كثفت روسيا خلال السنوات الأخيرة وجودها في القارة الإفريقية، حيث تعمل جاهدة على بسط نفوذها وتدعيم مصالحها في دول عديدة هناك، على غرار ليبيا، إذ فتحت الأزمة السياسية والعسكرية هناك أبواب هذه الدولة العربية على مصراعيها للروس.
تدخّل موسكو في ليبيا، شمل جوانب عديدة منها العسكري والسياسي والدبلوماسي، فهي لا تترك مكانًا للصدفة، حتى الجهود الأممية لحل الأزمة الليبية تدخلت فيها وتحاول فرض رؤيتها عليها، ما اعتبرها البعض محاولات روسية لعرقلة عمل البعثة الأممية.
فشل مجلس الأمن
مرة أخرى يفشل مجلس الأمن الدولي في التوصل إلى إجماع بشأن البعثة الأممية العاملة في ليبيا، في ظل الاختلافات الكبيرة بين القوى الكبرى المتدخلة هناك، فكل طرف يسعى إلى فرض وجهة نظره، دون إيلاء أي اهتمام لمصالح الليبيين التواقين إلى رؤية بلادهم مستقرة.
كمؤشرة على هذا الاختلاف، مدّد مجلس الأمن مساء أول أمس الخميس، مهمة البعثة الأممية في ليبيا ثلاثة أشهر فقط رغم تواصل الأزمة السياسية في هذا البلد الشمال إفريقي، وقدمت بريطانيا قرارًا أشار إلى أن الحالة في ليبيا لا تزال تشكل تهديدًا للأمن والسلم الدوليين، وأنه تقرر تمديد ولاية البعثة باعتبارها بعثة سياسية وضمن الصلاحيات التي تضمنتها قرارات المجلس السابقة.
ودعا القرار “جميع الأطراف إلى الامتناع عن أي أعمال من شأنها تقويض العملية السياسية أو وقف إطلاق النار الذي تم التوصل إليه في 23 أكتوبر/تشرين الأول 2020″، مشيرًا إلى أن البعثة ينبغي أن يقودها مبعوث خاص من الأمين العام ويدعو إلى تعيينه على وجه السرعة.
موسكو تسعى من وراء هذه التحركات إلى فرض شروطها في ملفات أخرى
صوّت لصالح القرار البريطاني خلال جلسة لمجلس الأمن عقدت في مقره بنيويورك 12 دولة من إجمالي أعضاء المجلس (15 دولة)، في حين امتنعت غانا وكينيا والغابون عن التصويت، كتعبير منهم عن رفضهم لمخرجات الجلسة.
قرار التمديد بثلاثة أشهر لم يُعجب مندوبي الدول الإفريقية الثلاثة، إذ أعرب ثلاثتهم في كلماتهم خلال الجلسة، عن “عدم ارتياحهم إزاء التمديد لولاية البعثة الأممية لمدة 3 أشهر فقط جراء استمرار الخلافات بين مجلس الأمن بشأن طول التفويض، وإعادة هيكلة البعثة وتعيين قيادة لبعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا”.
ويخشى المندوبون الأفارقة من أن تؤدي هذه الخلافات داخل مجلس الأمن وبين القوى الكبرى إلى تأزيم الوضع أكثر في ليبيا، ما سينعكس سلبًا على القارة الإفريقية، إذ تتخذ العديد من الجماعات المسلحة الناشطة في دول إفريقيا ليبيا مركزًا لها.
الدور الروسي في عرقلة الجهود الأممية
يُرجح أن الاختلافات بين القوى الكبرى هي السبب وراء عدم تمديد البعثة الأممية في ليبيا لسنة، لكن السبب الأبرز لهذه الاختلافات هي روسيا، فقد عارضت موسكو مساعي الدول الغربية والإفريقية في المجلس لتمديد ولاية البعثة لمدة عام.
تشترط روسيا تعيين رئيسًا للبعثة بدلًا من الأمريكية ستيفاني وليامز قبل الحديث عن تمديد مهمة البعثة الأممية، إذ ترى موسكو ضرورة تغيير وليامز وتعيين مبعوث إفريقي، كون الأمريكية فشلت في أداء مهمتها وإحراز أي تقدم فيما يخص حل الأزمة الليبية.
نتيجة هذا الموقف الروسي، فشل مجلس الأمن في أكثر من جلسة في التوصل إلى اتفاق بشأن مهمة البعثة الأممية في ليبيا، وأدى هذا الموقف إلى تمديد ولاية البعثة لفترات قصيرة عدة مرات منذ سبتمبر/أيلول الماضي.
ويعتبر قرار الخميس، القرار الخامس الذي يصدره مجلس الأمن الدولي منذ منتصف سبتمبر/أيلول 2021، ويتوقع أن يتواصل هذا الأمر أكثر في ظل إصرار كلّ طرف من القوى الكبرى على فرض رؤيته لعمل البعثة الأممية.
مندوبة الولايات المتحدة ?? بمجلس الأمن: خاب أملنا بقبول #مجلس_الأمن تمديد ولاية البعثة الأممية في #ليبيا 3 أشهر فقط.
– ادعاء #روسيا ?? بتمديد ولاية البعثة لثلاثة أشهر بأنه سيساعد في اختيار ممثل جديد اعتقاد خاطئ.
– هذا التمديد لا يساعد على إنجاز مهمة البعثة للوصول إلى حلول فعلية pic.twitter.com/PpZWeiUvfq
— وكـالـة وادي دينـــار الإخبـــارية (@wady_dynar) July 28, 2022
سبق أن عرقلت الإدارة الأمريكية في أكثر من مرة تعيين مرشحين أفارقة لتولي قيادة البعثة الأممية في ليبيا، فهي تصر على بقاء وليامز في ليبيا وإن كان كمستشارة للأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وهو ما ترفضه روسيا.
يُذكر أن “بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا” المعروفة باسم “أونسميل”، أنشئت في 16 سبتمبر/أيلول 2011، بناءً على طلب من السلطات الليبية لدعم جهود السلطات الانتقالية الجديدة في البلاد خلال مرحلة ما بعد النزاع، بحسب الموقع الرسمي للبعثة.
إصرار موسكو على إفشال عمل البعثة الأممية
من شأن هذه الخلافات والمناكفات أن تضعف عمل الأمم المتحدة في قيادة العملية السياسية في ليبيا، وأن تعطي انطباعًا لمختلف الأطراف الليبية أن البعثة الأممية بشكلها الحاليّ لا تحظى بالدعم الدولي الكافي، ما يضعها ويعرضها للمساومة والابتزاز.
هذا ما تسعى إليه موسكو بالتحديد، وفق الصحفي الليبي أنس المسلاتي، إذ يؤكد المسلاتي لنون بوست أن روسيا تسعى منذ مدة لفرض شروطها على المجتمع الدولي لتحقيق مصالحها ومصالح حلفائها العاملين على الأرض في ليبيا.
الضغط الروسي على الغرب لم يكن في مجلس الأمن فقط، وإنما على الميدان أيضًا فانتشار مجموعات فاغنر المسلحة في مناطق متفرقة في ليبيا ودعم الروس للواء المتقاعد خليفة حفتر دبلوماسيًا وعسكريًا هو الآخر أحد أدوات الضغط الروسي.
تسعى روسيا، بعد أن استجمعت قواها ونفضت غبار أزمة تفكك الاتحاد السوفيتي، إلى التمدّد وتوسيع دائرة نفوذها أمام الولايات المتحدة الأمريكية
الأمر لا يتعلق بليبيا فقط، فموسكو تسعى من وراء هذه التحركات إلى فرض شروطها في ملفات أخرى، يقول الصحفي الليبي في حديثه لنون بوست: “روسيا الآن تعرقل العمل في عدة ملفات خارج نطاق حدودها كمسألة عمل البعثة الأممية في ليبيا لإجبار الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي على التنازل عن بعض الأوراق لصالحها”.
ويضيف محدّثنا “هناك قاعدة أساسية في المفاوضات وهي فرض الشروط على قدر ما تملك من السيطرة على الأرض وتزداد الشروط كلما فرضت سيطرتك على بقعة جديدة، وهو ما يُفسّر رغبة الروس في توسيع نفوذهم في ليبيا والعديد من المناطق الأخرى”.
ويتابع المسلاتي “التوسع الروسي داخل مناطق ليست من ضمن نفوذ الاتحاد السوفيتي بعد الحرب العالمية الثانية كان سببه توسع معسكر الغرب في مناطق تحت النفوذ الروسي، أي أن روسيا تتحرك في معسكرات الاتحاد الأوروبي للضغط عليهم في ملف المفاوضات”.
?ملاحظة: منهجية في العمل الدبلوماسي الروسي، بعد الجامعة العربية، انتقل #لافروف إلى إفريقيا و التقى بوزير خارجية الصين، روسيا ?? تنتزع جذور الغرب في كل مكان.
— Rahmouni Abdelghaniرحموني عبد الغني (@RahmouniAbdelg1) July 29, 2022
يسعى الروسي إلى فرض شروطهم على الأوروبيين والولايات المتحدة الأمريكية ونيل مزيد من المكاسب والامتيازات في العديد من المناطق الإفريقية، ويمكن فهم سلوك موسكو في ليبيا ضمن هذا الإطار.
يرى الروس أن من حقهم توزيع نفوذهم داخل القارة الإفريقية، ويستغلون لذلك تنامي مشاعر الغضب الشعبي الإفريقي ضد الغرب، إذ تُتهم الدول الغربية بسرقة ثروات إفريقيا والتحكم في قرارها السيادي، لكن من قال أن الروس أقل خطرًا؟
تسعى روسيا، بعد أن استجمعت قواها ونفضت غبار أزمة تفكك الاتحاد السوفيتي، إلى التمدّد وتوسيع دائرة نفوذها أمام الولايات المتحدة الأمريكية المسؤول الأول عن تفكيك الاتحاد السوفيتي، مستغلة في ذلك كل الفرص المتاحة.