كشف المؤتمر الصحفي الذي عقده وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو ونظيرته الألمانية أنالينا بيربوك، في مدينة إسطنبول، الجمعة 29 يوليو/تموز 2022، عن حجم التوتر الذي يخيم على العلاقات التركية الألمانية رغم مساعي تجميل الصورة التي يبذلها الطرفان لبلورة موقف موحد إزاء القضايا المشتركة الملحة.
وشهدت القاعة التي احتضنت المؤتمر سخونة في الأجواء في ظل السجال الدائر بين الوزيرين وتبادل الانتقادات بشأن سياسات البلدين إزاء بعض الملفات الإقليمية والدولية، على رأسها ملف شرق المتوسط وتوجهات برلين حيال اليونان وقبرص بالإضافة إلى بعض المسائل الحقوقية العالقة بين الدولتين.
لا يمكن قراءة هذا السجال بعيدًا عن السياق العام للعلاقات التاريخية بينهما الممتدة لأكثر من 100 عام، مرت خلالها بموجات من المد والجزر، ما بين تحالف وصداقة فرضته ظروف عالمية، مرورًا بتعارض المصالح الذي أدى إلى برودة نسبية في العلاقات وصولًا إلى التوتر الذي بات السمة الأبرز التي تخيم على الأجواء، مع الوضع في الاعتبار المصالح المشتركة التي أقرتها المستجدات الإقليمية والدولية في ظل التناغم الاقتصادي الواضح بين البلدين.
سجال يكشف حجم الفجوة
بدأ المؤتمر الذي تأخر عن موعد انعقاده ساعة كاملة بالهدوء النسبي الذي لم يستمر إلا دقائق معدودة حتى بدأ الهجوم المتبادل، البداية كانت من وزير الخارجية التركي الذي اتهم ألمانيا بأنها فقدت حيادها فيما يتعلق بالوساطة بين بلاده واليونان وقبرص، وأنها استمعت من طرف واحد فقط، مؤكدًا أنه “على الدول، بما في ذلك ألمانيا، ألّا تكون أداة للاستفزاز والدعاية خاصة من جانب اليونان والجانب القبرصي اليوناني”.
وفي المقابل أكدت الوزيرة الألمانية أن الخلاف في شرق المتوسط لا يمكن حله في ظل تلك الأجواء المتوترة، منتقلة على جناح السرعة إلى المسألة الأكثر جدلًا في الآونة الأخيرة المتعلقة برجل الأعمال التركي، عثمان كافالا، الذي تلقبه الصحافة التركية بـ”الملياردير الأحمر” المحكوم عليه بالسجن مدى الحياة.
وطالبت بيربوك نظيرها التركي بضرورة الالتزام بأحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والإفراج الفوري عن كافالا، وتابعت “من مسؤولياتي كوزيرة للخارجية احترام أحكام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والدفاع عنها دون استثناء وفي جميع الأوقات”، ليرد عليها أوغلو متسائلًا “لماذا تشيرون باستمرار إلى عثمان كافالا؟ لأنكم تستخدمون عثمان كافالا ضد تركيا. نحن نعلم حجم التمويل الذي حصل عليه خلال أحداث جيزي”، منتقدًا في الوقت ذاته برلين “لاحتضانها” المسلحين الأكراد.
منذ تسعينيات القرن الماضي دخلت العلاقات بين البلدين نفقًا مظلمًا بسبب تنامي خطاب الكراهية وزيادة موجات العنصرية ضد الأتراك تحديدًا، وهو الأمر الذي اعتبر حينها بداية الصدام الحقيقي بين أنقرة وبرلين رغم المصالح المشتركة بينهما
وكان الملف السوري حاضرًا بقوة في المؤتمر الصحفي، فبينما حذرت وزيرة الخارجية الألمانية من العملية العسكرية التي تنتوي أنقرة شنها في الشمال السوري، مشددة على أن “الصراع الجديد لن يؤدي إلا إلى مزيد من معاناة السكان وسيفيد عدم الاستقرار” رغم تأكيدها على حق تركيا في الدفاع عن نفسها لكن ضد المجرمين فقط على حد قولها، معترفة بأن الأتراك يواجهون “هجمات إرهابية من حزب العمال الكردستاني منذ سنوات”.
ومن سوريا إلى النزاع في شرق المتوسط، فقد دعت بيربوك تركيا إلى ما أسمته “احترام السيادة اليونانية” على جزر بحر إيجة، منوهة أنه لا يجوز لأحد التشكيك فيها، فيما رد عليها نظيرها التركي قائلًا: “على ألمانيا أن تتخذ موقفًا أكثر توازنًا بالنسبة لبحر إيجة وشرق البحر المتوسط، وألا تدخل لعبة الاستفزازات والدعاية اليونانية والقبرصية”.
من التحالف للخصومة
رغم العلاقات الممتدة لأكثر من مئة عام، فإن محطة الاختبار الأولى رسميًا في مسيرة تلك العلاقة ترجع إلى الحرب العالمية الأولى (1914 – 1918) حين وقعت ألمانيا اتفاقية تحالف عسكري مع الإمبراطورية العثمانية في أغسطس/آب 1914، التي كانت تهدف إلى تقوية الجيش العثماني مع تهيئة الأجواء نحو دخول الألمان إلى المستعمرات البريطانية.
وكان نتيجة لهذا الاتفاق أن أعلنت فرنسا وبريطانيا الحرب على الدولة العثمانية التي كانت في صفوف الألمان، تلك الحرب التي انتهت بهزيمة ثقيلة للدولة الألمانية وحلفائها، وأسفرت عن خسارة الإمبراطورية العثمانية للعديد من مناطق نفوذها التي هيمنت عليها الدول المنتصرة وتقاسمتها فيما بينها فيما عرف فيما بعد باتفاقية “سايكس بيكو”.
ومع الحرب العالمية الثانية (1939/1945) بدأ الموقف التركي متأرجحًا بداية الأمر بين الحياد الذي فرضته مخاوف تكرار سيناريو 1918 والانضمام لمحوري الحرب، حيث تحالفت ابتداءً مع الجبهة البريطانية الفرنسية عام 1939 لكن سرعان ما تداركت الأمر عام 1941 بتوقيع اتفاق صداقة مع الألمان تعهدت فيه بالبقاء على الحياد، وهو ما لم يكن إذا وجدت نفسها نهاية المطاف مدفوعة للانضمام لمحور الحلفاء أواخر 1945، وإن لم تشارك في أي معارك عسكرية.
ورغم الخصومة التي فرضتها الحرب، فإن ذلك لم يمنع الألمان بعد تقسيم بلادهم إلى شطرين، من طرق أبواب الأتراك – بمنطق برغماتي بحت – للمشاركة في تنفيذ برنامجهم للنهوض الاقتصادي في محاولة لتعويض الخسائر التي تكبدوها خلال سنوات القتال، فأبرمت اتفاقيات عدة للاستعانة بالعمالة التركية التي شكلت ركيزة أساسية في النهضة الألمانية من فترة الخمسينيات والستينيات وحتى اليوم، إذ شكل الأتراك خلال الفترة بين 1960 – 1970م النسبة الكبرى بين الجنسيات الأجنبية القادمة إلى الأراضي الألمانية، إذ وصل في هذا العقد قرابة 750 ألف تركي من بين 2.7 مليون أجنبي استقدمتهم ألمانيا للعمل لديها، ليصل العدد الآن إلى أكثر من 3 ملايين تركي، أكثر من 40% معهم يحملون الجنسية الألمانية.
العنصرية.. بداية الصدام
منذ تسعينيات القرن الماضي دخلت العلاقات بين البلدين نفقًا مظلمًا بسبب تنامي خطاب الكراهية وزيادة موجات العنصرية ضد الأتراك تحديدًا، وهو الأمر الذي اعتبر حينها بداية الصدام الحقيقي بين أنقرة وبرلين رغم المصالح المشتركة بينهما التي كان يفترض معها أن تبقى الأجواء في إطارها التنسيقي الهادئ.
البداية كانت مع إحراق أحد المنتمين لليمين المتطرف الألماني التابعين لمنظمة “النازيين الجدد” مسكن لأسرة تركية في بافاريا عام 1988 أسفر عن مقتل 4 منهم، وقد أثارت تلك الجريمة موجة من الجدل داخل الشارع الألماني، وبينما كان يتوقع أن تكون حادثة فردية من الصعب تكرارها إذ بالأمر يتجاوز ذلك حتى تحولت مثل هذه النوعية من الجرائم وردًا يوميًا في المشهد الألماني.
وشهدت ألمانيا خلال العقدين الأخيرين في القرن الماضي والعقد الأول من القرن الحاليّ مئات الجرائم العنصرية ضد الأتراك، كان لها صداها على العلاقات بين البلدين، وسط تخاذل رسمي من السلطات الحاكمة، الأمر الذي فُسر تركيًا على محمل آخر، كان له تداعياته مستقبلًا.
الوضع تجاوز اليمين المتطرف إلى الحكومة الألمانية التي فرضت قيودًا وتضييقات خانقة على اللاجئين الأتراك وحرمتهم من ممارسة حياتهم العادية، وحالت دون أنشطتهم الاجتماعية والسياسية، وهو ما ساعد على تغذية العنف الداخلي وشجع المتطرفين على استهداف الجالية التركية في جرائم لا يمكن تبرئتها من تهم التسييس.
في استطلاع رأي له ضمن دراسة شاملة توصل رئيس مركز الدراسات التركية وأبحاث الهجرة في جامعة إيسن-دويسبورغ، حاجي خليل أوسلوكان، أن نحو “8 من كل 10 من المشاركين من أصول تركية، قالوا إنهم يتعرضون لحادث إقصاء مرة واحدة على الأقل في السنة.. بالطبع، هذا الرقم مرتفع للغاية”، كاشفًا عن تحول العنصرية ضد الأتراك إلى عقيدة لدى قطاع كبير من الألمان رغم التطورات التي شهدتها السنوات الستة الماضية، من أجل تضييق الفجوة بين الجالية التركية-الألمانية وباقي أطياف المجتمع.
محطات الخلاف
وقد شهدت العلاقات التركية الألمانية خلال الآونة الأخيرة العديد من المحطات التي عمقت الخلاف بين البلدين، أبرزها اعتراف البرلمان الألماني عام 2015 بمذابح الأرمن التي وقعت في الحرب العالمية الأولى، حيث وصفتها بـ”الإبادة الجماعية”، وهو الملف الذي يثير حفيظة الأتراك بشكل كبير، إذ لوح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بأن الموقف الألماني إزاء تلك القضية سيؤثر على العلاقات بين الكيانين الكبيرين.
ثم جاءت أزمة قاعدة “إنجرليك” التركية لتعمق الخلاف، ففي 2017 أصدرت أنقرة قرارًا بمنع الألمان من زيارة ذويهم من الجنود في القاعدة التي أقيمت ضمن جهود التحالف الدولي لمحاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” وهو الموقف الذي أغضب السلطات الألمانية ما دفع المستشارة – حينها – أنغيلا ميركل، بسحب جنود بلادها من القاعدة في يونيو/حزيران من نفس العام.
وقبل نهاية 2017 بثلاثة أشهر نشرت إحدى الصحف التركية المحسوبة على الحكومة صورة للمستشارة ميركل وصفتها فيها بالزعيم النازي “أدولف هتلر”، إذ أظهرتها بشارب هتلر وفوقها الصليب المعقوف رمز النازية، التصعيد الذي عمق من الأزمة التي وصلت إلى مطالبة العديد من الأحزاب الألمانية بإنهاء المفاوضات بشأن انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي.
كما ألقت أزمة اللاعب الألماني من أصول تركية، مسعود أوزيل، بظلالها القاتمة لتزيد الوضع اشتعالًا، فقد تعرض لحملة عنصرية شعواء بسبب أصوله التركية، وتحميله مسؤولية فشل المنتخب الألماني، صاحبها اتهامات متبادلة إعلاميًا وسياسيًا، انضم إليها لاحقًا قطاع كبير من شعبي البلدين، فيما دخل أردوغان على خط الأزمة، واصفًا الحملة التي تعرض لها اللاعب بـ”غير المقبولة”.
يشكل حجم التجارة التركية الألمانية ربع حجم التجارة الحاليّة بين تركيا وجميع دول الاتحاد الأوروبي الـ27
العديد من المواقف كان لها تأثيرها السلبي على توتير الأجواء بين البلدين من بينها تحذير الخارجية الألمانية في يوليو/تموز 2017 من السفر لتركيا وتشديدها على أنها لم تعد مقصدًا للألمان، كذلك قرار وقف تصدير الأسلحة إلى تركيا ردًا على العمليات العسكرية التي تقوم بها القوات التركية في سوريا.
هذا بخلاف ما أثير بشأن الاتهامات التي وجهتها هيئة حماية الدستور (المخابرات الداخلية الألمانية) في يناير/كانون الثاني 2017، لأنقرة بالتجسس على اتحاد “ديتيب” الإسلامي التركي في ألمانيا، متهمة إياه بالتورط في تقديم معلومات عن معارضين للرئيس أردوغان، ما دفع الرئاسة التركية لسحب أئمتها من الأراضي الألمانية.
ثم جاءت التعديلات الدستورية لتزيد الوضع تفاقمًا بعد منع السلطات الألمانية إقامة أي فعاليات أو أنشطة لدعم تلك التعديلات، حيث اتهم الرئيس التركي المستشارة ميركل باللجوء إلى ممارسات “نازية” تعليقًا على دعم بلادها لهولندا في النزاع الذي نشب مع أنقرة من أجل الغرض ذاته، أعقب ذلك رفض ألمانيا طلبًا رسميًا من أنقرة بتجميد أصول بعض أعضاء شبكة فتح الله غولن.
الاقتصاد مقدم على السياسة
كما جرت العادة تاريخيًا تظل البرغماتية هي لغة التواصل الأبرز والأكثر دوامًا بين الحكومات، فرغم الخلافات السياسية التي تنشب بين الدول يبقى الاقتصاد هو الخيط الرفيع الذي يصل بينها، ومن تحت موائد الخصومة والعداء تسير مواسير التعاون التجاري والاقتصادي.
ولم تشذ الحالة التركية الألمانية عن هذا المسار التاريخي، وهو ما توثقه الأرقام الخاصة بحجم العلاقات الاقتصادية بين البلدين في وقت يعاني فيه البلدان من خطاب كراهية غير مسبوق، حيث كشف رئيس غرفة التجارة والصناعة الألمانية التركية، ماركوس سليفوغت، أن حجم التجارة بين البلدين وصل عام 2021 إلى مستوى قياسي، بلغت قيمته 41.1 مليار دولار.
ويشكل حجم التجارة التركية الألمانية ربع حجم التجارة الحاليّة بين تركيا وجميع دول الاتحاد الأوروبي الـ27، بحسب رئيس الغرفة الذي أشار إلى تبؤ ألمانيا العام الماضي المرتبة الأولى على قائمة الدول المستوردة من تركيا بواقع 18 مليار دولار، 17.1 مليار منها كانت من القطاع الصناعي، لافتًا في تصريحاته لـ”الأناضول” إلى زيادة عدد الشركات الألمانية العاملة في تركيا إلى 7 آلاف و600 شركة.
لم يكن الاقتصاد وحده عامل الربط الوحيد الدافع لإبقاء العلاقات التركية الألمانية في سياقها الممتد، إذ إن التحديات التي تشهدها المنطقة والعالم مؤخرًا كفيلة بأن تمارس ضغوطها المتواصلة على كل من أنقرة وبرلين لتنحي الخلافات جانبًا، ووضع المصالح المشتركة فوق أي اعتبارات سياسية، وهو ما يمكن أن يهيئ لأرضية صالحة لتعاون مستمر.
ومن ثم يمكن وصف التحالف التركي الألماني والتنسيق المتبادل إزاء بعض الملفات بأنه “تحالف بالإكراه”، على أرض رخوة، مدفوع بحزمة التحديات والمصالح المشتركة، ويهدف إلى تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب على حساب تقزيم الخسائر قدر الإمكان، وعليه فإن الإبقاء على تلك الوضعية مرهون ببقاء المصالح والتحديات التي ربما تعيد رسم خريطة تلك العلاقة إذا ما تعرضت لأي عارض مستقبلًا.