يتوجه ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، إلى اليونان، الثلاثاء 26 يوليو/تموز 2022، في زيارة تستغرق يومين، هي الأولى له لبلد أوروبي منذ مقتل الصحفي السعودي المعارض جمال خاشقجي في مقر قنصلية بلاده بإسطنبول، أكتوبر/تشرين الأول 2018.
تأتي الزيارة التي من المقرر أن يلتقي خلالها رئيس الوزراء اليوناني كيرياكوس ميتسوتاكيس، بعد أيام قليلة من زيارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، للمملكة وحضوره القمة الخليجية العربية التي عُقدت في جدة (غرب) 15 و16 الشهر الحاليّ، ومن قبلها زيارة ابن سلمان لأنقرة ردًا على زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للرياض.
جدول أعمال الزيارة لا يخرج عن الملفات الملحة التي فرضت نفسها على الأجواء خلال الآونة الأخيرة وعلى رأسها الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها على الاقتصاد العالمي خاصة فيما يتعلق بمساري الطاقة والأمن الغذائي، بخلاف الملف اليمني وجهود التوصل لحل سياسي شامل، إضافة إلى تعزيز التعاون الاقتصادي والعسكري بين البلدين.
اختيار ولي العهد السعودي لليونان تحديدًا – التي تعاني من توتر في علاقاتها مع أنقرة التي تسير نحو تحسين الأجواء مع الرياض مؤخرًا – كمحطة أولى له أوروبيًا، لم يكن اختيارًا عشوائيًا، ما أثار الكثير من التساؤلات عن الرسائل والدلالات التي تبعث بها تلك الزيارة وانعكاساتها على العلاقات السعودية الأوروبية بصفة عامة ومسافات التقارب مع تركيا على وجه الخصوص.
زيارة الطمأنة ورد الجميل
بذلت أثينا جهودًا كبيرةً في محاولة كسر العزلة الإجبارية التي فرضت على ولي العهد منذ 2018 وحتى بداية العام الحاليّ، وذلك من خلال تبادل الزيارات واللقاءات بين البلدين، أبرزها زيارة رئيس الوزراء للرياض في فبراير/شباط 2020 ولقائه ابن سلمان.
وقد شهدت العلاقات بين البلدين خلال الأعوام الثلاث الأخيرة تحديدًا تناميًا لم تشهده منذ عقود طويلة، وهو التنامي الذي أرجعه البعض لسببين رئيسيين: الأول إنهاء العزلة الغربية وفتح نوافذ دبلوماسية مع بعض الدول الأوروبية، أما الثاني فهو الضغط على أنقرة بعد تصعيدها إزاء المملكة في ملف خاشقجي وإصرارها على محاسبة المتورطين في تلك القضية وعلى رأسهم ولي العهد حسب نتائج التحقيقات التي أجرتها النيابة التركية بالتعاون مع نظيرتها الأمريكية.
وبينما كان العالم يدير ظهره للرياض ممثلة في حاكمها الفعلي، الأمير الشاب (المنشار كما كان يلقب في الإعلام الغربي) الذي كان منبوذًا من الجميع تحت وطأة الضغوط الحقوقية الدولية، كانت اليونان وقبرص الدولتين الأوروبيتين الأبرز في مد يد العون والدعم الكامل لابن سلمان في أزمته تلك.
خلال تلك الفترة أبرم البلدان عشرات الاتفاقيات في مجالات التعاون كافة، التجارة والطاقة والاستثمار والنقل البحري، فيما فتح السوق السعودي أبوابه لأكثر من 14 شركة يونانية للاستثمار في مجال الطاقة المتجددة والتشييد والبناء والسياحة والاتصالات وتقينة المعلومات، وتبنت المملكة وقتها إستراتيجية لتعزيز الاستثمار في السوق اليوناني بقيمة 3 تريليونات يورو.
التعاون العسكري.. نقطة الانطلاق
كان التعاون العسكري بين البلدين خلال الفترة الأخيرة كلمة السر في تعزيز التقارب بينهما، وهو التحول الذي فُهم حينها على أنه يأتي ضمن إستراتيجية “مناكفة تركيا” التي كانت تتبعها المملكة انتقامًا من موقف أنقرة إزاء قضية خاشقجي، التي أخذت منحى عرض مستقبل ولي العهد للخطر بعدما شُوهت سمعته دوليًا في ضوء التفاصيل الكارثية التي تضمنتها جريمة القتل.
انطلقت أثينا نحو تعزيز التعاون العسكري مع الرياض من قاعدة شعورها بالقلق إزاء النفوذ التركي المتصاعد، فيما انطلقت الرياض – كما كان يروج الإعلام – في المسار ذاته من قاعدة مناهضة النفوذ الإيراني الإقليمي الذي بدأ يتجاوز خطوطه الحمراء، وبات قادرًا عبر ذراعه في اليمن – الحوثيين – على استهداف العمق السعودي.
وفي أبريل/نيسان 2021 وقع البلدان اتفاقية تعاون عسكري تتضمن تبادل خبرات وأسلحة وعتاد، بمقتضاها أرسلت اليونان إلى السعودية منظومة صواريخ “باتريوت” في سبتمبر/أيلول من العام ذاته، بجانب قوات قتالية تابعة للجيش اليوناني قوامها قرابة 120 جنديًا.
وفي ذروة الأزمة بين تركيا واليونان شاركت السعودية من خلال مقاتلاتها الجوية في مناورات عسكرية مع سلاح الجو اليوناني فوق بحر إيجة في ربيع 2021، وذلك بعد أسابيع قليلة من إرسال الإمارات مقالات “F 16” إلى جزيرة كريت، بجانب مشاركتها في مناورة بحرية أخرى.
وفي السياق ذاته، عمقت الرياض من علاقاتها وشراكتها مع أثينا من خلال بعض التحالفات الإقليمية لا سيما تلك المتعلقة بغاز شرق المتوسط، بجانب الحلف المناهض لتركيا (مصر – الإمارات – قبرص – البحرين) التي رغم أن المملكة لم تكن طرفًا أصليًا فيها لكن حضورها أعطى زخمًا وحضورًا لها، ومثل ضغطًا كبيرًا على الجانب التركي في إطار سياسة “شد الحبل” التي كان يتبعها النظامان قبيل اللجوء إلى إستراتيجية “تصفير الأزمات” كمسار إجباري في مواجهة التحديات التي تشهدها المنطقة مؤخرًا.
ماذا عن العلاقات مع أنقرة؟
من المستبعد أن تؤثر تلك الزيارة وما ينجم عنها كما هو متوقع من اتفاقيات لتعزيز التعاون المشترك، بما فيها التعاون العسكري، على العلاقات بين الرياض وأنقرة، إذ إن الطرفين يميلان إلى تجنب التصعيد والتوتر في الوقت الراهن، ولديهما من المحددات ما يدفعهما لطي أي خلافات راهنة أو محتملة.
السعودية تتعامل مع اليونان كورقة ضغط جاهزة إزاء تركيا التي رغم التقارب بينهما، هناك الكثير من العقبات التي تحول دون الوصول إلى تطبيع كامل، كما أن أثينا تحاول قدر الإمكان الاستفادة من تلك الأجواء الملبدة بغيوم التوتر بأكبر قدر ممكن من المكاسب، خاصة على المستوى الاقتصادي في ظل المأزق الذي تحياه بجانب الاستفادة العسكرية بما يؤهلها لمضاهاة الجار التركي ذات القدرات الدفاعية الكبيرة.
وعلى الجانب الآخر، فإن أنقرة التي تتمسك بخيط التقارب مع الرياض لا يمكنها فتح جبهة توتر جديدة – على الأقل في الوقت الراهن – حتى إن كان لديها بعض التحفظات على تعزيز قدرات اليونان العسكرية بما يحمله ذلك من تهديد للأمن القومي التركي، فالواقع الاقتصادي الملتهب – الذي يسعى الرئيس التركي وحكومته إلى تبريده في أسرع وقت ممكن قبيل الماراثون الانتخابي القادم – يطغى على كل المسائل الأخرى، بل ويدفع لغض الطرف أحيانًا عن بعض التحركات المريبة من وجهة النظر التركية.
كما أن الزيارة التي قام بها ابن سلمان لأنقرة وسبقت زيارة أردوغان للسعودية، والاتفاقيات الاقتصادية المبرمة بين البلدين، بجانب التحديات المشتركة التي تتطلب بلورة موقف إقليمي موحد، ستقف حائط صد أمام أي احتمالات لتوتير الأجواء مجددًا، مع الوضع في الاعتبار أن الجانب السعودي سيتجنب استفزاز أنقرة فيما يتعلق بمنسوب وحجم علاقاته مع أثينا، إذ يسعى إلى تحقيق التوازن في العلاقات بين الجارتين دون خسارة أحدهما كما كان متوقعًا.
البعض يرى أن ابن سلمان يود من خلال تلك الزيارة إرسال رسالة طمأنة للحكومة اليونانية بأن التقارب مع أنقرة لن يكون على حساب العلاقات مع أثينا، وأن المملكة ستحافظ على حجم ومنسوب تلك العلاقات دون المساس بها، مع التشديد على الوفاء بكل الالتزامات والتعاهدات المبرمة بين الطرفين سابقًا.
من جانبه يرى الباحث السياسي المتخصص في الشأن التركي، سمير صالحة، خلال مداخلة له مع “تليفزيون أورينت” أنه من المستبعد أن تصف أنقرة هذا التحرك في سياق عمليات اصطفافات سعودية إقليمية، أو يؤثر بشكل أو بآخر على التقارب السعودي التركي الأخير، وتغريدًا خارج السرب نسبيًا يرى الكاتب أن السعودية من الممكن أن تقوم بدور الوساطة لتصحيح مسار العلاقات بين تركيا واليونان، لافتًا أن الرياض تملك مؤهلات تلك الوساطة بحكم علاقاتها مع البلدين لا سيما في الآونة الأخيرة.
وفي المجمل.. يكشف اختيار ولي العهد السعودي لليونان كمحطة أولى له أوروبيًا عن الكثير من التساؤلات المتعلقة بمستقبل العلاقات السعودية التركية التي يبدو أنها ستواجه الكثير من التحديات بعيدًا عن الصورة الوردية التي يحاول البعض تصديرها، لكنها التحديات التي ربما تظل مستترة حبيسة الأدراج حتى إشعار آخر، ومن جانب آخر عكس هذا الاختيار التطور الواضح في دبلوماسية المملكة التي من الواضح أنها ارتأت الابتعاد جزئيًا عن خريطة الاستقطابات والميل نحو سد أي ثقوب يمكن أن تقوض نفوذها ومصالحها الإقليمية مستقبلًا.