هل يطلب ابنك بعض الألعاب التي لم تسمع بها من قبل، ويحرص على إجراء مقالب غريبة بشكل متكرر؟ وهل أصبحت طفلتك مهتمة بجمع الدمى المخيفة بصورة مفاجئة؟ لا يبدو أن الإعلانات التجارية الرقمية هي التي تؤثر وحدها على قوائم الرغبات الخاصة بالهدايا بين معظم الأطفال، بل المحتوى تلك المنصات بحد ذاته هو الذي يتحكم بكل شيء، بالأخص يوتيوب، وذلك بعد أن أصبح المؤثرون وصانعو المحتوى من الأطفال يبدعون في صناعة المقالب والتحديات بذريعة الفكاهة والتسلية.
مجرد البحث عبر يوتيوب عن “مقالب أطفال”، سيصدمك ما سيظهر لك من صور ومشاهد عنيفة، السواد الأعظم فيها من مقالب الموت الوهمي والتشهير بالأخطاء، لتسأل نفسك لحظتها ما وقع ذلك على الطفل؟ ماذا لو قلّد صغيري ذلك كله؟ بالتأكيد ستقضي عمرًا في معالجة آثار هذه الكوارث نفسيًّا أو ما رسخ في ذهنه من مشاهد وتصورات خاطئة.
في هذا الخصوص، حاور “نون بوست” مروة نجم التي عانت كثيرًا من تقليد ابنها الأكبر مقالب إحدى القنوات الأجنبية عبر يوتيوب، وتستذكر كيف غطّى صغيرتها الرضيعة بالكاتشب الحار، ليوهم الأهل بأنها سقطت من أعلى الدرج، ما أصاب الأهل بالهستيريا قبل أن يبدأ بالضحك. لم يكن هذا المقلب الوحيد، حيث تقول الأم الثلاثينية: “وقتها أدركت خطر ما يشاهده وما كنت على غير علم بوصول ابني، الذي لم يبلغ الـ 6 أعوام، إلى مثل هذه القنوات”، لتتخذ خطوة حرمانه من الهاتف رغم محاولته للتراجُع بالبكاء والاستعطاف.
فيما تسرد رانيا عبد الهادي، أأم لـ 5 أطفال، لـ”نون بوست” عن هوس ابنها الأوسط بتطبيق كل ما يراه من مقالب، وكيف أشعل النار بالمطبخ، وأضاف الفلفل الأسود إلى سجائر والده، وأخفى القطة داخل الغسالة. ولم تحظَ هذه الأم، لقلّة خبرتها، بطرق فعّالة تعالج السلوك الطفل الذي قارب الـ 10 سنوات، سوى اللجوء إلى الضرب والتشديد، لأن الحديث معه لم يأتِ بنتيجة رادعة، وفق حديثها، لكنها مع ذلك تشفق على حاله.
إن ما يجذب الأطفال إلى يوتيوب هو سهولة استخدامه وسرعة الوصول إليه، حيث بضغطة زر أو بلمسة شاشة يستطيع الطفل أن يتجول داخل التطبيق، ويبحث عمّا يريده ويكتشف المزيد
لماذا ينجذب الأطفال إلى يوتيوب؟
وجدت إحدى الدراسات المحدودة التي أُجريت على أكثر من 8 آلاف طفل أمريكي، ونُشرت في موقع Cision PR للأبحاث، أن يوتيوب هو التطبيق الأكثر شعبية لدى الأطفال، والوسيلة الترفيهية الأحب إليهم، متجاوزًا في المنافسة محبّة الأطفال لألعاب المكعّبات الشهيرة ليغو، وحتى حلوى أوريو.
وقد وجد استطلاع في “ذي إيكونوميست” و”وايرد” أن الأطفال الذين تقلّ أعمارهم عن 4 سنوات يقضون في المتوسط أكثر من ساعة على الموقع، ويؤكّد الاستطلاع أن “خوارزمية يوتيوب صُمِّمت بطريقة تحرص على إطالة وقت المشاهدة التدريجي للزائرين، والعمل على إبقاء الأشخاص مدمنين على مقاطعه القصيرة”.
في تفاصيل ذلك، تقول المدونة المصرية والمختصة بالتربية الخاصة للطفل بجامعة أنقرة، آلاء مهدي، إن ما يجذب الأطفال إلى يوتيوب هو سهولة استخدامه وسرعة الوصول إليه، حيث بضغطة زر أو بلمسة شاشة يستطيع الطفل أن يتجوّل داخل التطبيق، ويبحث عمّا يريده ويكتشف المزيد.
وتضيف خلال حديثها مع” نون بوست”، أن كثرة الإثارة البصرية والمغامرة والموسيقى التصويرية تجذب أي طفل، حتى لو كان بعمر صغير، أيضًا لكونها تداعب خصائص الطفل وتحاكي سلوكيات معيّنة داخله، حيث تساعده على التجربة، إذ لا تتوقف المخاطر عند المشاهدة أو إدمان المشاهدة، فتقليد ما يُبَثّ من محتوى، سواء كان مناسبًا أو لا، كان المشكلة الأكثر تعقيدًا ومعاناةً لدى الأمهات.
في هذه النقطة تشكو مها السقا، معلمة وأم لـ 3 أولاد، أن هذه المقالب كانت بدايةً مضحكة ومسلية بالنسبة إلى أبنائها، قبل أن تتحول متابعتهم لها إلى التقليد والتطبيق، مضيفة: “كانت مؤذية في أوقات كثيرة، للأسف تسبّبت في الشجار المتكرر والدائم بين الأبناء في البيت وخارجه. غير أن أذية الآخرين أصبحت شيئًا ممتعًا بالنسبة إليهم دون إدراك”.
بدورها توضّح الدكتورة في علم نفس الطفل، أسماء الفقي، أن لفت الانتباه هو أحد أسباب تطبيق “المقالب” التي تكون أكثر شيوعًا بين الأطفال، حيث تتميز بالمشاكسة والمداعبة والبراءة أيضًا، لكنها أحيانًا قد ترتبط بالسمات الشخصية للطفل، فليس كل طفل يحبّ المقالب.
وتضيف أن “الطفل الذي يقوم بعمل المقالب مع أصدقائه يكون غير قادر على أخذ حقه، فيلجأ إلى المقلب كوسيلة غير مباشرة للردّ على إساءة أحد أصدقائه أو التعبير عن الغضب”.
حينما نريد تعديل سلوك طفل لا بدَّ من البدء بتعديل البيئة المحيطة أولًا، فلا ينبغي أن تطلب من طفلك التوقف عن فعلٍ ما وأنت تقوم بمثله، من الجيد أن يكون الأب والأم قدوة صالحة لطفلهما
وتتابع الدكتورة الفقي، خلال حديثها لـ”نون بوست”، قائلة بأن تلك الممارسات تعود بشكل سلبي على الطفل بسبب نفور بعض أصدقائه من تصرفاته، في المقابل، قد تكون هذه المقالب مؤذية للطرف الآخر، كما أن لها تأثيرًا غير مباشر على العقل، حيث تدخل داخل العقل اللاواعي الذي يعمل عليها، بحيث يتشبّع بها ويقتنع بها ويحوّلها إلى أسلوب حياة، وهو الأسوأ.
وتكمن المشكلة في “حالة صغر السن الطفل إلى درجة لا تسمح له بالاستيعاب، فهذا يؤثر على نفسيته بل يعلمه التخطيط للأذى بشكل أو بآخر، إما بدافع التعبير عن الغضب بشكل غير مباشر وإما لمجرد التسلية وتضييع الوقت”، ما يجعله يرى أن السعادة تكمن في إيذاء الطرف الآخر، وفق قولها.
أما المختصة التربوية آلاء مهدي، تقول إن يوتيوب يعجّ بالأشياء السلبية التي يصعب السيطرة عليها، نظرًا إلى كثرة العروض والإعلانات المقترحة التي تروّج لسلوكيات غير لائقة، كذلك إن فيديوهات المقالب محتوى غير آمن يعلّم الطفل الأذى والعدوان، وصفات سلبية كالكذب والعنف وإيذاء الآخرين لأجل المتعة.
وأشارت إلى أن هذه الفيديوهات لا تحتوي على معايير آمنة للطفل، فهي تهدّد صحته النفسية من خلال مشاهد عنيفة وضارّة تؤثر على سلوكياته الشخصية والاجتماعية، مستطردة بالقول: “يتعوّد بأن يقضي وقتًا طويلًا في أشياء غير مفيدة، من هنا يتعلّم إضاعة الوقت والكسل، وإهدار الوقت دون هدف أو غاية فقط لأجل المتعة كالضحك والترفيه، وينشأ كشخص غير قادر على تحمُّل المسؤوليات مستقبلًا، كعدم الدراسة والقيام بالواجبات، لأنه اعتاد على إهدار الوقت بالترفيه فحسب”.
سبل المعالجة والبدائل المسلّية
شجّعت المختصة التربوية آلاء مهدي الآباء على اختيار بديل يسلي الأطفال بعيدًا عن يوتيوب، والبديل الأفضل من وجهة نظرها هو اختيار أفلام الرسوم المتحركة بعد مشاهدة الآباء لها، وتحميلها على جهاز الطفل لمشاهدتها، بدلًا من تركه للاستكشاف على تلك الشبكة الواسعة، والتي قد يجد فيها ما يصيبه بالأمراض النفسية والخلل الفكري، بالإضافة إلى وضع برنامج يحتوي على تعديل السلوك وخطط وأهداف مناسبة بيومه وعمره وروتينه، لإعادة تأهيله لحياة صحية وسليمة من جديد.
وتتابع بأنه “حينما نريد تعديل سلوك طفل لا بدَّ من البدء بتعديل البيئة المحيطة أولًا، فلا ينبغي أن تطلب من طفلك التوقف عن فعلٍ ما وأنت تقوم بمثله، من الجيد أن يكون الأب والأم قدوة صالحة لطفلهما”، منوّهة إلى أن الطفل يتعلّم من الأم والأب بنسبة 70% أكثر من تعلُّمه بالتلقين، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
وتنبّه المدونة المصرية بمجال الطفل إلى ضرورة اعتماد مبدأ الحوار والمناقشة في مشاهدة أفلام الرسوم المتحركة، والحديث مع الأطفال حول فكرة ورسالة وغاية الفيديو، والحرص على خلوه من المشتِّتات البصرية والسمعية غير الآمنة، لافتة إلى أن تلك المشتِّتات تجعله دائمًا يعاني من عدم التركيز أو ما يُعرَف باضطراب تشتُّت الانتباه والسلوك (ADHD)، الذي من أحد أسبابه هو اليوتيوب وترك الطفل مع الجهاز اللوحي لفترات طويلة.
الآن ربما حان الوقت لإيقاف هذا الأمر ووضع حدّ له، لكن ما البديل؟ ما الذي يمكن أن يفعله الطفل في هذا الوقت كي لا يبدأ في التذمر والشعور بالملل والعودة إلى إدمان الشاشات الإلكترونية مرة أخرى؟
تقول الدكتورة الفقي إنه لا بدَّ من استغلال وقت الطفل وإشغاله بالأنشطة البدنية والذهنية والحسّية المفيدة، وتفريغ طاقاته من خلالها، حتى يستطيع التعافي من الآثار السلبية العالقة داخله، مثل وجود نشاط رياضي يومي أو شبه يومي يمارسه الطفل في النادي أو في أي مكان مناسب بشكل جماعي.
وأيضًا توجيه الطفل لاكتشاف مواهبه وتنميتها، كالرسم أو الموسيقى أو الرياضة، وضرورة إشراكه في الرحلات المختلفة لتنمية شخصيته ومداركه، ما يعني استثمار وقته بشكل مفيد وممتع على أرض الواقع وليس الافتراضي.
وتبيّنُ أهمية تشجيع الأطفال على الاستفادة من يوتيوب بشكل مختلف، مثل الاستفادة من بعض الفيديوهات والبرامج التي تقوم بتعليم بعض برامج المهارات الذهنية، أو اللغات والبرمجة. وتنصح الدكتورة الفقي بتوظيف القصة والسرد في أوقات مناسبة يوميًّا، والتي من شأنها أن تعزز الثقافة والتعبير لدى الطفل، وتظهر ما يكنّه من تخيُّلات وتصورات تساعد الأم على اكتشاف ما يجول في خاطر صغيرها.
كيف تحمي أطفالك أثناء استخدام الأجهزة الإلكترونية؟
بحسب تقارير مختصة، يمكن للآباء التحكم باستعمال أطفالهم منصة يوتيوب بطرق مختلفة، حيث يمكنهم مثلًا تنشيط “الوضع المقيد”، وعندئذ يتمّ إخفاء مقاطع الفيديو التي تمَّ الإبلاغ عنها بواسطة المستخدمين الآخرين بأنها غير مناسبة، ومع ذلك أكّدت منصة يوتيوب أنه لا يوجد “فلتر” يعمل بنسبة 100%، كما أن الأطفال يمكنهم تعطيل “الوضع المقيد”.
كما يمكن تنزيل تطبيق يوتيوب كيدز (YouTube Kids)، حيث يمكن التحكم بالمحتويات غير المناسبة، وبالإضافة إلى ذلك يمكن للآباء إجراء بعض إعدادات الحماية من أجل التحكم بالمحتويات التي يشاهدها الأطفال.
ويوفر نظام تشغيل “غوغل أندرويد” خيارات لإعداد الأجهزة الجوالة لتكون آمنة للأطفال، حيث يمكن عن طريق القائمة في تطبيق “غوغل بلاي” تفعيل إعدادات حماية الأطفال، وبالتالي يتم تحديد الأفلام والموسيقى والتطبيقات حسب الفئة العمرية، بالإضافة إلى أنه يمكن في متجر “غوغل بلاي” طلب المصادقة عند كل عملية شراء، وبالتالي يتمّ منع عمليات الشراء غير المرغوب بها التي تتمّ بواسطة الأطفال.
وفي المقابل، يمكن إنشاء حساب مستخدِم خاص للأطفال، ويتمّ ربطه بحسابات غوغل الخاصة بالآباء، حتى يتمّ التحكم بإعدادات الأنشطة والأشياء المسموح أو غير المسموح بها للأطفال، وهناك العديد من التطبيقات مثل “فاميلي لينك” (Family Link) تتيح للآباء إمكانية إجراء التغييرات في الإعدادات أو إتاحة التطبيقات للأطفال أو حظرها.
ويتيح هذا التطبيق للآباء الوصول بشكل واسع النطاق إلى أجهزة الأبناء، بحيث يمكن حظرها عن بُعد، وبالنسبة إلى مستخدمي الهاتف الذكي آيفون والحاسوب اللوحي آيباد ومشغّل الموسيقى آيبود تاتش، فإنه يمكن في قائمة الإعدادات تحت بند “وقت الشاشة” حظر بعض التطبيقات والوظائف أو تقييدها.
وكذلك تنظيم كيفية التعامل مع المحتويات غير المناسبة وعمليات الشراء في متجر التطبيقات والتنزيلات، بالإضافة إلى إمكانية حظر بعض مواقع الويب وإخفاء بعض التطبيقات بالنسبة إلى الأطفال، ولكي يتمكّن الآباء من استعمال التطبيقات المحظورة أو إلغاء التقييدات، فإنه يتوجّب عليهم إنشاء كلمات مرور معيّنة وتذكُّرها.