أيا ما كانت نتائج يوم 28 نوفمبر التي حملت عنوان “انتفاضة الشباب المسلم” وشعارها “معركة الهوية”، فإن هذه الدعوة قد نجحت في تحقيق كثير من أهدافها من قبل أن يبدأ اليوم!
لقد أبانت هذه الدعوة عن الاصطفاف الحقيقي الكائن في الساحة المصرية، التي هي جزء من الساحة العربية والإسلامية، تلك الساحة التي تجري عليها المعركة العالمية منذ مائتي سنة.. هذه المعركة هي بوضوح “معركة الهوية”.
لم يكن العرب وشعوب الشرق الأدنى شيئا قبل الإسلام، الإسلام وحدهم جعلهم أمة عظيمة حققت أعظم النتائج في أسرع وقت وبأعمق رسوخ، فلقد فتح المسلمون في ثمانين سنة ما فتحه الروم في ثمانية قرون، وصنعوا دولة عظيمة وحضارة زاهرة لألف عام على الأقل، ثم –وأهم من كل ما سبق- نشأت أمة جديدة تتحد في الدين ويتحد ثلثها في اللغة، وترتبط بقيم ومفاهيم وثقافة مشتركة رغم تباعد الزمان والمكان واللغات!
بهذا الدين، ولأول مرة ظهرت هذه الأمة على سطح التاريخ، ولهذا فإن المعركة الناجحة للاحتلال الأجنبي كانت معركة تغييب هذه الهوية وتزييفها وصناعة ولاءات أخرى: عرقية، قومية، قطرية .. إلخ! وحققت في بعض الأحيان نجاحات كبرى، وهي نجاحات بالقهر والسيف في عموم الأحوال، حتى ظهر من قال:
آمنت بالبعث ربا لا شريك له .. وبالعروبة دينا ما له ثان
وقال الآخر
هبوني عيدا يجعل العرب أمة .. وسيروا بجثماني على دين برهم
سلام على كفر يوحِّد بيننا .. وأهلا وسهلا بعده بجهنم
وقال ثالث: “الهرم أقدس عندي من المسجد الأقصى”، وقال رابع: “القبطي المصري أهم عندي من المسلم الأفغاني”… وهكذا!
هذا التاريخ الذي استطاع فيه الغرب صناعة هويات جديدة لشعوب هذا الشرق، وفرض عليهم حكاما اعتنقوا هذه القناعات.. هذا التاريخ هو نفسه تاريخ الهزائم والنكبات والضياع الكبير!
منذ أن سادت هذه الهويات في بلادنا لم نحقق أي نصر على عدونا، لم يستطع المصريون ذوي الهوية الفرعونية أن يبعثوا مجد الفراعنة أبدا، ولم يستطع القوميون العرب أن يجمعوا الأمة العربية أبدا، بل لم تتقزم مصر في تاريخها كله كما تقزمت تحت حكم “المتفرعنين” ولم يذق العرب من الوبال والنكال كما ذاقوا على يد هذه الحكومات “المتعربة”!
معركة الهوية أعادت المعركة القائمة في بلادنا إلى حقيقتها، إنها تحاول إزالة هذه الهويات المصطنعة المزيفة التي صُبِغنا بها قهرا، بيد الاحتلال ثم بيد عملائه وصنائعه وكل هذا تحت إشراف الغرب وتوجيهه.
إن حركات المقاومة في هذا الشرق آلت إلى الإسلاميين، فلست تجد الآن أي حركة مقاومة ضد الاحتلال إلا وهي إسلامية. كذلك هذه الثورات التي اشتعلت في بلادنا.. لقد آلت إلى الإسلاميين أيضا، فسواء كانت الثورة سلمية وانقلبت إلى مسلحة (سوريا، ليبيا) أو كانت سلمية وانقلب عليها مسلح (مصر)، أو سلمية وما زالت تعاني (تونس، واليمن)، فلن تجد في كل هذه الثورات من فاعلين إلا الإسلاميين في مواجهة النظم القديمة التي يدعمها الغرب ويرعاها.. مما يدلك دلالة بالغة على أنها معركة هوية.
وفي مصر –التي هي في قلب الموضوع الآن- تجد ثورة في مواجهة انقلاب، ولن يختلف الحال لو وضعت الإسلاميين في خانة الثورة والعلمانيين في خانة الانقلاب.. إنها نفس المعسكرات، وشواذ الإسلاميين هم من وقفوا في معسكر الانقلاب، وشواذ العلمانيين هم من وقفوا في معسكر الثورة، ولكل قوم نخالة!
إن أفكار الإنسانية الواحدة والعالم الواحد والثقافة الواحدة هي أفكار هرائية تخلى عنها الغرب منذ زمن، وهو لا يستعملها إلا في سياق دعائي إعلامي كجزء من إلحاق الناس به وقهرهم على مذهبه، لا كجزء من صناعة سلام عالمي!
ولا بأس أن نسوق على هذا شيئا من كلام الغربيين أنفسهم؛ إذ إن محاولة توحيد العالم في أمة واحدة عسكريا ليست بأفشل من توهم إمكانية توحيدها ثقافيا وحضاريا، فكما “وثَّق العديد من العلماء، وكما بيَّنت الأحداث الجيوسياسية عمليا، فإن البشر لا يفكرون عادة “تفكيرا كوكبيا”، وإن الثقافة المحلية، والقومية، والإقليمية، والتاريخ، والدين، والسياسات، ليست جاهزة كي تكنس إلى سلة النفايات التي سُميت “التاريخ”، وإن أولئك الذين تخيلوا غير ذلك يعانون الآن صدمات كريهة” (1).
لقد انهار حلم لطالما راود خيال الكثيرين على اختلاف نظراتهم: الحكماء العقلاء الفلاسفة ومعهم الشعراء العاطفيون الخياليون ومعهم السياسيون المعرفون بالانتهازية إلى جانب الأتقياء الزاهدين، حلم الكثيرون من هؤلاء بعالم واحد، وأغراهم التقدم في وسائل الاتصال والمواصلات بأن الأمر ممكن، وقريب، ويلوح في الأفق ولا يحتاج إلا لبذل بعض الجهد.
كان الظن بأن أساس المشكلة سوء تفاهم ناتج عن الجهل وضعف التواصل، وحيث إن هذا السبب على وشك النهاية فلا بد أننا سنصل عند نهايته إلى بداية الحلم السعيد!
ومن المدهش أنه في اللحظة التي انهار فيها الاتحاد السوفيتي ولم يعد في العالم إلا قطب واحد هو أمريكا، حدث ما لم يكن متوقعا، وخرج من قلب القطب المنتصر من يتحدث عن أن الحلم السعيد قد تحقق ولكن “لنا نحن .. وحدنا”!!
كان هذا فوكوياما، أعلن أننا وصلنا إلى نهاية التاريخ، تلك النقطة التي تمثل هوسا غربيا حقيقيا ينتجه فلاسفتهم كل فترة (1)، وأن الليبرالية هي ذروة مسيرة الإنسان، وأن العالم سينقسم إلى قسمين “عالم ما بعد التاريخ” الذي يسكنه “إنسان ما بعد التاريخ”، و”عالم التاريخ” الذي يسكنه “إنسان التاريخ”، ووضع فوكوياما حدودا صارمة تضمن أن يتمتع إنسان ما بعد التاريخ بثروات إنسان ما قبل التاريخ دون أن يستطيع هذا الأخير مضايقة الأول في أرضه أو تهديده بسلاح ما، وأعلن أنه يجب التعامل بالقوة مع عالم وإنسان التاريخ.
تبخر حلم العالم الواحد والسلام العالمي والثقافة الواحدة وكافة مظاهر السعادة، هكذا في لحظة! وأشد بؤسا من هذا الحلم الضائع أن فوكوياما تأمل في حال ما بعد التاريخ فوجده مأساويا كئيبا!! لماذا يا ابن فوكوياما؟! لأن كل شيء موجود ومتوفر ومن ثم فلا منافسة ولا إبداع ولا كفاح ولا شيئا مما يجعل للحياة طعما!
يا له من حلم جميل، اتضح أنه أقبح من كل قبيح!!
لكن فصول القصة لم تنتهِ بعد، فقد تصدى للرد عليه مُنظّر آخر شهير، هو صمويل هنتنجتون، بكتابه الأشهر “صدام الحضارات”، فدعاه لأن يكون واقعيا وعقلانيا وأن يبصر أن العالم ينقسم إلى حضارات، كل قوم يعكفون على هويتهم التي تميزهم وينفخون فيها الروح والحياة ويتمسكون بها وينسجون حولها أحلامهم وآمالهم، ومن ثم فيجب علينا أن نحدد من نحن لنحدد من الذين ينبغي أن نكرههم ونعاديهم ونحاربهم!
وأجرى هنتنجتون قسمة حضارية جديدة جمع بها الغرب في وحدة واحدة استثنى منها السلافيين في شرق أوروبا، وحزم أمره ونصب معسكراته وأخذ يبدي توصياته بشأن ما سيكون عليه الحال في الملحمة الكبرى الموعودة: صدام الحضارات!
هكذا بدت لحظة الحلم الذي انتظره الناس طويلا حينما تحقق!
لقد أطال هنتنجتون في إثبات أن البشر لا يفكرون بشكل عالمي، بل يفكرون بشكل أكثر خصوصية، يفكرون كأمم متميزة لا كأمة إنسانية واحدة، وكلامه هذا حق، إلا أن الشيء الثابت عنده وعند غيره أن هذا الاختلاف سيؤدي إلى الحرب حتما وقولا واحدا.
فأما تمايُز الناس إلى أمم فهو حق، وأما أن الاختلاف الرئيسي بينهم هو “ثقافي” فهذا حق أيضا، وكل ذلك عندنا حقيقة إلهية، نأخذها من قول ربنا: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَامُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّه} [آل عمران: 110]، ففي هذه الآية معنى تمايز البشر إلى أمم، ومعنى تفاضل بعض الأمم على بعض، ثم معنى أن أمة الإسلام هي أفضل هذه الأمم لما تقوم به من خير لباقي الأمم، ومعنى أن التقسيم الصادق للبشر إنما هو بالنظر إلى أديانهم.
إلا أن المسارعة إلى دفع هذا الاختلاف إلى الحرب هو المثير للتأمل!
ففي الإسلام لا يكون الاختلاف موجبا للقتال، بل القتال مكروه في فطرة الناس، ولا يؤمر به إلا لدفع باطل بإقامة حق، ولئن كان الصراع بين الحق والباطل مستمرا فإن هذا يقع على جهة الإرادة الكونية لا الإرادة الشرعية، ثم إن الإسلام إذ يقاتل لا تكون النتيجة أن يتخذ ذلك سبيلا لقهر المغلوبين وإدخالهم فيه.
بينما يطرح الفكر الغربي مسألة الحرب كضرورة حتى في لحظة النصر، فما إن سقط الخطر الأحمر حتى بحثوا عن خطر جديد: الخطر الأخضر!
وحيث إننا نحن هذا الخطر الأخطر، فما يبدو أن ثمة خيارًا أمامنا، بل حال أخي العرب الآن كحال نصر بن سيار إذ يحرض ويقول:
أبلغ ربيعة من مرو وإخوتهم … فليغضبوا قبل ألا ينفع الغضب
ولينصبوا الحرب إن القوم قد نصبوا … حربا تُحَرَّق في حافاتها الحطب
من كان يسألني عن أصل دينهمُ … فإن دينهم أن يُقتل العرب
ولئن كنا سنغضب وننصب الحرب، فإننا قبل ذلك وبعده أهل دين ورسالة ودعوة، فليست تجزئنا الحرب وحدها أمام الله تعالى، بل لا يجزئنا إلا أن ندعوهم إلى الخير، فإن أبوا تعاونَّا معهم على الخير وكف الشر، فإن أبوا إلا الحرب فما حيلة المضطر إلا ركوبها!
***
إن قسمة الناس إلى أمم لم يصنعها السابقون الأولون فمن ثَمَّ يكون تقليدهم جمود ومَعَرَّة، بل هي قسمة إلهية في عقيدتنا، ثم إن هذه القسمة ليست مدخلا للتنازع والحروب بل هي مجعولة للتكامل والتعاضد، ثم إنه ليس لأحد -بقسمة الأرض أو العرق أو اللون أو اللغة- فضل على أحد فيعطيه ذلك الحق في قهر غيره والسطو على نفسه وعلى ما بيده. وكل هذا قد قيل في آية واحدة {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ} [الحجرات: 13].
كما أن الحلم الذي يراود خيال الفلاسفة والشعراء على السواء، حلم توحد الإنسانية على خير ما في الماضي والحاضر وخير ما في الشرق والغرب، إنما هو متحقق في الإسلام وحده؛ إذ الأمة الإسلامية تتجاوز كل حواجز الاختلاف التي يظنونها مُفضيةً إلى التنازع والتقاتل؛ فرابطة الدين تجمعها وتتفوق على روابط اللون والعرق والأرض واللغة والجغرافيا والتاريخ، فكل من أسلم لله إنما هو فرد في هذه الأمة سواء كان في الشرق أو في الغرب، وهذا هو الاجتماع على “الفكرة، القيمة، المطلق … “، فالاجتماع على الدين هو في حقيقته اجتماع على خير ما في الإنسانية شرقها وغربها ماضيها وحاضرها.
على أن لهذا المعنى تفصيل ليس الآن مقام بيانه! فنتركه لموضع آخر إن شاء الله.
(1) ريتشارد كوك وكريس سميث: انتحار الغرب ص49، 50.