تخلق نوعية الرعب نوعًا من التآلُف بين الميثولوجي/ الروحي أو الماورائي، الجسدي/ المادي أو الدموي، وتنجح في سكب هذا الخليط في قالب متطرّف في سرده الشكلاني والأدبي، بيد أنه لا يخلو من الإسقاط أو الإشارة لفكرة اجتماعية متعددة الطبقات تشتبك مع أفراد المجتمع كمعنيين بالعقدة، حتى لو كانت العقدة تؤسِّس لخطاب سُريالي أو رمزي يتّسم بطبع ملتبس.
ذلك الغموض ما يعيد تشكيل نوعية الرعب نفسها، ففيلم “رجال (Men)”، التجربة الأخيرة للمخرج أليكس غارلاند، يمكن تصنيفه في حيّز الرعب الجسدي، ولكنه في الحقيقة يتعاطى مع أكثر من ذلك، فالجسد ليس الثيمة الأساسية للفيلم ولكنه ما يخلق لقطة الرعب الأخيرة، ما ينتهي عنده الحدث تقريبًا.
فالجسد بالنسبة إلى الرعب هو المبدأ والمنتهى، لأنه الأداة التي يتعاطى معها المخرج بشكل مباشر داخل حكايته، بيد أن السمة الأساسية التي تندفع من خلالها موجة جديدة من أفلام الرعب هي التعاطي مع الروحي والذاتي والمخاوف الاجتماعية والنفسية كعلامات مركزية لمجتمعات ما بعد الحداثة وعصر التكنولوجيا.
من خلال التجارب السابقة للمخرج أليكس غارلاند، سنلاحظ منهجيته في السرد والكتابة، خصوصًا أنه يكتب سيناريوهات أفلامه التي يحققها، أنه يشتبك مع المجهول في نقاط ما ورائية وروحية، يختبر الحدّ الفاصل بين الواقعي والخيالي، بحيث يطرح إشكالية لها جذور اجتماعية أو تكنولوجية ثم يبدأ باختبار مساحة الانبعاج الحادث عن دمج هذه الإشكالية بالخرافة أو المخيال، فيخلق هذا الانبعاج الحكائي سمات تعرّف سينما غارلاند بأنها سُريالية أو خيالية.
تنكشف هذه السمات بوضوح في فيلمَيه السابقَين “الماكينة السابقة (Ex Machina)” و”إبادة (Annihilation)”، ويُعتبر الفيلمان من أفضل أفلام الخيال العلمي في العقد الأخير، إنهما تجربتان مثقلتان بالأفكار، يختبران إشكالات شائكة، ويتخطيان حدود النوعية السائدة، ليمزجا بين أكثر من نوعية في تجارب جريئة وكاشفة، وتجربته الأخيرة ربما تختلف في أشياء كثيرة وسمات مختلفة من حيث الشكل والمضمون، ولكنها ما زالت تتعلق بالمفاهيم الإشكالية والنمط البصري الصدامي، والمخاوف الاجتماعية التي تتعلق بالذات وبالآخر.
يدور الفيلم حول امرأة تُدعى هاربر (الممثلة جيسي باكلي)، تستأجر منزلًا في ريف المملكة المتحدة للاسترخاء والتعافي من علاقة معقدة انتهت بانتحار زوجها السابق جيمس (الممثل بابا إسيدو)، الذي يُعتبر محورًا مهمًّا في الأحداث، ويمتلك خطًّا سرديًّا خاصًّا به داخل المروية البصرية، خطًّا ماضويًّا (فلاش باك) يجترّ ذكريات هاربر مستنزفًا طاقتها النفسية.
تختلط الذكريات بوقائع مريبة وتنخرط بشكل مباشر في الإشكالية الأولى، لتعيد طرح السؤال الذي تتمركز حوله الحكاية: هل هي السبب في موت زوجها؟ يطاردها شبح زوجها داخل أروقة الذكريات، وتستحضره الحوادث والوقائع كموضوع يتماسّ مباشرة مع شعورها بالذنب ويضاعف ثقل الألم.
تشتبك القصة بشكل مباشر مع مساحة ذكورية، بداية من العنوان الذي يحمل الإشارة الأولى لطبيعة الفيلم الذكورية، مرورًا بعدد الذكور داخل الفيلم مقارنة بشخصية وحيدة أساسية لامرأة، وأخرى حاضرة إلكترونيًّا فقط عبر الهاتف، انتهاءً بالريف الذي يعتبره البعض مرتع الصفات الذكورية، بداية من النشأة مرورًا بالفرض القسري للذكور في أغلب الأدوار الحيوية داخل المجتمع الريفي، فيشكّلون فرضًا واجبًا على هذه الطبقة الاجتماعية كرأس للتسلسل الهرمي الداخلي طبقًا للعُرف والعادة.
يسهّل هذا الحضور الذكوري المضاعف الانجراف مع الفكرة الأساسية التي يتعرض لها غارلاند: النزعة الذكورية المفرطة، النظرة الاستحقاقية والتجنّي على المرأة ولعب دور الضحية في المجتمعات المعاصرة.
تتخلل سردية غارلاند أقاصيص فرعية تنخرط مع الخط السردي الأساسي، أقاصيص ذات خلفية لاهوتية وأخرى ذات خلفية ميثولوجية، هذ النوع من الاستدعاء يخلط الأوراق في بعض الأحيان، بيد أن توظيفه في سياق قصصي يتماسّ مع الوقائع، يعزز من الفكرة الأساسية، ويضيف نزعة الرعب المطلوبة، خصوصًا أن الجزء الأكبر من الفيلم لا يتعرّض للجسدي، لذا هذه الإحالات توفّر مساحة جديدة لرؤية القصة في سياق مختلف، سياق ينبئ بخطر ويرفع من النسق.
وعلى هذه الوتيرة يغذّي غارلاند مرويته البصرية بإحالات لها ظهير أدبي، يفتتح فيلمه بـ”فلاش باك” بطيء لسقطة الزوج توحي بجوّ غرائبي وجمالي في آن واحد، ثم ينقلنا إلى حديقة المنزل الريفي المزروعة بشجر التفاح، تقطف هاربر تفاحة وتأكلها، كإشارة واضحة لقصة آدم وحواء، وخروجهم من الجنة، والمعضلة هنا ليست في الثمرة كفاكهة محرَّمة، بل في مكان الجنة ذاتها، التي تقع في هيئة منزل ريفي بقرية يملأها الرجال، بحيث لا نرى إلا أنثى واحدة خلال الفيلم.
وفرة الأجساد الذكورية في المكان تخلق نوعًا من الالتحام الذكوري مع طبيعة المكان بشكل ينعكس على شكل الجسد الذكوري ذاته وطبيعة البيئة المحيطة، ويخلّف فجوة مادية وروحية داخل هاربر كامرأة وحيدة في مساحة مادية هائلة، يملأها شعور ملتبس بالخطر، خفقات من الارتباك تبدأ بالتحول من ارتعاشات صغيرة ثانوية إلى نوبات متضخّمة تنهب جسد المرأة وروحها، وتجرّها داخل موجات من الذكريات والانعكاسات الشخصية.
حضور الجانب الذكوري ذاته يؤسِّس لنوع من الهوس بالمرأة، لأنه يتعرّض للمرأة كنقيض ولكنه في حاجة مادية إلى وجوده، يمكن رصد هذه النقطة من خلال ارتداء الفتى الصغير لقناع بلاستيكي يحمل وجه امرأة بملامح جمالية كلاسيكية ومثالية، الشعر الأصفر والوجه الأبيض كصورة مغلّة للجمال في شكله السائد داخل المجتمعات الأوروبية، ويمثّل أيضًا هوسًا بالمرأة في حضورها البيولوجي والرمزي.
يستعين غارلاند بالأسطورة في نسج سرديته، يصنع وضعيات موازية للأسطورة، فيخلق تناصًّا بين مشاهده وأساطير بعينها، أسطورة “ليدا والبجعة” وتوظيفها في ظرف مكاني مناسب داخل أحد المشاهد، من خلال استدعاء معاصر للميثولوجيا في شكل قصيدة مستلهَمة من الأسطورة تحمل الاسم ذاته للشاعر الإنجليزي ويليام بتلر ييتس، تستحضر شخصية القسّ أبيات من القصيدة، في سياق يحمل دلالة فعلية داخل المشهد.
تدور الأسطورة الإغريقية حول زوس الذي يأخذ شكل بجعة ويغتصب أو يغري الملكة ليدا، في القصة تماسّ واضح مع فكرة الفيلم الأساسية، والجمع بين عملَين إبداعيَّين حتى لو بشكل رمزي أضاف إلى الموقف ديناميكية، خصوصًا أن الفيلم يدور حول الموتيف نفسه تقريبًا.
فالاندفاع الذكوري الواضح في قصة “ليدا والبجعة” يقرّب المعنى أكثر للمشاهد، ثم يستعين في المشهد ذاته بقصيدة أخرى مقتبَسة من الميثولوجيا الإغريقية للشاعر ساميول دانيل تُسمّى “عوليس والمغوية”، تحكي عن المخلوقات المجنَّحة التي أغواها غناء البحّارة، وهي الأخرى تتماسّ مع الفكرة الأساسية للفيلم.
يخلق غارلاند رعبًا في إطار نسوي من خلال التفاعل الإلزامي مع الآخر، الذي يمكن تصنيفه في هذه المروية كنقيض ومضادّ، فيضغط بشخصياته كلها في اتجاه واحد، حتى خطَّيه السرديَّين يتّجهان نحو هاربر ويتقاطعان داخلها، وتحت وطأة التضييق الذكوري الذي يصل إلى التهديد الجسدي، ينتج ما يمكن تسميته بالقهر الكلّي للمرأة، الجسدي والنفسي وحتى الروحي والماورائي.
بيد أن هذا القهر يستفزّ قوة داخلية، ويصنع شحنة مضادة من المقاومة، ورغم توافر العناصر بشكل جيد في الفيلم، إلا أن اقتصار الرؤية وتوحُّد الشخصيات نحو جهة معيّنة أفقدا الفيلم الكثير من الدراما والامتداد، حتى في المشهد الدموي الذي يعبِّر بشكل صريح عن رؤية غارلاند للقصة، ويبلغ حد الصدمة البصرية من خلال التشوُّه والرعب الجسدي والتحول الذي يؤكّد أن جميع الرجال في فيلم غارلاند متوحّدو المنظور، مستنسَخون، يملكون رؤية واحدة.
لا يهم عدد الأجيال أو القيمة الشكلانية، ستظل الأيديولوجيا أحادية، مجرد نُسَخ متطابقة الفكر، وهذه نظرة قاصرة اجتماعيًّا، ولكن نوعية الرعب نفسها تقوم على تضخيم فكرة معيّنة، وتحويلها من مجرد هواجس أو حالات فردية إلى نظام اجتماعي وقانون عرفي، وقد قصرَ الرؤية على القرية الريفية ببيئتها المتفرّدة ولم يعمِّم.
حاول غارلاند تصدير حالة الاحتجاز والحصار التي تواجهها هاربر بعدة موتيفات وثيمات، منها ما يرتبط بالظرف المكاني والبيئي، فيشحن الجوّ بمشاعر مختلفة، في بداية الفيلم تتوه هاربر فيما يشبه الغابة لتجدَ نفقًا، وتتقدم داخله وتبدأ بإصدار أصوات بداخله، ما يشبه الترنيم أو النغمات، وتندهش من ارتداد الأصوات داخل النفق على هيئة صدى يحتفظ بإيقاعه داخل النفق، في بيئة معيّنة شديدة الخصوصية لا يستطيع الخروج منها ليحافظ على وجوده.
هذه هي الإحالة الأولى للانحباس والتناسخ في سردية الفيلم، النفق هو انعكاس للبيئة الريفية، والنغمات هي نسخ الذكور المتشابهة التي تكتسبُ قيمتها من هذا الحيّز المكاني، يتكرر تأثير البيئة على الشخصيات، فيخلق غارلاند شخصية أشبه بالشخصيات البدائية، وليدة البيئة، متجرّدة من الرغبة، تعيش داخل الضروري والأساسي.
يودّ المخرج أن يقول إن هذا النوع من الأفعال التي تنطوي على الاستكشاف والاقتحام وفرض الذات موجودة منذ بداية الزمن، حتى التمثال الحجري داخل الكنيسة يعكس رغبة مقدسة في المرأة، ويرصد شيطنة للذات الأنثوية ذاتها، لينعكس الأمر على اللاهوت ذاته ونرى شخصية القسّ المتطرفة وشخصية الفتى الصغير ذي النفسية المشوَّهة.
اقتصر الفيلم على ممثلَين فقط، الممثلة جيسي باكلي التي تتطور بشكل مثير للاهتمام خلال رحلتها الفنية القصيرة، عن طريق انتقاء مشاريع مهمة وثقيلة من الناحية الفنية، والممثل روري كينير الذي قام بعمل استثنائي في الفيلم، ولعب دور 4 شخصيات بأعمار وأشكال مختلفة، ونجحَ في ذلك بجدارة.
خلقُ هذا النوع من العوالم عملية معقّدة، ولكن غارلاند ينجح في صنع الجوّ المناسب، وشحنه بمشاعر تتوافق مع الفكرة الأساسية، ليحقق واحدًا من الأفلام الجيدة في نوعية الرعب، إنه فيلم يحتاج إلى أكثر من مشاهدة والكثير من التفكير لفكّ شفرته.