كانت تونس سبّاقة في كتابة أول دستور بالمنطقة العربية، وذلك سنة 1861، وجاء في إطار رغبة عدد من المصلحين في الرقي بالبلاد وتقدمها، لكن هذا الدستور لم يدم طويلًا، فسرعان ما توقف العمل به، وانتظر التونسيون ثلاث سنوات بعد الاستقلال عن المستعمر الفرنسي لكتابة دستور جديد يضع “مقومات الدولة الحديثة” إلا أنه مهّد للاستبداد فتم تعليق العمل به مباشرة بعد الإطاحة بنظام بن علي.
بعد الثورة مباشرة طالب التونسيون بمجلس تأسيسي يكتب دستورًا جديدًا يقطع مع الإرث الاستبدادي الذي كرسه دستور سنة 1959 والتعديلات التي تضمنها، فكان لهم ذلك، وجرى صياغة دستور الثورة والمصادقة عليه في يناير/كانون الثاني 2014.
لم يدم العمل بدستور الثورة أكثر من 7 سنوات فقط، فأستاذ القانون الدستوري قيس سعيد الذي وصل إلى كرسي الرئاسة عبر هذا الدستور وأقسم أمام نواب الشعب المنتخبين أن يسهر على حماية البلاد ودستورها، قد “نكث” بعهده واستبدل الدستور بدستور آخر كتبه بنفسه.
في هذا التقرير لـ”نون بوست” سنحاول الحديث عن السياقات التاريخية والأسباب التي أدت إلى تغيير الدساتير التونسية منذ سنة 1861 إلى الآن.
دستور سنة 1861
ضم الدستور الذي صدر في عهد محمد الصادق باي، 13 بابًا و114 فصلًا، حددوا حقوق وواجبات العائلة المالكة والوزراء والموظفين والرعية، كما أقر مبدأ الفصل بين السلطات الثلاثة (السلطة التنفيذية – السلطة التشريعية – السلطة القضائية) ونظم العلاقات بينها، لينتهي بذلك الحكم الشمولي.
جرّد هذا الدستور الباي من عدة صلاحيات كان يتمتع بها في السابق، وأصبح مسؤولًا أمام المجلس الأكبر الذي بوسعه خلع الباي إذا خالف القانون وتعويضه بولي العهد، كما جعل السلطة التشريعية مشتركة بين الباي والمجلس الأكبر، ولهذا الأخير مراقبة الوزراء ومحاسبتهم.
جدير بالذكر أن صياغة هذا الدستور وإقراره جاءت في سياق تاريخي اتسم برغبة ملحة من العديد من المصلحين أمثال محمد بيرم الخامس وخير الدين التونسي والجنرالين حسين ورستم في إصلاح البلاد، في ظل انتشار مظاهر التخلف والفساد، وضغط من الدول الغربية لحماية مصالح الرعايا الأجانب والتحكم بمصادر الثروة.
تم إنهاء العمل بدستور 1861 سريعًا لعدم رغبة الباي به، فقد قيّد سلطاته وحرمه من صلاحيات الحكم المطلق
لم يرُق هذا الدستور كثيرًا للباي، إذ جعل دوره “صوريًا” وجرده من أغلب صلاحياته وحدد مصاريف العائلة الملكية ضمن ميزانية الدولة، لذلك عمل على الإطاحة به، واقتنص أول فرصة سنحت له بذلك، إذ استغل الباي ثورة الأرياف عام 1864 وضعف جماعة الإصلاح وتركيز القوى الأوروبية في تلك اللحظة على حماية مصالحهم، لإلغاء الدستور.
شهدت تونس في ربيع سنة 1864 ثورة ضد الظلم والاستبداد وديكتاتورية الحاكم والحاشية، حيث ركز الباي على الملذات الشخصية وإنفاق أموال خزينة الدولة على زينة القصور والهدايا التي يقدمها لضيوفه الأجانب من القناصل، وعمّ الفساد وتم إقصاء المصلحين من القصر وانزلقت البلاد نحو التداين لسد العجز الناتج عن الفساد وسوء الإدارة.
سقط الدستور بعد ثلاث سنوات فقط من اعتماده على أيدي ثورة القبائل التونسية بقيادة علي بن غذاهم حامل لقب باي الشعب، إذ لم يضمن حقوق الشعب وبقيت الامتيازات حكرًا على نخبة حاكمة ورعايا أجانب يتحكمون في البلاد.
سقط الدستور سريعًا لأنه لم يضع حدًا للفساد والمحسوبية والرشوة، بل العكس حصل، إذ تعمقت مشاكل الإيالة الاقتصادية والاجتماعية بعد أن عززت الدولة فوارق التنمية جهويًا وأعلت من شأن المدن الساحلية على حساب الداخل (القبائل)، الذي عانى من الفقر والإملاق والتهميش.
يُفهم من هنا أن دستور سنة 1861 تم إنهاء العمل به سريعًا لعدم رغبة الباي به، إذ قيّد سلطاته وحرمه من صلاحيات الحكم المطلق، وأيضًا لعدم رغبة الشعب به حيث لم يستجب لتطلعاتهم وزاد من حدة الفساد في الدولة والفوارق الاجتماعية بين أبناء المجتمع.
دستور سنة 1959
فشلت تجربة الدستور الأولى سريعًا، لكنها بقيت حجر الأساس للوطنيين والمصلحين، فأثناء الاستعمار الفرنسي للبلاد، طالب العديد من التونسيين بدستور وطني يضمن حقوقهم وسيادة البلاد الوطنية، لكن لم يكن لهم ذلك إلا بعد انتهاء الاحتلال بثلاث سنوات.
عقب الاستقلال مباشرة، اختار أبرز الفاعلين السياسيين في البلاد إنشاء مجلس تأسيسي يتولى صياغة الدستور، على عكس باقي الدول العربية التي كتبت دساتيرها لجان من الخبراء المعينين، واستغرق الأمر 3 سنوات.
صيغ الدستور في سياق تاريخي اتسم بالصراع البورقيبي اليوسفي، وهو ما أدى إلى جعله تحت إرادة السلطة، حيث وُضع نظام سياسي يُشرعن لنزعة التفرد بالحكم تحت غطاء البحث عن الاستقرار وتوفير شروط بناء دولة عصرية ومجتمع حديث متجانس.
تم انتهاك الدستور عبر القوانين والتعديلات المتتالية التي فتحت باب الرئاسة الأبدية وفتحت أيضَا باب الاستبداد
منح الدستور للرئيس الحبيب بورقيبة سلطة واسعة إلا أنه لم يلتزم به ولا بفلسفته العامة، فقيّد العديد من بنوده بقوانين ومراسيم ومناشير مثل مبدأ الحريات العامة، فجعل بذلك القوانين أعلى سلطة من الدستور.
في ظرف وجيز انتقلنا من نظام رئاسي إلى نظام رئاسوي ينسحق فيه البرلمان والحكومة أمام رئيس الدولة الذي يتمتع بصلاحيات واسعة ولا يمكن لأحد محاسبته، حتى إن بورقيبة عدّل الدستور وأبّد فيه رئاسته لتونس، بعد أن ألغى التعددية الحزبية.
سلب بورقيبة روح الدستور وكبّله بقوانين عديدة وفتح أمامه باب حكم الفرد الواحد، إلا أنه أعطى الذريعة لوزيره الأول زين العابدين بن علي للانقلاب عليه في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 1987، وفي محاولة لكسب تأييد الرأي العام ألغى بن علي تعديل سنة 1975 وحدّد المدة الرئاسية وأعاد فتح الحياة السياسية أمام التعددية.
لم يدم الانفتاح طويلًا، ورجع استبداد السلطة وتدجين الدستور، ولئن شرعن بورقيبة ذلك بالخوف على البلاد من الخطر اليوسفي فقد شرعن بن علي استبداده بالخوف من الإسلاميين، وأصبحت التنمية والاستقرار مدخلًا لتشريع تجاوز الدستور وتثبيت الاستبداد.
تم انتهاك الدستور عبر القوانين والتعديلات المتتالية التي فتحت باب الرئاسة الأبدية وفتحت أيضًا باب الاستبداد وتحكم العائلة في مصير التونسيين وثروات البلاد، وهو ما ساهم بدرجة كبيرة في ثورة التونسيين ضد نظام بن علي.
في يناير/كانون الثاني 2011، سقط بن علي وسقط معه دستور الاستقلال أو لنقل “دستور التعديلات”، فالتعديلات الكثيرة التي مست فصول الدستور أفقدته روحه التي كتب بها وجعلته رهينة السلطة السياسية تطوعه وفق ما تريد.
سقط دستور سنة 1959 بعد نحو نصف قرن من اعتماده، في سياق ثورة شبابية ضد نظام الحكم الذي “طغى” في البلاد معتمدًا على التعديلات التي أدخلها على الدستور، وقد ظن بن علي وقبله بورقيبة أنه سيبقى طوال حياته في قرطاج.
دستور 2014
عقب الثورة مباشرة، اختلف التونسيون بشأن الدستور الجديد، منهم من رأى الرجوع إلى دستور سنة 1959 الأول والاكتفاء بإدخال بعض التعديلات عليه، ومنهم من رأى ضرورة التأسيس لدستور جديد انطلاقًا من انتخاب مجلس تأسيسي كما حصل بعد الاستقلال.
نجحت القوى الشبابية في فرض توجهها، وتم الاعتماد على انتخاب مجلس تأسيسي توكل له مهمة صياغة دستور الثورة، لكن قوى “الدولة العميقة” نجحت في صياغة قانون انتخابي مكنتها من توجيه أشغال المجلس التأسيسي وفق أهوائها.
تمت صياغة الدستور في 3 سنوات والمصادقة عليه نهاية يناير/كانون الثاني 2014، بعد سلسلة من الصراعات الإيديولوجية داخل المجلس التأسيسي، وخلال الصياغة حرص المؤسسون على منع عودة الاستبداد ووضع حد للتفرد بالسلطة.
صاغ سعيد بمفرده دستورًا جديدًا، نص على منح الرئيس صلاحيات واسعة على عكس الدستور القديم وأقر الحصانة المطلقة له، فلا أحد له أن يحاسبه
وجد التونسيون أنفسهم أمام دستور يضمن التوازن بين السلطات ويقيد بعضها البعض، وحُرم الرئيس من صلاحيات عديدة لفائدة الحكومة التي تستمد مشروعيتها من البرلمان الذي أصبح القوة الأبرز في البلاد.
تضمن الدستور الجديد العديد من المكاسب، إذ شدد على التمسك بتعاليم الإسلام ومقاصده المتسمة بالتفتّح والاعتدال، وترسيخ نظام جمهوري ديمقراطي تشاركي، في إطار دولة مدنية، السيادة فيها للشعب عبر التداول السلمي على الحكم بواسطة الانتخابات الحرة وعلى مبدأ الفصل بين السلطات والتوازن بينها.
لكن سرعان ما بدأ القصف الموجه للدستور، بدعوى تفكيك الدولة، فعمل الرئيس الباجي قائد السبسي على تعديله بعد أن عجز عن المسك بزمام الأمور و”تمرّد” رئيس الحكومة المعين من قبله يوسف الشاهد عليه والتزامه العمل بالدستور.
تدعم هذا الأمر عقب انتخابات سنة 2019 ووصول قيس سعيد لرئاسة البلاد، إذ لم يرق لسعيد أن يبقى حبيس الصلاحيات البسيطة التي منحها إياه دستور سنة 2014، فانتقده مرات عديدة وحاول مرارًا الحصول على صلاحيات أكبر.
أحسن سعيد استغلال الخلافات الكبيرة بين مختلف الكتل النيابية الموجودة في البرلمان وعجزها عن تشكيل حكومة، فأخذ المبادرة وأصبح قصر قرطاج ركيزة الحكم على عكس ما أقره الدستور وتم تهميش عمل البرلمان بباردو.
لم يكتف سعيد بذلك، إذ أجج الغضب الشرعي ولم يترك فرصة إلا وتحدث فيها عن الاختلالات الموجودة في الدستور التي كان يمكن أن يتم إصلاحها وتعديلها إن كان هناك إرادة جدية لذلك، وإنما كان الهدف الإطاحة بالدستور كاملًا.
استغل قيس سعيد الغضب الشعبي ضد الأحزاب ومنظومة الحكم بعد أن نأى بنفسه عنه، وقرر ليلة 25 يوليو/تموز 2019 تجميد عمل البرلمان وإقالة الحكومة والعمل بالمراسيم مستغلًا عدم وجود محكمة دستورية يمكنها إيقافه.
بعد أشهر قرّر سعيد إيقاف العمل بالدستور وصياغة آخر يحل محله وعرضه على الاستفتاء الشعبي، وهو الذي كان يقول قبل توليه رئاسة تونس: “الاستفتاءات في البلدان العربية أداة من أدوات الديكتاتورية المتنكرة.. تتنكر تحت عباءة الاستفتاء”.
صاغ سعيد بمفرده دستورًا جديدًا، نص على منح الرئيس صلاحيات واسعة على عكس الدستور القديم وأقر الحصانة المطلقة له، فلا أحد له أن يحاسبه وله أن يحاسب الجميع ويتحكم في سياسات الدولة العامة.
يوم 25 يوليو/تموز 2022، قاطع نحو 75% من التونسيين الاستفتاء، لكن سعيد رأى أن دستوره الجديد نجح في نيل ثقة الشعب فهو لم يحدّد نسبة لمروره، بذلك أصبحت تونس أمام رابع دستور منذ سنة 1861، لكن السؤال المطروح الآن: كم سيصمد هذا الدستور؟