ترجمة وتحرير: نون بوست
على جدار مكتب سافاش ماهسيريتشي توجد صورة لوالده وجدّه بالأبيض والأسود وهما يصنعان نعال الأحذية من إطارات الجرارات المعاد تدويرها. تقع الغرفة في الطابق العلوي من مصنعه في ضواحي مدينة غازي عنتاب، وهي مدينة يبلغ عدد سكانها مليوني نسمة تقع في جنوب شرق تركيا بالقرب من الحدود مع سوريا.
مثل أسلافه، يعمل ماهسيريتشي في مجال إعادة التدوير. وتتخصص شركة عائلته “إم تي إم بلاستيك” في تصنيع أكياس القمامة والقفازات والكريات ذات الاستخدام الواحد لاستخدامها في المنتجات المقولبة. وسرعان ما نمت أعمال الشركة ومصنعها الآن يمسح ضعف ما كان عليه في سنة 2004 بـ 20 مرة، وبدأت في التصدير في سنة 2016. ويقول ماهسيريتشي إن اختناقات العرض في الصين تمثل “فرصة كبيرة”. كما تستفيد – حسب ماهسيريتشي – شركات صناعية أخرى في غازي عنتاب، حيث شهدت المدينة صادرات قياسية السنة الماضية.
يجد المراقبون الخارجيون صعوبة في تصديق روايات ازدهار الأعمال التجارية التركية. فمنذ سنة 2018، ظلت البلاد تعاني من أزمة العملة بعد أن تخلى المستثمرون الأجانب عن السندات والأسهم التركية، مما أدى إلى تراجع قيمة الليرة التركية.
ورغم ارتفاع معدل التضخم إلى 80 بالمئة (انظر الرسم البياني 1)، استمر الاقتصاد في العمل بطريقة ما. في المناطق المليئة بالحيوية من إسطنبول، على بعد 1100 كيلومتر غرب مدينة غازي عنتاب عن طريق البر، تظهر جميع المؤشرات مدينة ضخمة تزدهر فيها الأسواق الناشئة: ركاب صاخبون، ومحلات تجارية جيدة التجهيز، وطرق مزدحمة.
تمثّل مرونة الاقتصاد التركي لغزًا، خاصة بالنظر إلى أنه كان من بين الاقتصادات الكبيرة القليلة التي تمكنت من النمو في سنة 2020. ارتفع الناتج المحلي الإجمالي السنة الماضية بشكل جيد بنسبة 11 بالمئة، وتظهر الأرقام الأخيرة أن الإنتاج الصناعي ارتفع بنسبة 9.1 بالمئة في السنة حتى شهر أيار/ مايو. وقد فاجأت هذه المؤشرات حتى رجال الأعمال المخضرمين.
في قلب هذا اللغز تكمن لعبة شد الحبل بين قوتين: ديناميكية الأعمال التي تدفع الاقتصاد التركي إلى الأمام، والسياسات غير المنتظمة التي تقوّضه. وتحت ضغط من الرئيس رجب طيب أردوغان، أبقى البنك المركزي أسعار الفائدة منخفضة بشكل غير مبرر في مواجهة ارتفاع التضخم. ولكن هذا القرار غير حكيم بشكل خاص لأن تركيا تعاني من ضعف الادخار وتحتاج إلى جذب رأس المال الأجنبي لتغطية العجز المستمر في حسابها الجاري، وهو مقياس واسع للميزان التجاري (انظر الرسم البياني 2).
كما تعتبر تركيا مستوردا للطاقة، وتحديدا الغاز الذي تمدها به في الغالب روسيا وإيران. وعندما ترتفع أسعار الطاقة، يزيد عجز الميزان التجاري والحاجة إلى رأس المال الأجنبي. حتى الآن، تفوقت الديناميكية على الهشاشة والسياسة السيئة. ولكن هناك مؤشرات على أن عدم الاستقرار المالي في تركيا يلوح في الأفق. وقد لجأت السلطات إلى اتباع إجراءات يائسة للمحافظة على مخزون البلاد المتناقص من النقد الأجنبي ودعم الليرة، لكن الائتمان يتراجع والاستثمارات باتت معلقة.
لقد ترك التضخم الجامح الكثير من الناس يكافحون لتغطية نفقاتهم. تنتظر أردوغان انتخابات رئاسية وبرلمانية في حزيران/ يونيو 2023 على أبعد تقدير، وهو لا يحظى بتأييد كبير في استطلاعات الرأي. وبعد أن هيمن على السياسة التركية على مدار عقدين من غير المرجح أن يرحل بهدوء. ومن المرجح أن تواجه البلاد في الأشهر المقبلة تقلبات اقتصادية وسياسية.
من الازدهار إلى الغرابة
لفترة من الوقت، كانت تركيا تتمتع بالاستقرار الاقتصادي الكلي الذي أصبح بعيد المنال حاليا. كانت الإصلاحات التي أجريت بعد أزمة 2001 تحويلية. وتمحورت أبرز التغييرات حول منح البنك المركزي قدرًا أكبر من الاستقلال سعيا وراء خفض معدل التضخم. كما فرضت القوانين الجديدة قيودًا على الإنفاق العام وتم فتح المشتريات الحكومية أمام العطاءات التنافسية. عندما وصل أردوغان إلى السلطة سنة 2003، تبنى السياسات الجديدة، مما أدى إلى انخفاض التضخم إلى واحد بالمئة، وبدأ الناتج المحلي الإجمالي في النمو وانتعشت الإنتاجية.
لكن بمرور الوقت تلاشى زخم الإصلاح الاقتصادي. استسلم البنك المركزي للضغوط السياسية وفقد الأمل في تحقيق هدفه المتعلق بالتضخم. وانطلق أردوغان في إنجاز مشاريع البنية التحتية الكبرى. تم تقويض قانون المشتريات، وسُلّمت عقود البناء إلى المقربين. وحلت طفرة البناء محل التصنيع القائم على التصدير كمحرك للاقتصاد. وفي الواقع، يعتبر البناء صناعة منخفضة الإنتاجية، وبالتالي انخفضت جودة نمو الناتج المحلي الإجمالي. أصبحت أسعار الفائدة هشة – وربما يكون هذا أحد أسباب إصرار أردوغان على إبقائها منخفضة.
أبقى عقد من المال السهل وفائض المدخرات العالمية بعد سنة 2008 خط الائتمان الدولي لتركيا مفتوحًا. ولكن كانت هناك مخاوف تتعلق بميزان المدفوعات، على غرار ما حدث أثناء ما يُعرف بـ “نوبة الغضب التدريجي” لسنة 2013، عندما أثار احتمال تشديد السياسة النقدية في الولايات المتحدة أزمة مصغرة في الأسواق الناشئة.
تمتلك تركيا تاريخا من التضخم المرتفع. وقد أصبح أصحاب الأعمال خبراء في التلاعب بالأمور المالية
بحلول صيف سنة 2018، أدى إصرار أردوغان على أن أسعار الفائدة المرتفعة كانت سبب ارتفاع التضخم، وليس علاجًا له، إلى هروب رأس المال الأجنبي. وبدأت قيمة الليرة التركية في الانهيار بشكل حاد (انظر الرسم البياني 3).
هكذا تلاشى ما تبقى من استقلال البنك المركزي، بعد أن أقال أردوغان ثلاثة محافظين في غضون سنوات. في الأشهر الأخيرة من سنة 2021، تم تخفيض أسعار الفائدة بمقدار خمس نقاط مئوية لتصل إلى 14 بالمئة. وقد تعرضت الليرة لضغوط متجددة، حيث ارتفع معدل التضخم منذ ذلك الحين من حوالي 20 بالمئة إلى 80 بالمئة. لكن أردوغان لم يتأثر وصرح مؤخرا بأن من يصرون على الربط بين أسعار الفائدة والتضخم “إما أميّون أو خونة”.
في خضم مثل هذه الفوضى، من اللافت للنظر أن الاقتصاد لم يتزعزع. يرجع جزء كبير من ذلك إلى العديد من نقاط القوة التجارية التي تتمتع بها تركيا. فلديها سوق محلي كبير يبلغ 85 مليون مستهلك معظمهم من الشباب، وكانت البلاد منذ فترة طويلة نقطة انطلاق للتجارة بين الشرق والغرب. كما أن ثقافة الأعمال في الدولة لها جذور عميقة، حيث أن نسبة السكان الذين يطمحون إلى أن يصبحوا رواد أعمال عالية وفقًا للمعايير الدولية.
تنقسم المشاريع في تركيا إلى ثلاثة أنواع، أولها الشركات الكبرى أو التكتلات التجارية التي تستأثر بربع العمالة ونصف القيمة المضافة لقطاع الأعمال، وبعضها مشاريع مشتركة مع شركات أوروبية. وهي أفضل مصنّع للسلع الرأسمالية عالية الجودة وقطع غيار السيارات والمعدات العسكرية الموجهة للتصدير. وتقترب هذه الشركات التركية من مستويات الإنتاجية الألمانية. ثانيا، الشركات الصغرى غير المسجلة ذات إنتاجية منخفضة، ثم الشركات العائلية متوسطة الحجم، التي يكون بعض العاملين فيها مسجلين في حين أن البعض الآخر ليسوا كذلك.
ثقافة الأعمال في الدولة لها جذور عميقة، حيث أن نسبة السكان الذين يطمحون إلى أن يصبحوا رواد أعمال عالية وفقًا للمعايير الدولية.
يساعد هذا الهيكل في تفسير ازدهار الأعمال التركية، حيث يتم إدارة العديد من الشركات الكبرى وتنويع أنشطتها بشكل متحفظ عبر الصناعات وأسواق التصدير، مما يمنحها مرونة داخلية. وتعد شركة “كوتش” القابضة بمثابة أكبر تكتل تجاري، وهي تضم أربعة أقسام رئيسية: السيارات وقطع الغيار (في مشاريع مشتركة مع شركة “فورد” و”فيات”)، والسلع البيضاء، وتكرير النفط والخدمات المصرفية. وهناك أيضا شركة “سابانجي” القابضة المتخصصة في تجارة التجزئة والطاقة وصناعة الإسمنت والبنوك والتصنيع.
برزت بعض أفضل الشركات العائلية التركية متوسطة الحجم بعد سنوات من التقلبات الاقتصادية. تمتلك تركيا تاريخا من التضخم المرتفع. وقد أصبح أصحاب الأعمال خبراء في التلاعب بالأمور المالية. وكان لدى الشركات الوقت للتكيف مع الليرة الضعيفة منذ سنة 2018 وخفض العديد من ديونهم الدولارية.
عملت الشركات الصغرى على التكيف مع تقلبات الاقتصاد بوسائل أخرى. وكان الخط الفاصل بين الشركة والعائلة غير واضح، حيث يتم تجميع المخاطر بين أفراد الأسرة. في كثير من الأحيان، تكون الاستجابة للشدائد هي العمل بجدية أكبر. أربعة أخماس القوة العاملة يقضون أكثر من 40 ساعة في الأسبوع في وظيفتهم الرئيسية، وهي واحدة من أعلى النسب في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية – على الرغم من أن ساعات العمل الطويلة تعوض عن انخفاض إنتاجية العمالة. وتتمثل الإستراتيجية الأخرى للشركات الصغرى والمتوسطة في دفع الأعمال إلى الاقتصاد الرمادي، حيث لا تواكب الأجور في كثير من الأحيان التضخم أو قوانين الحد الأدنى للأجور.
إسطنبول
إن العمل الجاد والمرونة يساعدان الشركات على الاستمرار، لكنها تحتاج أيضا إلى الطلب. لقد شكلت قوة الإنفاق الاستهلاكي مفاجأة كبرى في تركيا، بينما كان أثر ارتفاع التضخم برقم واحد كبيرًا على المستهلكين في أوروبا والولايات المتحدة. لم يضعف التضخم المرتفع في تركيا الطلب، وهناك الكثير من النظريات حول السبب، أحدها أن المستهلكين شهدوا انهيار الليرة وعرفوا ما يعنيه ذلك بالنسبة للتضخم في المستقبل، وأخذوا احتياطاتهم تحسبا لارتفاع الأسعار.
تمثّل السلع المعمرة وسيلة للتحوط ضد التضخم، إذ أن السيارات الجديدة أو السلع البيضاء أو الكماليات المستوردة تحتفظ بقيمتها أفضل من الليرة، حتى لو لم تكن ذات سيولة كمخزن للقيمة مثل العملات الذهبية أو سندات الدولار على سبيل المثال. ومع أسعار الفائدة المنخفضة للغاية بالقيمة الحقيقية، يكاد يكون من غير الممكن تجنب الاقتراض لتغطية النفقات.
لا يعد الائتمان المحرّك الوحيد للاقتصاد التركي، حيث يقول أحد الاقتصاديين المقيمين في إسطنبول إن السكان الشباب في تركيا لديهم ميل كبير للاستهلاك من مكاسب الثروة، بينما بالنسبة لأرباب المنازل ميسورة الحال عادة ما يكون جزء كبير من ثرواتهم مقيدا في ودائع وممتلكات بالعملات الأجنبية، التي إما حافظت على قيمتها أو زادت منها.
بالنسبة للشركات التي تبيع منتجاتها بشكل رئيسي في تركيا والتي تشكل المواد الخام المستوردة جزءا كبيرا من تكاليفها الإجمالية، فإن انهيار الليرة يمثل إشكالا بالنسبة لها، لكنها مثّلت أيضا حافزا كبيرا للمصدرين الذين تكون تكلفتهم في الغالب بالليرة وعائداتهم بالعملة الصعبة، إذ أن سعر الصرف الحقيقي (أي المعدل للتضخم النسبي في تركيا وأسواق التصدير) هو أهم عنصر بالنسبة لتنافسية الصادرات، وقد قطعت تركيا شوطا طويلا (انظر الرسم البياني 4).
هناك عوامل أخرى مساعدة للصادرات التركية، حيث أن تكلفة الشحن من تركيا إلى أوروبا أقل بكثير من تكلفة الشحن من الصين، ويمكن شحن البضائع من غازي عنتاب عبر الموانئ المحلية في أقل من 72 ساعة، وفقا لماهسيريتشي، عوضا عن شهر على الأقل لو قدمت من الصين، كما أن الإمداد أكثر موثوقية، وبامكان تركيا أيضا التصدير عبر بحر إيجة أو البحر الأسود.
لكن التضخم المتسارع يفرض تحديات كبيرة حتى على أكثر الأعمال مرونة. أوّل هذه التحديات هو استراتيجية التسعير، إذ أنه من الصعب تحديد طريقة عرض الأسعار. إذا كان السعر مرتفعا جدا، فقد تخاطر بفقدان حصتك في السوق لصالح المنافسين؛ وإذا كان منخفضا للغاية، فقد تجد أنك غير قادر على تغطية تكلفة الاستبدال، ويبدو أن القرارات الصعبة تتضاعف.
يقول أحد رجال الأعمال: “عليك أن تكون مستعدًا للتفاوض مع جميع عملائك وجميع مورديك طوال الوقت، وإنه لأمر متعب للغاية”. بعض الأسعار بطيئة في التكيف، وعلى سبيل المثال، تمتلك نسبة كبيرة من مشتركي الهاتف المحمول عقودا مدتها 12 شهرًا، ولا يزال الكثير منهم محافظا على أسعار السنة الماضية.
يجدر بالشركات حماية نفسها من التضخم من أجل البقاء والنجاة، وهذا يعني غالبًا أن التكلفة تكون على عاتق الآخرين. هذا يخلق توترات بين الملاك والمستأجرين والمتاجر والعملاء والشركات ومورديها، ولا يمكن لأي شركة تحمل تأجيل تسوية فواتير عملائها لفترة طويلة جدًا.
لم يعد القلق الرئيسي للشركات التركية مرتبطا بالتضخم بل بأزمة ائتمان محتملة
وحسب مستثمر مقيم في إسطنبول فإن “شروط الدفع من ثلاثة إلى ستة أشهر تتقلص لتصبح من صفر إلى ثلاثة أشهر”. وهناك أيضا نقاط ضغط أخرى، إذ لم يختف العجز الخارجي لتركيا. من حيث المبدأ، فإن تخفيض قيمة العملة هو العلاج، وذلك من خلال تحفيز الصادرات وسحق الطلب على الواردات. وعلى الرغم من أن تعبئة الصادرات نجحت، إلا أن طلب المستهلك القوي أبقى الواردات عالية.
توقف تدفق رأس المال
يجب على تركيا إما جذب رأس مال أجنبي جديد أو السحب من احتياطياتها الحالية من العملات الأجنبية، وكلاهما أصبح أكثر صعوبة. تدهورت جودة تدفقات رأس المال إلى تركيا بشكل مطرد على مدار العشرين عامًا الماضية، إذ أن الاستثمار الأجنبي المباشر لم يتطابق مع مستويات منتصف العقد الأول من القرن الحادي والعشرين، عندما اتبعت تركيا سياسات أكثر تقليدية (انظر الرسم البياني 5).
ينظر بعض الرؤساء الأوروبيين الآن إلى تركيا على أنها بديل محتمل للصين في سعيهم لتقصير وتنويع سلاسل التوريد الخاصة بهم. وقالت إيكيا السنة الماضية إنها ستنقل إنتاج بعض أثاثها من آسيا إلى تركيا، كما قالت شركة الملابس هيوغو بوس إنها ستزيد عدد العمال في مصنعها في إزمير لتقليل الاعتماد على آسيا.
بشكل عدم الاستقرار النقدي في تركيا والتدهور في الحكم وسيادة القانون عائقا أمام طفرة أخرى في الاستثمار الأجنبي المباشر. لقد تبخّرت تدفقات المحفظة إلى السندات والأسهم التركية وهذا يجعل تركيا أكثر اعتمادًا على القروض المشتركة قصيرة الأجل الممنوحة للبنوك المحلية. ومع ارتفاع أسعار الفائدة في جميع أنحاء العالم، يصعب الحصول على هذه القروض.
بالإضافة إلى ذلك، إن وضع الاحتياطيات محفوف بالمخاطر أيضًا. لقد أنفق البنك المركزي التركي عشرات المليارات من الدولارات في محاولة لدعم الليرة، ويمكن القول إن الاحتياطيات الرسمية من العملات الأجنبية هي في الواقع سلبية إذا تم أخذ المقايضات مع البنوك المحلية بعين الاعتبار. (لا يزال لدى البنك المركزي حيازات من الذهب).
في غضون ذلك، ارتفع طلب القطاع الخاص على الدولار واليورو، وفي ذروتها خلال السنة الماضية تم الاحتفاظ بثلثي الودائع المصرفية بالعملة الأجنبية. يدلّ انعدام السيولة المتزايد في أسواق العملات على أن المصدرين لديهم كل الحوافز لاقتناص الدولار واليورو من مبيعاتهم الخارجية.
تسعى السلطات جاهدة للحد من هذه الدولرة الزاحفة ومنع الليرة من خسارة المزيد من قيمتها من خلال تطبيق خطة منذ كانون الأول/ ديسمبر لتعويض الودائع المحولة من الدولار أو اليورو والليرة من خسائر سعر الصرف. صدرت أوامر للمصدرين الأتراك في كانون الثاني/ يناير بتسليم 25 بالمئة من أرباحهم بالعملة الصعبة إلى البنك المركزي. وقد تم رفع هذا الرقم إلى 40 بالمئة في نيسان/ أبريل. ولم يكن للشكاوى المقدمة من أمناء خزائن الشركات بأنهم بحاجة إلى تعويم من الدولارات واليورو ليتمكنوا من دفع ثمن الواردات الحيوية أو لخدمة الديون أي تأثير.
في دلالة على اليأس المتزايد، صرحت هيئة تنظيم البنوك التركية، في 24 حزيران/ يونيو، بأنها ستحظر القروض على الشركات التي تتمسك بحيازات كبيرة من العملات الصعبة. كانت الغاية من هذا الإجراء منع الشركات من اقتراض الليرة بسعر رخيص للمضاربة بالدولار، مما سبب صدمة في إسطنبول كردّ فعل أولي، وهكذا لم يعد القلق الرئيسي للشركات التركية مرتبطا بالتضخم بل بأزمة ائتمان محتملة.
يقول أحد المسؤولين التنفيذيين إنه إذا تم تطبيق اللوائح بصرامة ستمتنع البنوك عن الإقراض وستضطر الشركات إلى تقليص الإنفاق غير الضروري. قد يكافح البعض حتى للحصول على ائتمان تجاري كافٍ لتمويل رأس مالهم العامل، لكن ذلك قد لا يتحقق أبدا. تشير الشائعات في أنقرة إلى أن البنوك لن تتحمل عبء التحقق مما إذا كان المقترضون يمتثلون فعلا للوائح الجديدة.
تتوخى الشركات الحذر ويتم تعليق الاستثمارات الكبرى. يقول مصرفي استثماري: “الجميع ينتظر الانتخابات”. من الواضح أن حزب العدالة والتنمية يقف وراء تحالف من ستة أحزاب معارضة في استطلاعات الرأي، وهو يتقدم في استطلاعات الرأي ضد مرشحي المعارضة للرئاسة، ومن شأن هزيمته أن تكون طريق العودة إلى الأرثوذكسية النقدية.
قد يكون ترويض التضخم مهمة كبيرة ومؤلمة، لكن تجربة تركيا بعد سنة 2001 تُظهر أنه يمكن تحقيق ذلك من خلال السياسات الصحيحة. يمكن للاستثمار الأجنبي المباشر أن ينتعش للاستفادة من موقع تركيا كمركز تصنيع منخفض التكلفة على أعتاب أوروبا، إذ يعدّ الانتعاش في سوق الأسهم أمر ممكنا بالنظر إلى مدى رخص أسعار الأسهم التركية.
قبل حدوث ذلك، قد تدخل أزمة سعر الصرف مرحلة جديدة أكثر قابلية للتفاقم. بمجرد انتهاء الصيف، وتلاشي دفعة عائدات السياحة بالعملة الصعبة، يمكن أن تتدهور الأمور أكثر. تجمعت شريحة من الودائع المحمية بالليرة في نهاية شهر آب/ أغسطس، لكن الدولة لديها 6 مليارات دولار من مدفوعات الديون الخارجية المستحقة في النصف الثاني من هذا العام، وذلك وفقا لبنك مورغان ستانلي، بينما الشركات الكبرى والبنوك لديها 23 مليار دولار مستحقة السداد. قد يبدو أن تجديد كل هذه الديون بالكامل أمر غير ممكن، مع ذلك، يجب زيادة مخزون النقد الأجنبي المتناقص – أو إدارته. وفي أسوأ السيناريوهات، قد يتم وضع قيود على عمليات سحب ودائع الأسر بالدولار.
ربما سيتعثر الاقتصاد إلى حين انعقاد الانتخابات، وعلى الرغم من غرابة نهج أردوغان المعتمد في السياسة النقدية، إلا أن سياسته المالية كانت متحفظة للغاية. بلغت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي 41.6 بالمئة من إجمالي الناتج المحلي السنة الماضية، وهذا أقل بشكل مريح من عبء الديون الذي يعاني منه أقران تركيا في الأسواق الناشئة. وبالنظر إلى مخاطر الملاءة المالية المنخفضة في البلاد، ربما يرسل أصدقاء تركيا في الخليج بعضا من دولاراتهم البترولية.
لقد صمدت تركيا في وجه بعض الضغوطات الهائلة، والآن تركز الشركات التركية أكثر من أي وقت مضى على الصمود. يولد التضخم عدم اليقين وعدم اليقين يولد الحذر، وهذا ما أكده أحد رجال الأعمال بقوله إنه عليك الاستمرار في فعل الأشياء التي يجب عليك فعلها، ويمكن للباقي الانتظار، “وهكذا تصمد لتعيش يومًا آخر”.
المصدر: ذي إيكونوميست