدستورية العليا والمحكمة الإدارية لكن دون أي نتيجة.
التعديلات الدستورية
جاءت التعديلات الدستورية التي أقرت في 2019 لتلقي بظلالها القاتمة على المشهد القضائي، فبجانب المادة الأكثر جدلًا الخاصة بالتمديد للسيسي رئيسًا حتى عام 2030، فهناك مواد أخرى لا تقل كارثية عن تلك المادة، على رأسها تلك التي تهدد استقلال القضاء وتجعله مؤسسة خاضعة للسلطة الحاكمة.
وكان من مظاهر التغول على السلطة القضائية في تلك التعديلات تشكيل مجلس أعلى للجهات والهيئات القضائية برئاسة السيسي، مسؤوليته تعيين وترقية وندب القضاة، فضلًا عن النظر في القوانين المقترحة لتنظيم عمل الهيئات القضائية، كما تمنح الرئيس صلاحيات غير مسبوقة تتمثل في اختيار النائب العام من بين ثلاثة مرشحين، بعد أن كان الاختيار من حق المجلس الأعلى للقضاء، كذلك حق اختيار رئيس المحكمة الدستورية الذي كان يُعين بالأقدمية المطلقة.
“المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، وإنما سيتبعها تعيين قضاة عسكريين آخرين في المحكمة الدستورية”
التعديلات تضمنت كذلك تقليص صلاحيات القضاء الإداري فيما يتعلق بمراجعة وصياغة مشروعات القوانين والقرارات التي تتخذها السلطة التنفيذية والتشريعية، إذ تم حذف سلطة الصياغة على أن تكتف بصلاحية المراجعة فقط، وهو ما يقوض نفوذ المؤسسة برمتها لصالح السلطة والرئيس.
وقد قوبلت تلك التعديلات بموجة غضب عارمة سواء من بعض المؤسسات القضائية التي رأت في تلك الإجراءات “مذبحة للقضاء المصري”، أم من الحقوقيين والنشطاء ممن يعتبرون تلك التعديلات تغولًا واضحًا على مبدأ الفصل بين السلطات ومخططًا مكتمل الأركان للهيمنة على مفاصل الدولة وكل مؤسساتها لترسيخ الحكم الحاليّ.
استقلال القضاء في مهب الريح
“المرة الأولى، ولن تكون الأخيرة، وإنما سيتبعها تعيين قضاة عسكريين آخرين في المحكمة الدستورية”.. بهذه الكلمات أكد النائب الأول الأسبق لرئيس محكمة النقض، أحمد عبد الرحمن، أن خطة تضمين جنرالات داخل الهيئات القضائية ستستمر ولن تتوقف، مضيفًا في حديثه لـ”مدى مصر” أن التعديلات الدستورية الأخيرة حولت القضاء العسكري من مؤسسة تابعة للجيش إلى جزء من السلطة القضائية، وبالتالي فإن أعضاءها يعاملون كباقي أعضاء الكيانات القضائية الكبرى، وعليه لهم الحق في التعيين بالمحكمة الدستورية وهيئة المفوضين، بل ورئاستها أيضًا، على حد قوله.
وعن تأثير هذا التطور على مستقبل القضاء المصري، نقل الموقع عن رئيس إحدى دوائر المحكمة الإدارية العليا، فضّل عدم ذكر اسمه، أن تعيين الجنرالات داخل المؤسسات القضائية سينهي بشكل رسمي أي حديث عن استقلال القضاء، فالمؤسسة التي ينخرط بداخلها عسكريون لا يمكنها أن تكون مستقلة.
وأضاف أن القضاة العسكريين يعينهم وزير الدفاع الذي يعينه رئيس الجمهورية، كما أن تعيين رؤساء المحكمة الدستورية ومجلس الدولة ومحكمة النقض بات من صلاحيات الرئيس، وعليه فإن أي كلام عن الاستقلالية والفصل بين السلطات حديث عابر لا وجود له، بل ربما تزداد الأمور سوءًا مع توجه عسكرة تلك الهيئات بما لذلك من تهديد واضح ومخاطر كبيرة على مسار العدالة في مصر وصورتها خارجيًا، الرأي ذاته اتفق معه رئيس مركز استقلال القضاء والمحاماة، ناصر أمين، الذي يصف تعيين عسكري نائبًا لرئيس المحكمة الدستورية بأنه “أمر خطير يهدد طبيعة المحكمة ودورها”.
في المجمل، بات من الواضح أن اللواء صلاح الرويني لن يكون الجنرال الأخير الذي يطئ بأقدامه الهيئات القضائية المدنية، وسط تخوفات من تكرار السيناريو في بقية الكيانات الأخرى، ما يعني أن استقلالية المؤسسة القضائية – حتى إن كانت مجرد شعارات نظرية – لن يكون لها وجود مستقبلًا، لتجد العدالة في مصر نفسها في مأزق كبير يزيد من الوضعية الحقوقية الكارثية للدولة التي تواجه بطبيعة الحال انتقادات دولية بسبب سجلها المشين في هذا الشأن.