حظى التحقيق الاستقصائي الذي بثته شبكة CNN الأمريكية، يوم الجمعة 29 يوليو/تموز باهتمامٍ كبيرٍ من الشارع السوداني، إذ تم الترويج له منذ يوم الخميس، فقد ذكرت مسؤولة الاتصالات في الشبكة لورين كون أن “كبيرة المراسلين الاستقصائيين الدوليين، نعمة الباقر، سافرت إلى دولة الذهب السودانية، حيث تكشف في تحقيقها الأخير أدلةً على وجود شبكة معقدة لتهريب الذهب بين روسيا والقادة العسكريين السودانيين”.
التحقيق استند إلى مقابلات متعددة مع مسؤولين سودانيين وأمريكيين رفيعي المستوى ومجموعة من الوثائق التي راجعتها شبكة CNN، كشفت كلها عن مخطط روسي لنهب ثروات السودان في محاولة لتحصين روسيا ضد العقوبات الغربية المتزايدة ودعم جهود موسكو الحربية في أوكرانيا.
ليس التقرير الأول عن نهب الذهب السوداني
المادة الاستقصائية التي بثّتها شبكة CNN، الجمعة، لم تكن الأولى التي تتناول نهب روسيا لذهب السودان مقابل دعمها للعسكر، فقد سبقها تقرير مماثل لكبير مراسلي صحيفة “نيويورك تايمز” في إفريقيا ديكلان وولش الشهر الماضي عن نشاطات حليف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يفغيني بريغوجين، في السودان الذي ينقب فيه عن الذهب.
لفت تقرير وولش إلى أنه منذ انقلاب العسكر بالخرطوم في أكتوبر/تشرين الأول قامت مجموعة مرتزقة فاغنر بتقوية علاقاتها مع الطامح في السلطة الجنرال محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي، الذي زار موسكو في الأيام الأولى لغزو أوكرانيا.
كما نشرت صحيفة التغراف تقريرًا آخر في مارس/آذار الماضي، تحت عنوان “ذهب السودان ينقذ بوتين من العقوبات الغربية”، وتحدثت الصحيفة البريطانية عن دور الذهب الإفريقي – الذي يتم تهريب جزء منه عبر السودان – في إنقاذ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من العقوبات الغربية.
وقالت الصحيفة إن روسيا هربت مئات الأطنان من الذهب بصورة غير شرعية من السودان على مدار الأعوام الماضية، ضمن عملية لتحصين روسيا من العقوبات الاقتصادية جراء الحرب على أوكرانيا.
وكشف صحيفة غارديان البريطانية قبل عامين، أن قوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي تسيطر على مناجم عدة للذهب في دارفور ومناطق سودانية أخرى، مشيرةً إلى دور إماراتي في استيراد هذا الذهب، ما يزيد من نفوذ حميدتي ومليشياته.
كما كشفت وكالة رويترز في تقريرٍ حصري سابق، تفاصيل عن ثروة حميدتي، فذكرت أنه نقل كميات غير معلوم حجمها الحقيقي، لكنها بملايين الدولارات من الذهب إلى دبي عن طريق شركة “الجنيد” المملوكة له ولأسرته، مما كون لديه ثروة طائلة.
الوكالة اطلعت على فواتير الطيران وقسائم الدفع وأوضحت أن مجموعة “الجنيد” المملوكة لعائلة حميدتي أرسلت ما قيمته نحو 30 مليون دولار من سبائك الذهب إلى دبي، وهو ما يزن نحو طن، وذلك في خلال أربعة أسابيع من عام 2018.
البرهان ينكر وجود فاغنر رغم الدلائل
لآلاف السنين، أنتج السودان واحدًا من أكثر الذهب نقاءً في العالم، فمن الأسباب التي دفعت الوالي العثماني محمد علي باشا لغزو السودان عام 1820 كان الحصول على الذهب من بني شنقول التي كانت جزءًا من مملكة الفونج السودانية، حيث عَرَفت تنقيب الذهب قبل أي منطقة في السودان، وفي الوقت الحاليّ فإن جيش بوتين الخاص – المجموعة شبه العسكرية سيئة السمعة المعروفة باسم فاغنر – يقوم بذلك.
تنكر السلطة الانقلابية الحاكمة في السودان وجود فاغنر في البلاد بسبب خوفها من العقوبات الأمريكية، فقد نفى قائد انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول الجنرال عبد الفتاح البرهان، لقناة الحرة الأمريكية ضلوع مجموعة فاغنر الروسية في عمليات تنقيب بالسودان، وأضاف البرهان “لا وجود لهذه الشركة (فاغنر) أو غيرها من المنظمات الخارجة عن القانون في البلاد”.
لكن طاقم CNN ذهب للتحقيق في ذلك، حيث سافر فريق الشبكة 200 ميل شمال العاصمة الخرطوم إلى بلد الذهب – منطقة العبيدية الواقعة في ولاية نهر النيل -، بهدف إلقاء نظرة فاحصة على كبرى واجهات مرتزقة فاغنر في السودان.
يرفعون علم الاتحاد السوفيتي في السودان!
تحقق طاقم الشبكة من موقع شركة “مروي جولد”، من خلال الإحداثيات التي قدمها موظفو مكافحة الفساد السودانيون، ومع اقتراب فريق شبكة CNN من الموقع، كان هناك علم أحمر للاتحاد السوفيتي السابق يرفرف في مهب الريح، كان هو العَلَم الذي يستخدمه المتطرفون القوميون الروس، مع وجود ناقلة روسية بجانبه، ما أكّد أن الشركة مجرد واجهة للمرتزقة.
عند طرح مراسلة CNN بعض الأسئلة على أحد العاملين هناك، أكد في البداية أن هذه شركة روسية، قبل أن يزعم الموظفون أن المصنع مملوك لشركة سودانية تُدعى “الصولج”.
بعدها ابتعد طاقم الشبكة وحاول التقاط مزيد من الصور في أرض عامة، قبل أن يتبعهم الحراس، محاولين إيقافهم ودفعهم إلى الابتعاد، رجّح الفريق أن سبب توتر الحراس هو أن “الصولج” واجهة للشركة الروسية “مروي جولد”، حيث لا تزال “فاغنر” تعمل بشكل غير قانوني، باسم شركة تتظاهر بأنها سودانية للتهرب من العقوبات الأمريكية، إذ تتمتع واجهة فاغنر بحماية ورعاية من هيئة الاستخبارات العسكرية عبر ذراعها المملوكة لها شركة أسوار للخدمات، وفق تقرير نشره الناشط الاستقصائي هشام ود قلبا، وهو أحد الذين ساعدوا فريق CNN في إنجاز التحقيق.
حصل الطاقم على وثائق التسجيل الخاصة بهم لإثبات ذلك، تظهر مستندات “مروي جولد” ومستندات “الصولج” تطابقًا في تواريخ الشكاوى المقدمة في محاكم العمل ضد الشركة الأولى، وبموجب القانون السوداني عندما يتم نقل ممتلكات الشركة فإن أي أحكام ضدها تنقل أيضًا، ولهذا تظهر المستندات أن الأحكام الصادرة ضد الشركتين متطابقة.
إذًا كل ما فعلوه هو تغيير الاسم، تحاول “فاغنر” الاختباء على مرأى من الجميع لتجنب العقوبات والحفاظ على تدفق المال إلى موسكو.
أحد المصادر قال لـCNN: “مروي جولد هي واجهة للروس خاصة لقوى فاغنر التي تعمل على استغلال الذهب من السودان وتصديره”، وأضاف “إنها الواجهة وليست شركة، تستخرج الذهب من المخلفات وتشتري الذهب من عمال المناجم السودانيين الحرفيين، هذا غير شرعي لأن القانون ينص على أنه من المفترض أن يبلغ أي منتج للذهب عن الكمية التي ينتجها للبنك المركزي ووزارة التعدين، وهذا لا يحدث”.
1.9 مليار دولار فُقدت خلال عام واحد
داخل بنك السودان المركزي، أظهرت صورة لشاشة كمبيوتر أن الإنتاج الرسمي في عام 2021 كان 49.7 طن، 32.7 طن منها ليست موثقة من البنك المركزي، وهو ما يعادل 1.9 مليار دولار.
نجح الشعب السوداني قبل عامين في الإطاحة بعمر البشير، ثاني أطول ديكتاتور حكمًا في إفريقيا (بعد الرئيس الأوغندي موسيفيني)، لكن بعد 18 شهرًا نظّم الجيش انقلابه الخاص وأطاح بالحكومة المدنية، بدعمٍ من فاغنر مقابل الذهب، وفقًا لمصادر CNN.
وينقل التقرير أنه بعد أيام فقط على غزو موسكو لأوكرانيا، فتش مسؤولون سودانيون بمطار الخرطوم طائرةً تشير وثائقها إلى أنها محملة بـ”البسكويت”، ليعثروا على صناديق مليئة بالذهب.
يتردد مسؤولو المطار في تفتيش الطائرات الروسية خوفًا من موقف القيادة العسكرية الموالية لروسيا، وفق الشبكة، وقالت مصادر سودانية إن نحو 90% من إنتاج الذهب في السودان يتم تهريبه إلى الخارج.
وذكرت الشبكة أنها تواصلت مع وزارتي الخارجية والدفاع الروسيتين بجانب المنظمة الأم لمجموعة الشركات التي يديرها بريغوجين الذي يعرف بلقب طباخ بوتين، للحصول على تعليقٍ دون رد، كما تواصلت CNN مع مكتبي الجنرال عبد الفتاح البرهان ودقلو، لكنها لم تتلق ردًا على طلب التعليق أيضًا.
شركات حميدتي تنهب الذهب وهو يتحدث كناشط سياسي
بالنسبة لأغلبية السودانيين فإن محمد حمدان دقلو وقواته “الدعم السريع” رمزان لماضي البلاد القمعي والتفاوت الاقتصادي، كما أنه وبحسب تقارير عديدة متورط في فض اعتصام القيادة عام 2019 الذي راح ضحيته المئات.
وحتى يحمي مصالحه، عمل حميدتي على بناء شراكات اقتصادية وعسكرية مع دول الإقليم الاستبدادية كالإمارات، ومع روسيا وقد ورد بالأعلى أن علاقاته مع روسيا تطوّرت أكثر بعد انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول.
من المفترض أن بنك السودان المركزي هو الجهة التي تشرف على صادرات الذهب، لكن مسؤولين حكوميين حاليين ومسؤولًا سابقًا وعددًا من المصادر في صناعة الذهب أبلغوا وكالة رويترز بأن البشير سمح في بعض الأحيان لحميدتي بالتملص من هذه القاعدة.
قالوا إن الرئيس المخلوع سمح لمجموعة الجنيد المملوكة لحميدتي ببيع الذهب كيفما تشاء لأن قوات الدعم السريع بقيادة حميدتي كانت تمثل قوة مضادة مهمة لكبار الضباط في الجيش الذين كان البشير يعتبرهم خطرًا على حكمه.
ضعف الحكومة المدنية أدى إلى تقوية نفوذ حميدتي
استمرت هذه الامتيازات بعد سقوط البشير، بل ازدادت بفعل ضعف الحكومة المدنية وعدم قدرتها أو رغبتها في التصدي للعسكر، فقد سمح المدنيون ببقاء قوات الدعم السريع التي تتكون من مليشيا الجنجويد – سيئة السمعة – إلى حد كبير، طيلة الفترة الانتقالية، وصَمَت المدنيون كذلك على تمدد حميدتي الذي منح نفسه لقب “النائب الأول لرئيس مجلس السيادة”، رغم أن هذا المنصب غير موجود في الوثيقة الدستورية التي شُكّلت بموجبها الحكومة الانتقالية المنقلب عليها.
والآن رغم استمرار نهب موارد السودان من الطغمة العسكرية بالشراكة مع روسيا والإمارات، ما أفقر البلاد، أصبح محمد حمدان دقلو “حميدتي” يتقمص شخصية المحلل السياسي أو المراقب، فقد قال قبل يومين: “الدولة منهارة وليس لديها إمكانيات”، موضحًا أنهم عجزوا عن توفير الموارد التي تمكنهم من تجاوز أزماتها الراهنة.
دافع للحراك الثوري
بلا شك سيؤدي تحقيق شبكة CNN الذي استعرضناه، إلى مزيد من الضغط على جنرالات السودان الذين كثيرًا ما حاولوا تشويه سمعة القادة المدنيين وتصويرهم كـ”عملاء للسفارات”، ذلك بهدف إصرار العسكر على البقاء في السلطة، وإن قدموا تنازلات شكلية لإقناع الجماهير الثائرة بأنهم يريدون الابتعاد عن المشهد السياسي والعودة إلى ثكناتهم.
لن يكون من المستغرب أن يعلق على التحقيق مسؤولون من وزارة الخارجية الأمريكية والكونغرس، فالتحقيقات والتقارير التي تنتجها كبيرة المراسلين الاستقصائيين الدوليين في شبكة CNN الصحفية نعمة الباقر تمتاز بالمهنية والدقة، فقد عملت وفريقها على هذا التحقيق لمدة 7 أشهر.
ويفترض أن يشكل هذا التحقيق دفعة للحركة الثورية المناهضة للانقلاب، التي تستعد للخروج في تظاهرات جديدة يوم الأحد القادم بدعوة من لجان المقاومة التي تقود الحراك وترفع شعار “لا تفاوض لا شراكة لا شرعية مع المجلس العسكري”.
وفي ظل جمود المشهد السياسي الحاليّ، ينبغي أن تسارع قوى الثورة إلى إنجاز ميثاق سياسي موحد يحقق تطلعات شباب الثورة الذين قدّموا تضحيات جسيمة وصلت إلى 116 شابًا وطفلًا فقدوا أرواحهم منذ الانقلاب، إلى جانب أكثر من 5500 مصاب نتيجة للقمع المفرط لقوات الأمن، بعضهم فقد القدرة على الحركة وبعضهم فقد أعضاءً حيوية كالعيون والأطراف، هذا بخلاف حالات الاعتقال والتعذيب والاغتصاب والتحرش الجنسي.
من شأن الميثاق السياسي الموحد الذي يحقق تطلعات الجماهير، أن يشكل ضغطًا حاسمًا على قادة المجلس العسكري الذين يراهنون على عدم وحدة الشارع الثوري في ظل تمسك لجان المقاومة باللاءات الثلاث، في مقابل لهجة أكثر ليونةً من قوى الحرية والتغيير.