وصلنا إلى المكان الذي طلب منا غانم المصارير الذهاب إليه، وكان الموقع عبارة عن مسار تصطف على جانبيه الأشجار يؤدي إلى غابة مظلمة وحقل من العشب الأخضر، لكننا لم نجد لغانم أي أثر. وعندما اتفقنا على الاجتماع على أطراف هذه الحديقة الريفية في ضواحي شمال غرب لندن، بدت لنا خطة غير عادية – لكن بالنسبة لغانم المصارير كانت منطقيةً.
بالعودة إلى سنة 2018، كان الرجل البالغ من العمر 42 سنة المقيم في المملكة المتحدة منذ 19 سنة، في ذروة تألقه المهني في حياة أسسها بنفسه. في ذلك الشهر، حقق برنامج “غانم شو” في قناته على اليوتيوب التي كانت تنتقد بشكل واضح – وفي بعض الأحيان بسخرية – العائلة المالكة السعودية إلى 300 مليون مشاهدة.
ومن بين الألقاب التي كان يطلقها المصارير على ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – الحاكم الفعلي للمملكة – الدب الداشر، التي تعني الدب السمين الضال. وقد تداولت منصات التواصل الاجتماعي هذا الوصف في مختلف أنحاء العالم العربي، وكتبت عنه صحيفة “الإيكونوميست“.
وفي إحدى حلقاته عن العاهل السعودي وابنه، قال غانم مازحًا “الآن، في عصر سالمانكو ودبه الضال، المعروف أيضا بصاحب السروال الداخلي المزدوج، سيقضي شخص ما سنوات وسنوات في السجن بسبب تغريدة”.
في وقت مبكر من مساء أحد أيام الجمعة من شهر آب/ أغسطس، وبينما كان يتجوّل في حي نايتسبريدج الراقي في لندن انقض عليه رجلان عبر شارع من هارودز بينما قام رجل ثالث بتصوير الهجوم، وسرعان ما انتشرت لقطات لما حدث على حسابات التواصل الاجتماعي المرتبطة بالحكومة السعودية. وكان المصارير على يقين من أن ما حل به كان بأمر من ولي العهد.
بعد ثلاثة أشهر، وفي غضون أسابيع من مقتل الصحفي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول، وصلت شرطة العاصمة إلى منزل المصارير بلندن لينبهوه إلى وجود تهديد حقيقي على حياته، وسرعان ما شعر غانم بالذعر.
في خضم كل هذه الأحداث، لاحظ المصارير شيئًا غريبًا في أجهزة آيفون الخاصة به، إذ كان شحن بطارياتها ينفذ بسرعة وكانت ترفض تنزيل أحدث البرامج. كان غانم في حيرة من أمره لذلك اتصل بمختبر “سيتيزن لاب”، وهي مجموعة من الأكاديميين في جامعة تورنتو الذين يركزون على تكنولوجيا الاتصالات وحقوق الإنسان والأمن العالمي.
أجرت المجموعة تحقيقا جنائيًا رقميًا واكتشفت أن هواتف غانم قد تعرضت لاختراق باستخدام برامج “بيغاسوس” للتجسس التابعة لمجموعة “إن إس أو” الإسرائيلية الذي يحول الهواتف إلى أجهزة مراقبة من الدرجة العسكرية. ووجد المحققون أن تحركات المصارير ومحادثاته وصوره ورسائله قد تم إرسالها جميعًا إلى خادم سعودي.
لقد مرت الآن أربع سنوات على الواقعة. التقيت أنا وأحد المصورين مع المصارير في نقطة حددها على خريطة في هذه الحديقة الريفية. وفي هذه الأيام، أخبرني من خلال تطبيق مشفر أنه من الأفضل عدم التصوير في منزله. لقد شاهدت مقاطع من برنامجه ومقابلة أجراها مع القناة الرابعة في كانون الثاني/ يناير 2020، حيث كان يثرثر لدرجة أن مقدم البرنامج اضطر إلى إيقافه. كنت أتوقع أن يقفز غانم من بين الأشجار أو ينزل من الشاحنة البيضاء المتوقفة في الجوار.
وبينما نحن كذلك، مشى شخص باتجاهي مباشرة. وعندما قدّم نفسه، أدركت أن الرجل الذي يقف أمامي مرتديا وشاحًا سميكًا وسترة من جلد الغزال الثقيل في هذا اليوم الحار من شهر حزيران/ يونيو هو مقدم برنامج “غانم شو” – أو على الأقل، كان كذلك. أخبرني المصارير بعد أن وجدنا جذع شجرة مسطح للجلوس عليه أنه توقف عن التصوير بعد أحداث 2018. وأوضح وهو يراقب بحذر شخصا يمشي مع كلبه، وعائلة ورجلين كانوا مارين بالجوار “لم أستطع تقديم برنامجي، لم أستطع فعل أي شيء”.
كانت هناك محاولات سابقة لإسكاته، وقد أغلِقت قناته على اليوتيوب مرتين بناء على طلب من وكالة الإذاعة السعودية. وكان قد تلقى تهديدات بالقتل ومكالمات هاتفية. وتحت حماية الشرطة وخوفه من السفر إلى أي مكان في وسط لندن، ضاقت الحياة على المصارير. وهو يقول “لقد أثرت القرصنة على حياتي العملية والشخصية على حد سواء، وعلى كل شيء تقريبًا. لقد دمرت رغبتي في فعل أي شيء لأكون صادقًا”.
بيغاسوس في المملكة المتحدة
خلال السنة الماضية، بدأت قصص الناشطين والصحفيين والسياسيين وغيرهم من كل قارة تقريبًا في الظهور لأنهم كانوا أهدافًا مزعومة لهجمات برامج التجسس التي ترعاها الدولة. ويتعلق معظمها ببرامج “بيغاسوس” وتسريب القائمة التي تحتوي على أكثر من 50 ألف رقم هاتف. وكان من بينهم طاقم ميدل إيست آي.
لكن الحجم الهائل لوثائق “بيغاسوس” – التي كانت مجرد تسريب واحد حول نوع واحد من برامج التجسس – لم ترصد تأثير القرصنة على حياة أهدافها. كان المعارضون العرب من أبرز هذه الأهداف، حيث عاشوا لعقود في المملكة المتحدة هربًا من الحكومات القمعية معتقدين أنهم يستطيعون العيش والتحدث بحرية. ولكنهم يتساءلون الآن عما إذا كانت منازلهم آمنة كما كانوا يعتبرونها في السابق – أو ربما أرادوا تصديق ذلك.
يقولون إن مخاوفهم زادت بسبب استجابة الحكومة البريطانية الصامتة على الهجمات التي تعرضوا لها ونقص المتابعة من قبل أي وكالة لإنفاذ القانون في المملكة المتحدة. ويتساءل المعارضون عما يمكن أن يمنع استهدافهم مرة أخرى؟ وحسب مختبر “سيتيزن لاب”، فإن الإمارات العربية المتحدة استخدمت برامج “بيغاسوس” لاستهداف داونينغ ستريت ووزارة الخارجية على الأرجح.
على غرار المصارير، كان جميع المعارضين الذين قابلهم موقع “ميدل إيست آي” من أجل تغطية هذه القصة يدركون أن المملكة المتحدة ليست آمنة حتى قبل تعرّضهم للاختراق. نجا أحدهم من محاولة حرق متعمد في الصباح الباكر لمنزل عائلته. وعثر آخر على سكين كبير خارج نافذة مطبخه في نفس اليوم الذي تلقى فيه رسائل بها رموز تعبيرية لسكين كُتب عليها “قريبًا”.
وأغلِق حساب مصرفي بريطاني لاثنين آخرين – وحسابات أفراد عائلتهما – بعد أن صنفت الإمارات المنظمات التي تتخذ من بريطانيا مقراً لها والتي يديرونها منظمات إرهابية. لكن المعارضين يقولون إن القرصنة أثرت على حياتهم بطريقة أخرى. على حد تعبيرهم، هناك شيء محزن للغاية حول كيفية اختراق حياتهم الخاصة في الفضاء الافتراضي، دون علمهم ودون شهود آخرين، في الوقت الفعلي.
إنها صدمة غير مرئية لكنها حقيقية للغاية وقوية تعرفها خبيرة الحقوق الرقمية مروة فطافطة، مديرة سياسات منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في منظمة “أكسيس ناو”، فور أن أخبرتها بالقصص التي أسمعها. وتقول فطافطة إن “المراقبة هي شكل من أشكال العنف، فهي تنتهك خصوصيتك، وتنتهك كرامتك، وتنتهك وكالتك. أنت دائمًا في حالة دائمة من الخوف والقلق، ليس فقط بشأن نفسك ولكن أيضًا بشأن الآخرين”.
اتخذ الرجال الستة الذين تحدثت إليهم إجراءات قانونية في المملكة المتحدة ضد البحرين والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، وجميعهم يتهمون هذه الدول باستهدافهم في مناسبات منفصلة ويأملون أن تتصرف المحاكم البريطانية، وهم يشعرون أن الحكومة البريطانية ووكالات إنفاذ القانون قد فشلت
من المقرر إصدار حكم وشيك في القضية التي رفعها المصارير ضد المملكة العربية السعودية بشأن مزاعم برامج التجسس وكذلك هجوم الشارع في آب/ أغسطس 2018. ولكنه لن يكون حكما نهائيا، وبدلا من ذلك، ستقرر المحكمة ما إذا كانت قضية المصارير الخاصة بالإصابات والأضرار ضد المملكة يمكن أن تمضي قدما. عادة ما تكون الدولة محمية من معظم الدعاوى القضائية في المملكة المتحدة ، وذلك بفضل قانون حصانة الدولة لسنة 1978، الذي تم سنه قبل ظهور برامج التجسس.
في المقابل، يجادل محامو المصارير، التابعين لشركة المحاماة البريطانية “لي داي”، بأن ما حدث له استثناء. ستكون قضيته أول حكم تصدره محكمة بريطانية يشمل برامج تجسس ودولة أجنبية، ويمكن أن تشكل سابقة لمعارضين آخرين في المملكة المتحدة ممن تم استهدافهم. ووفقا للمحامين وخبراء المراقبة، قد يمثّل ذلك أيضا مصدر إلهام للتقاضي في المستقبل في جميع أنحاء العالم.
طلب “ميدل إيست آي” من الحكومات السعودية والإماراتية والبحرينية التعليق على الإجراءات القانونية في المملكة المتحدة، لكن لم يرد أي منها.
أنَس التكريتي، البالغ من العمر 53 عاما، هو بريطاني من أصل عراقي وكان والده شخصية معارضة بارزة ضد نظام حزب البعث. هاجرت عائلته إلى العراق نحو المملكة المتحدة عندما كان التكريتي طفلا صغيرا، وقضى الكثير من سنوات مراهقته وأوائل العشرينات من عمره في الإمارات العربية المتحدة أين التحق بالمدرسة. عاد التكريتي إلى المملكة المتحدة حيث قام بحملة ضد الحرب والديمقراطية في الشرق الأوسط، وأدار مؤسسة تعزز الحوار بين الإسلام والغرب، وعمل مفاوض رهائن.
بفضل شخصيته المتوازنة والصريحة، يواصل التكريتي حديثه بكل طلاقة حتى مع نزول المطر علينا، لكنني مندهشة من أن هذه هي المرة الأولى على مدى عدة سنوات، من بين العديد من المقابلات، التي اسمعه فيها وهو يعبّر عن مشاعره بينما يشرح تأثير المراقبة الرقمية على حياته: “إنه ذلك الشيء غير المرئي، والتسلل من خلفك في أكثر مكان آمن ومقدس بالنسبة لك”.
أسس التكريتي مؤسسة قرطبة سنة 2005، وهي تشجع الحوار بين الغرب والإسلام، فضلا عن تقديم المشورة للسياسيين بشأن الشؤون الإستراتيجية والأمن في الشرق الأوسط. في سنة 2014، تم تصنيف مؤسسته منظمةً إرهابية من قبل الإمارات العربية المتحدة، لكن حكومة المملكة المتحدة لم تقدم أي تعليق، مما أثار دهشة التكريتي، الذي وجّه حديثه إلى الحكومة البريطانية قائلا: “على الأقل برّئي اسمك، لا تهتمي بي أو بقرطبة”.
.أضاف التكريتي: “لقد شوّه ذلك انطباعي عن مدى أهميّة أن تكون مواطنا بريطانيا. لكن ربما يكون ما حدث هو نهاية ذلك التفكير”
علِم التكريتي الصيف الماضي أن المحققين الشرعيين يعتقدون أن الإمارات العربية المتحدة قد اخترقت جهاز الآيفون الخاص به من خلال برنامج بيغاسوس. ومنذ ذلك الحين، طلب من الناس عدم إخباره بأسرارهم، وهو أمر صعب بعض الشيء عندما تكون شخصا يقدم المشورة السياسية للقادة ويُجري مفاوضات حول الرهائن من أجل لقمة العيش.
لقد تلاشت الآن رغبة التكريتي في التعامل عن بعد مع المعلومات التي تكون غير قابلة للنشر، وأشار قائلا: “أصبحت أخبرهم: “الأفضل أن لا تخبرني بشيء خاص إلا إذا كنت مضطرًا لذلك لأنني لا أعرف ما إذا كنت أنا الشخص الوحيد الذي يستمع إلى هذا الحديث””.
قبل أحداث الصيف الماضي، كان هاتف التكريتي ملتصقا به وكان جاهزا للرد عليه في أي لحظة. واليوم، لم يعد متأكد مما إذا كان يريده بالقرب منه مرة أخرى، كما يشعر المقربون منه بنفس الشعور. وذكر التكريتي وهو يهز كتفيه: “كنت مع مجموعة من الأصدقاء وضحكوا قائلين: “يجب أن نكون حذرين، فأنس يحمل هاتفه. لقد كان ذلك أمرا غير مريح”.
من اخترق الهواتف؟
لقد كنت جالسة مع محمد كوزبار، البالغ من العمر 56 سنة، ورئيس مسجد فينزبري بارك في شمال لندن بعد يومين من انتهاء شهر رمضان في قاعة الصلاة الفارغة والهادئة بالمسجد، والأرضية الناعمة تحت أقدامنا بينما يهب النسيم من نافذة مفتوحة. يتمتع كوزبار أيضا بشخصيّة هادئة، حيث يجلس بجسده الطويل بلطف على الكرسي، ومع ذلك كان من الواضح أنه لم يكن مرتاحًا في الحديث عن نفسه.
وصل كوزبار إلى بريطانيا في سنة 1990 قادما من لبنان، الذي دمرته الحرب الأهلية التي طال أمدها. ومنذ ذلك الحين، ركز على بناء الجالية المسلمة في بريطانيا: فهو من بين أولئك الذين يُنسب إليهم الفضل في تغيير مسجد فينسبري بارك بعد أن هيمن عليه رجل الدين المصري أبو حمزة. وباعتباره إمام المسجد، شجع حمزة أتباعه على القتال خارج البلاد وأدانته لاحقا إحدى المحاكم البريطانية بتهمة التحريض على العنف قبل تسليمه إلى الولايات المتحدة حيث أدين بتهم الإرهاب وسُجن مدى الحياة.
يجلب كوزبار بانتظام وفودًا دولية لإنفاذ القانون لزيارة المسجد والتعلّم من الطريقة التي تمكنوا بها من التخلّص من نفوذ حمزة.
في تموز/ يوليو الماضي، اكتشف كوزبار أيضًا أن رقمه كان مدرجًا في القائمة المسربة ومن المحتمل أن تكون الإمارات العربية المتحدة قد استهدفته. قام “سيتيزن لاب” بتفتيش هاتفه وأكد أنه تم اختراقه بواسطة برنامج بيغاسوس، لكنه ليس متأكدا من السبب، أو ما إذا كان ذلك فقط لأنه ندد سابقا بسجل انتهاكات حقوق الإنسان في الإمارات العربية المتحدة.
ومثل التكريتي، تم إغلاق حساباته المصرفية البريطانية عندما أعلنت الإمارات العربية المتحدة أن الرابطة الإسلامية في بريطانيا، التي تولى فيها هو والتكريتي مناصب قيادية، كيان إرهابي.
يتذكر كوزبار اللحظة، وهو جالس في المسجد، عندما أخبره أحد المراسلين بما حدث لهاتفه: “سألته: هل أنت متأكد بنسبة 100 بالمئة؟ فقال: “نعم، أنا متأكد بنسبة 100 بالمئة.” وبعد ساعات، أوضح كوزبار لزوجته وأطفاله أن الصور والمحادثات التي شاركوها لم تكن خاصة، وقد أزعجته بشكل خاص فكرة انتهاك خصوصية عائلته.
سأله ابنه البالغ من العمر 13 عاما: “ما الذي فعلته يا بابا؟”. قال كوزبار بصوت متقطّع: “لم تكن لدي إجابة. فأجبته: “لم أفعل أي شيئا”. واليوم يتساءل كوزبار ما إذا كان هناك ملف يضم الرسائل والصور الخاصة بعائلته وأين قد يكون مخبأ.
من جهته، يقول التكريتي إنه ليس لديه شك في أن المعلومات التي تم جمعها عندما تم اختراق هاتفه قد استخدمت بالفعل. في الوقت الذي قال فيه المحققون إنه تعرض للاختراق، كان التكريتي مشاركا في أربع مفاوضات بإطلاق سراح الرهائن، ولم يكن أي منها يتعلق بالإمارات العربية المتحدة.
كانت إحدى هذه المفاوضات على وجه الخصوص، لتأمين إطلاق سراح شابة، قد بلغت مراحلها النهائية لكن التكريتي قال إن جميع الاتصالات توقفت قبل عقد الصفقة وإطلاق سراح الرهينة. وأضاف: “لقد تفاوضت على الأرجح في 31 أو 32 حالة ولم يسبق أن حدث أبدا ما وصفته لك للتو”.
لقد كان ذلك قبل عامين، وحتى يومنا هذا، ليس لدى التكريتي أي فكرة عن مكان تواجد المرأة أو الحالة التي هي فيها أو ما حدث للناس في المنطقة الذين حاولوا تحريرها، إذ يقول: “الله وحده يعلم نوع الخطر الذي تعرضوا له نتيجة لذلك”.
كافح التكريتي ليقرر ما إذا كان سيخبر أسرة المرأة أن هاتفه قد تعرض للاختراق حينها، إذ يشعر بأنه مثقل بالعبء لأنه يعلم سبب فشل الصفقة، لكنه قرر أن معرفة التفاصيل لن تفيدهم. وقد كان يسعل خلال حديثه ويبدو كأنه فقد الكلمات بشكل غير معهود.
أضاف التكريتي: “الشخص الذي كانوا يعلقون عليه الكثير من الأمل لم يكن آمنا كما كانوا يأملون. لم يكن بإمكاني فعل أي شيء، ولم أكن أدرك ذلك في ذلك الوقت، ولم أكن أدرك ذلك حتى بعد أن تدهور الوضع”، مع العلم أن المحامين المتدخلين في الدعوى القانونية الجارية الآن يقولون إنها كانت واحدة من أقسى الضربات لعملائهم ولا تزال تثير قلقهم حتى الآن.
تقول مونيكا سوبيكي، الشريكة في مكتب المحاماة البريطاني “بيندمانز” الذي يمثله كل من كوزبار والتكريتي: “إذا كان من الممكن نشر دليل ضدك في إحدى المرات، فما هو الضمان أنه لن يتم استخدامه ضدك الآن؟” وأضافت أن “ما يحدث يخلق نوعا من البانوبتيكون – أي أن يتحول العالم إلى سجن بالنسبة لك – حيث لا يوجد مكان يمكنك أن تكون فيه آمنا من مضطهديك لأنه حتى لو انتقلت إلى ما يعتبر ديمقراطية غربية آمنة ومستقرة، فلا يزال من الممكن تتبعك واضطهادك”.
يؤكد يحيى العسيري أنه غير مرتاح. وقد صرح لي من مكتب لندن في منظمة القسط لحقوق الإنسان، وهي منظمة حقوقية أنشاها في سنة 2014 بعد أن ترك حياته المزدوجة في المملكة العربية السعودية. ويوضح “بصراحة، أنا لا أشعر بالأمان في هذا البلد”.
ظاهريًا، كان العسيري ضابطًا في القوات الجوية السعودية مكلفًا بشراء الأسلحة. لكنه كان يستخدم أيضًا اسما مستعارا على الإنترنت “أبو فارس” لإثارة مخاوف بشأن قضايا مثل الفقر والبطالة والقمع. في نهاية المطاف، كان سيُقبض عليه. في سنة 2014، كان يدرس حقوق الإنسان في جامعة كينغستون في جنوب غرب لندن عندما سمع من أصدقاء في المملكة العربية السعودية أن قوات الأمن تسأل عنه. عندها أدرك العسيري أنه لا يستطيع العودة إلى وطنه.
على مدى ثماني سنوات حتى الآن، كان العسيري ينتقد سياسات المملكة وقادتها من المملكة المتحدة. بالإضافة إلى القسط، أطلق ديوان لندن، وهي منصة على الإنترنت تروج للحرية والعدالة في العالم العربي. كما أنه يشغل منصب الأمين العام لحزب التجمع الوطني، وهو حزب المعارضة الوحيد في المملكة العربية السعودية، الذي يديره إلى حد كبير السعوديون المنفيون.
لكن عمله، وخاصة الشبكات التي أنشأها، جعل العسيري وعائلته مستهدفين. لقد تعرضوا للتهديد في الأماكن العامة. لقد وقع تكسير سيارتهم. كما عثروا على سكاكين خارج نافذة المطبخ
يعتقد محققو “ستيزين لاب” أن العسيري نفسه في موقف لا يُحسد عليه، حيث تم استهدافه ببرنامج بيغاسوس ليس مرة واحدة، ولكن مرتين من قبل المملكة العربية السعودية. في هذا السياق، يقول العسيري “الأمر الأكثر إيلاما هو أنه كان هناك عدد كبير من المدافعين عن حقوق الإنسان والمعارضين المستهدفين طوال هذه الفترة، وأشخاص أعتبرهم وطنيين، وأشخاص يعملون لصالح هذه البلدان”.
في رسالة سابقة لاتخاذ إجراء تم إرسالها في شباط/ فبراير إلى خالد بن بندر بن سلطان آل سعود، سفير المملكة العربية السعودية في المملكة المتحدة، قال محامو العسيري إن “كمية البيانات التي ربما تم تسريبها من هاتف موكلهم عندما تم استهدافه ببرنامج بيغاسوس “لا تقل عن كونها كارثية” بالنسبة لموكلهم وجهات اتصاله في المملكة”.
تشمل جهات الاتصال لجين الهذلول، الناشطة السعودية البارزة في مجال حقوق الإنسان التي كانت من بين ما لا يقل عن 10 نساء سعوديات اعتقلن في أيار/ مايو 2018، وذلك قبل أسابيع من رفع حظر القيادة الذي احتجوا عليه لفترة طويلة. احتُجزت الهذلول لمدة 10 أشهر وتعرضت للتعذيب الجسدي قبل توجيه اتهامات إليها رسميًا. لائحة اتهامها مليئة بالإشارات إلى علاقتها مع “المنشق يحيى العسيري”.
يقول العسيري إنه “من الصعب معرفة ما إذا كانت المعلومات الواردة من هاتفه أو أجهزته الأخرى مهمة في حالة الهذلول أو أي من الحالات الأخرى. تم اختراق هواتف الهذلول أيضًا مرتين منذ سنة 2017″.
لكن يشير العسيري إلى أن محاولة اختراق الجهاز الذي أدى إلى الاعتقال تخفي حقيقة أكبر. في الشأن ذاته، يوضح “من المؤلم معرفة أن العمل الذي كنا نقوم به كان يتم التجسس عليه. لكن الشيء الأكثر أهمية ليس بالضرورة أن هذه السلطات تحاول اكتشاف أسرارنا بل أنهم يحاولون منع أي شخص ينتقدهم أو أي شخص آخر ينتقدهم”.
تعقب المعارضين البحرينيين
يعتقد سعيد الشهابي أنه وجد طريقة لتجنب التعرض للاختراق. ويعتبر الشهابي ناشطًا وصحفيًا مخضرمًا مؤيدًا للديمقراطية بالإضافة إلى كونه شخصية بارزة في حركة المعارضة البحرينية، وهو عضو في مجلس أمناء مؤسسة أبرار الإسلامية، وهي مؤسسة خيرية مسجلة تركز على تعليم المسلمين في المملكة المتحدة.
لكن عندما اتصلت بالمؤسسة، اعتذر الطرف الآخر من مواصلة المكالمة مشيرا إلى أن الدكتور الشهابي ليس موجودًا. وقد سألته عما إذا كان يمكنه إيصال رسالة للشهابي. لكنه قال: “لا، آسف، ليس لديه هاتف جوال”.
عندما التقينا أخيرًا، أكد الشهابي، البالغ من العمر 67 سنة، أنه لم لم يملك يوما هاتفا. في سياق متصل، أوضح الشهابي :”لقد اتخذت الاحتياطات. علمت أن حكومتنا استهدفتني لأنني كنت معارضًا طوال حياتي”. في الواقع، تتلاءم إستراتيجية عدم امتلاك هاتف مع الأساليب الواقعية التي اتبعتها مدرسة الشهابي القديمة.
بعد ظهر كل يوم أربعاء، يمكن العثور عليه وهو يحتج خارج السفارة السعودية في لندن حيث بدأ هو وآخرون في التظاهر في آذار/ مارس 2011 بعد أن تعرضت البحرين للغزو من قبل المملكة العربية السعودية خلال الاحتجاجات المؤيدة للديمقراطية. في أيام السبت، كان يحتج في داونينغ ستريت ضد حكومة المملكة المتحدة للتوقف عن دعم البحرين وتدريب قواتها الأمنية.
كما أخبرني أنه رجل عجوز عندما يتعلق الأمر بالخضوع للمراقبة. خلال الثمانينيات، تلقى ما لا يقل عن ثلاث مكالمات هاتفية مشبوهة في منزله في لندن من البحرين يعتقد أنها كانت تهدف إلى القبض عليه.
ذات مرة، أثناء حملة القمع الحكومية اتصل زميل معارض لترتيب تدريب عسكري، على الرغم من صدمة الشهابي وإصراره على أن هذه ليست الطريقة التي يجب أن تعمل بها المعارضة البحرينية. واتضح فيما بعد أن الصديق كان يتصل من سجن بحريني. ويقول الشهابي عن تلك المكالمة والأخرتين التي تلتها: “لقد أرادوا القبض علي. لم تنقطع يوما المراقبة”.
في سنة 2014، كشف تسريب أن البحرين قد اخترقت جهاز الكمبيوتر الخاص بالشهابي باستخدام برنامج مراقبة “فينسباي” ومن المحتمل أنها تمكنت من الوصول إلى بريده الإلكتروني. يمكن للسلطات حتى التحكم في كاميرا الكمبيوتر المحمول والميكروفونات الخاصة بالشهابي لمشاهدته والاستماع إليه.
لكن الشهابي ألقى باللوم على نفسه. ويتذكر الشهابي أنه سأل نفسه “هل أنت ساذج جدا يا سعيد؟ كيف يمكنك السماح لأعدائك بالتسلل إليك بهذه السهولة؟”. ويضيف “الأمر ليس بهذه السهولة. لقد تم دفع الكثير من المال لتحقيق ذلك. إنه إجراء مكلف. لكنهم تمكنوا من القيام بذلك”.
يقول الشهابي إن عملية القرصنة أضرته بشدة لأنها جاءت بعد أن نجت أسرته من حريق في الصباح الباكر بمنزلهم في سنة 2009. جاء ذلك بدوره بعد سنتين من تعرض اثنين من المعارضين البحرينيين لهجوم في زقاق بالقرب من محطة يوستون بلندن.
وفقًا للأدلة التي قدمها الشهابي وبحرينيون آخرون إلى لجنة الشؤون الخارجية في المملكة المتحدة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2012، فقد تم تحذيرهم من “هجوم وشيك” قبل كلا الحادثين. بعد مهاجمتهما في الشارع، قال المعارضان إن أحد المتصلين أخبرهما أنهما إذا اقتربا من السفارة البحرينية “سيتلقيان عقوبة أشد في المرة القادمة”.
من الواضح للشهابي أن هذه الهجمات كانت تهدف إلى إسكات أصواتهم “لذلك عندما حدثت هذه القرصنة على ضوء الهجمات، فإن ذلك يدفعك للتساؤل:” ما الذي ينتظرك آخر؟”.
بالعودة إلى الغابة في ضواحي لندن، يبدو غانم المصارير أكثر استرخاءً. خلال السنوات الأربع الماضية، سرد تفاصيل حياته لعشرات الصحفيين. وهو يعترف بمجرد أن ننتهي من التصوير أن ما يعيشه متعب حقا.
يوضح المصارير: “لقد تقدمت في السن، ومرت السنوات وراحت هباءً جراء السعوديين”. ويتابع “لا يمكنني استعادة هذه السنوات، ولكن آمل أن أقف على قدمي يومًا ما”.
وقد اقترح احتساء كوب من القهوة معه. لقد قطعنا رحلة طويلة لرؤيته وهو يريد أن يورينا الحي الذي يعيش فيه. مرت بنا الشاحنة البيضاء وأخبرته أنني اعتقدت أنه سيقفز منها عندما كنا نبحث عنه في وقت سابق. وقد توقف لبرهة ثم قال لي أخشى أنني قلت شيئًا خاطئًا. ثم ابتسم قائلا: “هل تعتقدين أنه كان يتم تقطيعه هناك؟”. ونحن نسير نحو ضاحية مزدحمة، كان غانم محشورًا بيني وبين المصور، والشمس تلفح وجهه.
المصدر: ميدل إيست آي