جدد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان حديثه مرة أخرى عن تطبيع علاقات بلاده مع مصر حين أشار في تصريحات له الإثنين 25 يوليو/تموز 2022 إلى أنه لا يوجد أي مانع من إجراء محادثات رفيعة المستوى مع القاهرة “من أجل تطبيع العلاقات التي لا تزال الجهود بشأنها تراوح مكانها منذ أكثر من عام على إطلاق المحادثات الأولية بين البلدين العام الماضي ورغبة أنقرة في تسريعها”.
تأتي تصريحات أردوغان بعد 4 أيام فقط مما أدلى به وزير خارجيته مولود جاويش أوغلو حين تحدث عما وصفه بـ”بطء” تطور العلاقات المصرية التركية، مؤكدًا أن بلاده ستعمل على اتخاذ خطوات إضافية للتقارب مع الجانب المصري، وفق ما نقلته قناة “تي آر تي خبر”.
وتحاول كل من القاهرة وأنقرة منذ بداية العام الحاليّ تفتيت كرة الثلج بينهما وإحداث أي خروقات في جدار العلاقات الصلب بعد أكثر من 8 سنوات من التوتر منذ الانقلاب العسكري في 2013، وسط حزمة من التحديات الإقليمية والدولية التي دفعت الطرفين للتراجع خطوات للخلف في مسار تطبيع العلاقات لبلورة موقف إقليمي موحد لمواجهتها.
كانت انطلاقة الحوار قبل عدة أشهر بناءة بشكل كبير، فقد اتخذ البلدان بعض الإجراءات التي يمكن البناء عليها لتطبيع كامل، وكثيرًا ما خطبت أنقرة ود القاهرة عبر تصريحات إيجابية لكبار مسؤوليها، قوبلت بتصريحات موازية في ذات السياق من الجانب المصري الذي أبدى ترحيبه أكثر من مرة بهذا المسار، لكن تباطؤه في إحداث أي اختراقات إيجابية في هذا الملف أثار الكثير من التساؤلات عن هذا التلكؤ رغم المحددات الضرورية الدافعة لكلا البلدين لتعزيز التقارب اليوم قبل الغد.
مؤشرات التقارب
بدأت إرهاصات التقارب بين البلدين بدايات 2021 حين استقر في يقين نظامي الحكم في القاهرة وأنقرة أن الصدام المستمر وتصعيد التوتر لن يقود إلى شيء، وأن كليهما خاسر في هذا التناطح الذي بات واضحًا إطالة أمده ما يستنزف طاقة الدولتين ويقوض نفوذهما إقليميًا، فبدأت المغازلات المتبادلة التي لم تتجاوز بعض التصريحات الإعلامية والإيماءات الإيجابية.
العديد من المؤشرات شهدتها الساحة مؤخرًا كشفت رغبة البلدين في التقارب وتخفيف حدة التوتر، أبرزها مراعاة مصر للمصالح التركية في شرق المتوسط حين رفضت الرضوخ لمساعي فرنسا واليونان لتقويض مصالح تركيا في جزيرة كريت خلال اتفاق ترسيم الحدود الذي وقعته القاهرة مع أثينا في 2020، ثم رفض الانضمام للمنتدى الرباعي (الإمارات – قبرص – اليونان – “إسرائيل”) الرامي إلى السيطرة على ثروات شرق المتوسط الذي أعلنته تل أبيب في أبريل/نيسان 2021.
كما حرص الطرفان على مراعاة مصالح بعضهما البعض في الملف الليبي، فرغم الخلاف البيّن بينهما في إدارة هذا الملف، فإنهما تجنبا أي تصعيد في منسوب التوتر، حيث التزما بخريطة طريق سياسية لحلحلة الأزمة، تراعي مخاوف الأمن القومي المصري من جانب، والعلاقات التركية الليبية من جانب آخر، هذا بخلاف التنسيق الكبير بين جهازي الاستخبارات لدى البلدين ليبيا.
لا يمكن قراءة التقارب المصري التركي بمعزل عن التطورات الإقليمية والدولية التي فرضت تموضعات جديدة دفعت إلى إعادة النظر في المواقف والتوجهات
وفي السياق ذاته توقف الخطاب الإعلامي العدائي بين البلدين، فالتزما بهدنة ضمنية تتضمن عدم استهداف نظامي الحكم هنا وهناك، مع غلق بعض المنصات الإعلامية المصرية المعارضة في تركيا مثل قناتي “مكملين” و”الشرق” نظير غلق بعض المواقع الصحفية التي كانت تستهدف أنقرة ليل نهار وعلى رأسها موقع “تركيا الآن ” و”المدار”.
وحافظ البلدان قدر الإمكان على استمرار أواصر التعاون بينهما رغم خلافاتهما السياسية، إذ احتلت تركيا صدارة قائمة الدول الأكثر احتضانًا للصادرات المصرية خلال العام الماضي، وبحسب الأرقام الرسمية الصادرة عن الجهاز المركزي المصري للمحاسبات فإن الصادرات المصرية لتركيا ارتفعت من 1.7 مليار دولار عام 2020 إلى 2.9 مليار دولار في 2021، وفي المقابل زاد حجم الواردات المصرية من المنتجات التركية بنسبة 13% في نفس الفترة، فيما قفزت معدلات التبادل التجاري بين البلدين بنسب تجاوزت 33%.
استجابة للتحديات
لا يمكن قراءة التقارب المصري التركي بمعزل عن التطورات الإقليمية والدولية التي فرضت تموضعات جديدة دفعت إلى إعادة النظر في المواقف والتوجهات، ومن ثم كان لها تأثيرها الواضح على خريطة التحالفات، فالإطاحة بالرئيس الأمريكي دونالد ترامب بتوجهاته الحمائية الشعبوية في التعاطي مع القضايا العربية، وخلافة جو بايدن له بسياساته المتأرجحة إزاء الشرق الأوسط، والتخلي تدريجيًا عن ضمانات بلاده التأمينية لدول الإقليم في أعقاب الانسحاب المتتالي لقوات بلاده من بعض النقاط الساخنة في المنطقة، أضفت حزمة تهديدات وتحديات خيمت على الأجواء برمتها.
عزز من تلك التحديات تداعيات جائحة كورونا التي ألقت بظلالها القاتمة على اقتصادات دول الشرق الأوسط، أعقبها الحرب الروسية الأوكرانية، التي أحدثت تغيرات كبيرة في خريطة العالم وأجبرت الدول على إعادة النظر في مواقفها تماشيًا مع حرب الاستقطابات التي تشنها موسكو وواشنطن مؤخرًا.
كل هذا كان دافعًا ومحفزًا كبيرًا لدول الإقليم وفي المقدمة منها مصر وتركيا كونهما الأكبر والأكثر نفوذًا وحضورًا، لبلورة موقف موحد لمواجهة تلك التحديات، وعليه لا يمكن النظر إلى خطوات التقارب بين البلدين على أنها مبادرات منفصلة بحسب المحلل السياسي، علي باكير، الباحث في مركز ابن خلدون للأبحاث بجامعة قطر، مؤكدًا أنها جزء من عملية تطبيع إقليمية شاملة مدفوعة بالتطورات التي تشهدها الساحة مؤخرًا، وفق تصريحاته لـ”الأناضول“.
ومن المنطلق ذاته يمكن قراءة موجة التطبيع التي شهدتها المنطقة خلال الأشهر الأخيرة، التي فرضت الكثير من التموضوعات الإقليمية المغايرة لما كان عليه الوضع في السابق، السعودية وتركيا، قطر ودول الخليج، الإمارات وتركيا، زيادة رقعة التطبيع العربي الإسرائيلي عبر اتفاقية “أبراهام”، وكلها محفزات نحو الإسراع بخطى التقارب بين القاهرة وأنقرة.
علامة استفهام
بداية لا بد من الإشارة إلى أن التقارب بين البلدين لم يصب في صالح تركيا فقط، كما أن دوافع هذه الخطوة موجودة لدى الطرفين وبنفس المنسوب تقريبًا، وكلاهما يدفع ثمن عرقلة الخصومة والعداء الممتدة لـ8 سنوات كاملة، وهنا تساؤل يفرض نفسه: لماذا التباطؤ المصري وتجاهل رسائل الغزل التركية التي تقدمها أنقرة بين الحين والآخر؟
مساعد وزير الخارجية المصري الأسبق، السفير رخا أحمد حسن، عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية، يرجع هذا التباطؤ إلى تحفظات القاهرة على إدارة أنقرة للملف الليبي رغم التنسيق بينهما مؤخرًا، منوهًا أن استمرار وجود ما أسماهم “المرتزقة” المدعومين من تركيا داخل الأراضي الليبية أمر غير مقبول بالنسبة لمصر.
وأضاف الدبلوماسي المصري في تصريحات صحفية لـ”الشرق الأوسط” أن الإبقاء على أنشطة جماعة الإخوان المسلمين في تركيا واستمرار عقد اللقاءات والاجتماعات بين قادتها وإن كان بشكل غير معلن يمثل عقبة كبيرة أمام التجاوب المصري مع التحركات التركية الإيجابية نحو التقارب.
لافتًا أنه رغم الخطوات التي اتخذتها أنقرة كوقف المنصات الإعلامية المحرضة ضد مصر، فإن ترك نشاطات الجماعة (كورقة ضغط بيد أنقرة) وتباين وجهات النظر في الملف الليبي من شأنه أن يعرقل مسيرة العلاقات، مؤكدًا على أنه “ما زالت هناك (خطوات) لا بد أن تتخذها تركيا، لأن التصريحات وحدها لا تكفي، ومطلوب (خطوات على الأرض)”، وتابع “الأزمة في الأساس هي النقاط المتبقية”، على حد قوله، وهو الرأي ذاته الذي توصل إليه السفير المصري جمال بيومي الذي حمّل استضافة إسطنبول لعناصر الإخوان واستمرار نشاطاتهم المعادية للقاهرة المسؤولية الكبرى في تجاهل مصر للمغازلات التركية.
وفق حسابات القاهرة الخاصة فإنها تتحرك بخطوات متباطئة في ملف التقارب مع أنقرة مستفيدة من ميل ميزان التوازن الإقليمي لصالحها نسبيًا في ضوء شبكة العلاقات الجيدة التي تجمعها بالحكومات ذات الثراء المالي والنفطي والسياسي، بينما تهرول تركيا لتصفير أزماتها على أمل إنقاذ الوضع الاقتصادي المتردي ولو على حساب المرتكزات والأيديولوجيات السياسية
الحسابات السياسية المصرية فيما يتعلق بتحالفها مع فرنسا واليونان وقبرص كان لها صداها الواضح في تباطؤ التقارب مع تركيا في الوقت الراهن، وهو ما ألمح إليه المحلل السياسي التركي، فراس رضوان أوغلو، في حديثه لـ”بي بي سي عربي”، الذي أرجع سهولة ومرونة التقارب المصري القطري مقارنة بنظيره المصري التركي إلى أن قطر لم تكن في صراع مع هذا الثلاثي مقارنة بتركيا التي تحيا علاقات متوترة معهم، ومن ثم فإن علاقة القاهرة الوثيقة بهذا التحالف تشكل عامل ضغط قوي يحول دون إسراع الخطى نحو أنقرة.
يعلم الجانب المصري جيدًا أن تركيا ما تحركت إلا استجابة للتحديات الراهنة التي لولاها لما كان هذا التودد مع نظام تتقاطع معه كل التوجهات والرؤى، وعليه ووفق حسابات القاهرة الخاصة تتحرك بخطوات متباطئة مستفيدة من ميل ميزان التوازن الإقليمي لصالحها نسبيًا في ضوء شبكة العلاقات الجيدة التي تجمعها بالحكومات ذات الثراء المالي والنفطي والسياسي، بينما تهرول أنقرة لتصفير أزماتها على أمل إنقاذ الوضع الاقتصادي المتردي ولو على حساب المرتكزات والأيديولوجيات السياسية، إذ قد يحمل هذا الوضع تهديدًا كبيرًا لمستقبل أردوغان وحزب العدالة والتنمية خلال الماراثون الانتخابي العام المقبل.
في ضوء ما سبق، يمكن القول إن التطبيع المصري التركي – ولو في مستوياته المتدنية – مسألة وقت لا أكثر، في ظل التحديات الراهنة، غير أن القاهرة وبمنطق برغماتي بحت ستحاول تحقيق أقصى استفادة ممكنة من وراء الرغبة التركية في إنجاز خطوات سريعة في هذا الملف وذلك عبر التلكؤ والتجاهل النسبي – دون غلق الباب بالكلية – بما يدفع أنقرة لتقديم المزيد من التنازلات والتعاطي مع التحفظات المصرية خاصة فيما يتعلق بملفي الإخوان وليبيا.. فهل تستجيب تركيا؟