نشرت صحيفة “الفجر” المصرية في 23 يوليو/تموز الحاليّ خبرًا يقول إن رئيس هيئة الترفيه السعودية تركي آل الشيخ، قرر بشكل مفاجئ بيع جميع عقاراته ومنزله داخل مصر وأصبح لا يمتلك حاليًّا أي عقارات داخل الحدود المصرية، دون ذكر أي تفاصيل أخرى تظهر سبب هذه الخطوة المفاجئة ولا كواليسها.
قبل هذا الخبر بساعات قليلة كان آل الشيخ، أحد المقربين من ولي العهد السعودي محمد بن سلمان، قد نشر عبر صفحته الرسمية على فيسبوك قائلًا: “أنا طيب واللي يقدم الطيب معاي يأخذ عنيا. اللي بيتذاكى أسيبه يجرب كل آلاعيبه وكل محاولات إبعاد المسافات. لكن لما يخلص ويكتشف أنه ما استفدش حاجة، لازم أدفّعه فاتورة بُعد المسافة اللي حصل. عاوز أشوف آخرة كل حاجة”، ثم أعاد توضيحه في منشور لاحق قال فيه: “لا علاقة له بالرياضة ولا الفن ولا الترفيه” وأن “المقصود عارف القصد وإذا معرفش يكبر ويعرف”.
اللافت أن خبر تصفية أعمال الوزير السعودي في مصر لم يحظ بالتناول الإعلامي الذي يتناسب ونفوذه داخل المحروسة، لكنه وعلى عكس العادة لم ينف أو يؤكد صحة ما تم نشره، الموقف الذي زاد من حالة الجدل وأثار الكثير من التساؤلات عن حقيقة ما نشرته الصحيفة المصرية ومدى دقته.
لكن في ظل هذا الغموض خرجت شركة “تذكرتي” (المملوكة لأحد الأجهزة السيادية في مصر) لتعلن عودة الفنانة المصرية أمال ماهر من خلال حفل سيقام في الساحل الشمالي (شمال مصر) يوم 29 من الشهر الحاليّ، بعد غيابها الطويل منذ أكثر من عامين وأزمتها مع زوجها السابق، آل الشيخ، وبعد أيام من تسريبات اختفائها والحديث عن تورط المسؤول السعودي في تلك الواقعة.
الربط بين الخروج المفاجئ لوزير الترفيه السعودي من مصر من جانب، وتلميحاته الغامضة خلال الآونة الأخيرة وقرار عودة طليقته للغناء مرة أخرى، من جانب آخر، دفع بالبعض إلى التساؤل عن حقيقة هذه الخطوة وما إذا كانت تعبر عن موقف شخصي في ضوء الهجوم الأخير عليه أم توجه رسمي بحكم وظيفته وعلاقته القوية بدوائر الحكم السعودية.
قرار شخصي
الطريقة التي قرر من خلالها آل الشيخ الخروج من مصر وتصفية كل أعماله بحسب ما نشرته “الفجر” كانت مثار لغط لدى كثير من المراقبين، فها هو الدبلوماسي المصري، السفير فوزي العشماوي، يشير إلى أن تركي ليس مستثمرًا عاديًا ينشئ مشروعًا صغيرًا ويقرر فجأة مغادرة السوق المصري، لكنه مسؤول يمثل الدولة السعودية وله حضور قوي وفعال في مجالات الفن والرياضة والإعلام، بل إن له علاقاته القوية مع كبار رجال الدولة المصرية وعلى رأسهم الرئيس عبد الفتاح السيسي.
وطالب الدبلوماسي المصري في منشور له على صفحته على فيسبوك بأن يكون هناك إيضاح رسمي وعاجل بشأن هذا القرار المفاجئ حتى يقطع الشك باليقين متسائلًا: “هل فعلًا يغادر الرجل بشخصه (وبما يمثله ) مصر أم لا؟! واذا كانت الإجابة بنعم فما مبررات المغادرة، هل هي أسباب شخصية أم قرار رسمي؟! وهل تعكس هذه المغادرة أي مدلولات أو مؤشرات معينة فيما يخص الأوضاع الاقتصادية في مصر؟!”.
الشارع انقسم في تفسيره للقرار – إذا صح الخبر المنشور – إلى قسمين: الأول يرجع السبب في ذلك إلى الهجوم العنيف الذي وجه للمستشار السعودي خلال الآونة الأخيرة وتصاعد الغضب الشعبي إزاء ممارساته وتدخلاته وتصريحاته المثيرة للجدل، التي لم تترك مجالًا إلا وتجرأت عليه.
فمنذ دخوله الساحة المصرية في مارس/آذار 2018 لرئاسة النادي الأهلي شرفيًا بعد أن قدم الملايين من المساعدات للنادي ومجلس إدارته، وتسبب آل الشيخ في إحداث الوقيعة والفتنة بين مكونات الشعب المصري الرياضية، أنصار الزمالك والأهلي، وكلاهما يمثلان السواد الأعظم من المصريين العاشقين لكرة القدم، بل وتسبب بحسب خبراء الكرة في إفساد الرياضة المصرية من خلال رفع بورصة اللاعبين لأسعار جزافية ما تسبب في وأد المواهب الصغيرة والقضاء على الأندية الشعبية.
ثم جاءت الأزمة الأخيرة مع طليقته أمال ماهر التي اختفت عن الأضواء لفترات طويلة وخرجت تسريبات تشير إلى تورط الوزير السعودي في إخفائها بل وصل الحديث إلى حد وضعها قيد الإقامة الجبرية وخطفها، ورغم خروجها في مداخلة تليفزيونية لتؤكد أنها بخير، فإن الطريقة التي خرجت بها وكلماتها المتأرجحة عززت من شكوك الناس التي قادت حملة هجوم جديدة ضد آل الشيخ.
أم توجه دولة؟
أما القسم الثاني فيرى أن مستشار ولي العهد لا يمكنه أن يتصرف بهذه الصورة من تلقاء نفسه، فخروجه إن كان شخصيًا فلن يكون بتلك الكيفية المثيرة للريبة، وعليه يميل أنصار هذا الرأي إلى أن القرار يعكس توجهًا سعوديًا ما لتقليص الاستثمارات السعودية داخل مصر وفق بعض المؤشرات السلبية عن الاقتصاد المصري، وهو الأمر الذي دفع البعض للمطالبة بصدور بيان رسمي لشرح كل الملابسات المتعلقة بهذا المستجد.
ويعزز الداعمون لتلك الرؤية موقفهم بالتقارير الواردة بشأن هروب الاستثمارات الأجنبية من مصر خلال الفترة الأخيرة، تحديدًا منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، فبراير/شباط الماضي، إذ خرج أكثر من 15 مليار دولار في غضون أقل من 3 شهور فقط، هذا بخلاف ما يثار مؤخرًا بشأن مغادرة بعض المستثمرين للسوق المصري، وعلى رأسهم رجل الأعمال الكبير سميح ساويرس، الذي وبحسب موقع “مصر الآن” سيصفي استثماراته في مصر بالكامل ويتجه إلى سويسرا، علمًا بأن عائلة ساويرس تمثل ضلعًا أصيلًا في الاقتصاد المصري وإن صح هذا الخبر فإن ذلك سيكون له تداعيات خطيرة على صورة الدولة المصرية خارجيًا.
وكانت وكالة “موديز” للتصنيف الائتماني، قد غيرت – أواخر مايو/آيار الماضي – نظرتها للاقتصاد المصري من مستقر (B2)، إلى سلبية، مؤكدة في بيان لها “أن النظرة المستقبلية السلبية تعكس المخاطر الجانبية المتزايدة لقدرة مصر على امتصاص الصدمات الخارجية”، وهو ما يتوقع أن ينعكس على مستوى وحجم انجذاب الاستثمارات الأجنبية للسوق المصري خلال المرحلة القادمة.
4 أعوام من الفشل
وُصف آل الشيخ بأنه “رأس حربة قوى ابن سلمان الناعمة في المنطقة”، وكانت مهمته الأساسية حين فرض اسمه على ساحة الأضواء المصرية قبل 4 أعوام تتلخص في تعزيز نفوذ الرياض وتأثيرها على دوائر صنع القرار في الدول العربية ذات الثقل السياسي والشعبي الكبير، مع تجميل صورة المملكة إقليميًا ودوليًا بعد التشويه التي تعرضت له بسبب سجلها الحقوقي.
وفي سبيل هذا الهدف اعتمدت المملكة – عبر ذراعها في مصر – ميزانية مفتوحة لتحقيق أكبر قدر من المكاسب في مجال اختراق القوى الناعمة المصرية، وعلى رأسها الرياضة والإعلام والفن، فجاءت الملايين المقدمة من المستشار ليسيل معها لعاب الكثير من أقطاب وقادة تلك المجالات.
ونجح المخطط في بدايته في الترويج للوافد السعودي الجديد القادم على أجنحة الدولارات والريالات لتحقيق أحلام الكثير من الحالمين بمستويات أفضل، فحقق أهدافه مرحليًا في المسار الكروي، لكن سرعان ما اصطدم بالمرتكزات الرياضية المصرية بسبب طموحه الزائد وتجاوزه للخطوط الحمراء واللعب على الأوتار كافة.
وبعد الفشل في الرياضة انتقل إلى مجال الفن والدراما والإعلام، ففي مايو/أيار 2021، كشف النقاب عن خطة للتعاون المصري السعودي في المجال الدرامي والثقافي والإعلامي، وهناك ما يقرب من إنتاج 60 مسلسلًا، و15 مسرحية غير الحفلات الموسيقية، بجانب مشروعات إعلامية متميزة.
وخلال العامين الماضيين بدأ آل الشيخ يثير غضب المصريين من خلال بعض الممارسات التي فسرها البعض على أنها استهداف ممنهج للمجتمع المصري، على رأسها فتح الباب على مصراعيه أمام مطربي المهرجانات المجمد عملهم بقرار من نقابة الموسيقيين المصرية بسبب رداءة ما يقدمونه، وإقامة الحفلات الكبيرة لهم في جدة والرياض.
هذا بخلاف تطاولة على رموز الرياضة المصرية وفي المقدمة منهم نجم ليفربول الإنجليزي محمد صلاح، وأسطورة الأهلي محمود الخطيب، رئيس النادي، بالإضافة إلى تصاعد أزمته الأخيرة مع أمال ماهر التي عززت من الاحتقان والغضب الشعبي ضده.
وعلى الجانب الإعلامي فقد خصص رئيس الترفيه السعودي قناة “إم بي سي مصر” السعودية، للتغريد خارج السرب والسير عكس اتجاه المزاج المصري، فاستضافت المغضوب عليهم جماهيريًا، وتحولت إلى بوق يخدم أجندة المملكة على حساب الدولة المصرية في كثير من المسارات، مستعينًا في ذلك بإعلاميين مصريين، يصنفون من المستوى الأول، يدفع لهم رواتب مجزية حتى تحولوا إلى موظفين لدى المستشار ورؤيته الخاصة.
الأيام القليلة الماضية تحديدًا شهدت هجومًا عنيفًا على منصات التواصل الاجتماعي ضد آل الشيخ الذي تحول إلى شخص منبوذ مصريًا، وتصاعدت المطالب التي تنادي بطرده من مصر ومنعه من التواجد مرة أخرى، لا سيما بعد التسريبات التي تشير إلى تورط شقيقته في قتل صيدلي مصري رفض إعطائها دواءً دون روشتة طبيب رغم التعتيم المفروض على اسم وهوية القاتلة.
وتحول المستشار المقرب من محمد بن سلمان إلى عبء على العلاقات المصرية السعودية التي تحاول تجاوز الخلاف بينها إزاء بعض الملفات، من أجل بلورة موقف عربي موحد في مواجهة التحديات الإقليمية والدولية الراهنة، وهو ما يمكن قراءته من خلال الحراك الدبلوماسي المكثف بين الرياض والقاهرة مؤخرًا.
وبعد سنواته الأربعة التي قضاها في مصر يمكن القول إن تركي آل الشيخ فشل فشلًا ذريعًا في تحقيق الأهداف التي جاء من أجلها، وأن السحر سرعان ما انقلب على الساحر، وبصرف النظر عن دقة خبر تصفية أعماله في مصر من عدمه، وسواء كان قرارًا فرديًا أم توجه دولة، فإن النتيجة واحدة، أن مستشار ولي العهد لن يكون له وجود في القاهرة مستقبلًا، وعلى المملكة – إذا أرادت أن تعيد التجربة مرة أخرى – البحث عن وجه جديد، لكن هناك سؤال: هل يقبل المصريون أن يُلدغوا من جحر مرتين؟