لم تمض إلا ثلاثة أيام على اقتحام أنصار التيار الصدري للمنطقة الخضراء، حتى عادوا واقتحموها مرة ثانية، بعد إعلان قوى الإطار التنسيقي الشيعي عزمهم إقامة جلسة طارئة لانتخاب رئيس الجمهورية، اقتحام أنصار التيار للمنطقة الخضراء جاء هذه المرة ليعكس إصرار زعيم التيار مقتدى الصدر، على قطع الطريق بأي شكل كان، على قوى الإطار التنسيقي الشيعي، لمنعهم من المضي قدمًا بعملية تشكيل الحكومة.
فحسب ما أعلن وزير الصدر، صالح محمد العراقي، فإن الشعب اختار الاعتصام داخل البرلمان، في إشارة لأنصار التيار، وإعلان رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي تعليق جلسات المجلس حتى إشعار آخر، إلى أن الصدر لن يعطي قوى الإطار فرصة دخول المجلس مرة أخرى، حتى يتم التوصل لاتفاق سياسي بخصوص المشهد المقبل.
وفي هذا الإطار أيضًا بدأت قوى الإطار التنسيقي الشيعي بإصدار بيانات متضاربة بشأن الخطوة الصدرية، فعلى الرغم من إصدار قوى الإطار بيانًا دعت فيه جماهير الإطار للاستعداد للدفاع عن الدولة ومؤسساتها، صدرت بيانات أخرى لقادة في الإطار، أبرزهم هادي العامري وعمار الحكيم وحيدر العبادي، دعت إلى التهدئة، ورغم أن البيان الأول حمل بصمات رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي وزعيم عصائب أهل الحق قيس الخزعلي، وذلك عبر ما تضمنه من إشارات تصعيدية، فإن كلاهما تراجع عنه، وأصدرا بيانات دعت للتهدئة هي الأخرى.
دخلت العملية السياسية في العراق منعطفًا جديدًا هو الأكثر خطورة منذ سقوط النظام العراقي السابق عام 2003
وخارج إطار الحالة الشيعية، أصدرت قيادات المكون السني والكردي، إلى جانب الجامعة العربية وبعثة الأمم المتحدة، فضلًا عن السفارة الأمريكية في بغداد، بيانات طالبت فيها بالتهدئة وعدم التصعيد، مشددةً على ضرورة إنتاج مبادرات سياسية تجنب العراق مزيدًا من الفوضى والدمار، وهي مسارات تحدث عنها رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، الذي دعا في بيان له، إلى الحفاظ على الاستقرار وعدم الانزلاق نحو الفوضى وحماية المؤسسات الدستورية وعدم الاحتكاك مع القوات الأمنية، مطالبًا أطراف الصراع بالتهدئة.
مشهد معقد للغاية
سبقت عملية اقتحام المنطقة الخضراء حملة واسعة أطلقتها المنصات الإعلامية للتيار الصدري، لتحشيد أنصار التيار من جميع المحافظات ودفعهم للمشاركة في المظاهرات وعملية دخول البرلمان، كما سبقها، مساء الجمعة، قيام المجاميع الصدرية بشن “غارات” متعددة ضد المقار الحزبية لتيار الحكمة الوطني الذي يتزعمه عمار الحكيم، وحزب الدعوة الإسلامية الذي يتزعمه نوري المالكي، في مناطق عدة ببغداد ومحافظات أخرى، ونجحت في إغلاقها.
وبعد الوصول إلى مبنى البرلمان صباح السبت، توجّه آلاف الصدريين إلى مبنى مجلس القضاء الأعلى، وحاولوا اقتحام الحواجز الأمنية والأسمنتية، لكن صالح محمد العراقي طلب منهم عدم التجاوز على موظفي المجلس، واقتحام مبنى المجلس وعدم التجاوز على موظفيه.
وفي إطار التحشيد والتحشيد المقابل، دخلت العملية السياسية في العراق منعطفًا جديدًا هو الأكثر خطورة منذ سقوط النظام العراقي السابق عام 2003، ففي وقت حصلت فيه احتكاكات كثيرة طوال السنوات الماضية بين مختلف الأطراف، كانت أبرزها المواجهة التي حصلت عام 2007 بين المالكي والصدر، فيما عُرف آنذاك بـ”صولة الفرسان”، وانتهت بهزيمة جيش المهدي وزعيمه الصدر، ولا يزال المالكي يفتخر بها، فإن المواجهات الأخرى بقيت محدودة، وفي المواجهة الأخيرة يبدو أن الصدر يحاول تصحيح الأمور مستفيدًا من الظرف السياسي الذي تمر به قوى الإطار حاليًّا.
فمن الواضح أن الإستراتيجية التي يتعامل بها الصدر هي البرلمان الغائب، لإفشال أي جلسة برلمانية لتكليف أي مرشح لرئاسة الوزراء من الإطار التنسيقي الشيعي، فالاعتراض الحاصل من الصدريين ليس على مرشح بعينه، وإنما على نهج حكومة المحاصصة، وأيضًا محاولة الاستحواذ على السلطة بشكل كامل.
إن المخاضات العسيرة التي تمر بها العملية السياسية في العراق، وفي ظل الصراع بين الشرعية السياسية التي تمتلكها قوى الإطار التنسيقي الشيعي، وشرعية الشارع التي يمتلكها الصدر، تبدو مآلات العملية السياسية محفوفة بالمخاطر والتحديات، فالصدر على ما يبدو أنه في انتظار تسوية سياسية تعيد له دوره في العملية السياسية، سواء عبر إيجاد مخرج قانوني يعيد نوابه المنسحبين من البرلمان أم أن يتم تقديم مرشح حسب المقاسات الخاصة به، فالذهاب نحو انتخابات مبكرة لا يبدو خيارًا مرجحًا له، خصوصًا إذا نجحت قوى الإطار في تشريع قانون جديد للانتخابات خلال الفترة الانتقالية.
فالصدام بينه وبين الإطار وإن كان مستبعدًا في الوقت الحاليّ، يبقى خيارًا مطروحًا للنقاش، في حال وصلت الأمور لطريق مسدود.
مع الاقتحام الثاني للمنطقة الخضراء خلال 72 ساعة، يهدف الصدر، للتحكم بمرحلة انتقالية تنهي المعادلة السياسية القائمة
وفي سياق ما تقدم، مثلت دعوة وزير الصدر الأمم المتحدة بالتدخل، تحولًا نوعيًا في طريقة وتحركات الصدر، وتحديدًا إنها المرة الأولى التي يتحدث فيها عن التدخل الدولي، فهو على ما يبدو يريد أن يوازن الدور الإيراني في العراق، الذي أصبح طرفًا في الصراع وليس طرفًا في الحل، وعلى هذا الأساس تبدو اليوم كل الخيارات متاحة، فالتعطيل الدستوري الذي تمر به العملية السياسية العراقية لن يدوم، وإن تأخرت عملية الحسم لأحد أطراف الصراع، وهنا تبدو عملية بقاء حكومة تصريف الأعمال بقيادة الكاظمي حالة واقعة، في ظل غياب وتعقد أفق الحل السياسي الذي أصبح يستعصي على الجميع.
إجمالًا يمكن القول إنه مع الاقتحام الثاني للمنطقة الخضراء خلال 72 ساعة، يهدف الصدر، لتحكم بمرحلة انتقالية تنهي المعادلة السياسية القائمة، لكنها قد تعجل بالمواجهة الميدانية نتيجة الممانعة المتوقعة من قوى الإطار التنسيقي الشيعي، وليس من المتوقع أن يتوقف حراك الصدريين دون أن يحقق زعيم التيار أهدافه الأساسية: “وقف العمل بالدستور العراقي، وتشكيل حكومة تستثني من يسميهم الصدر بالفاسدين، إلى جانب الإطاحة برئيس مجلس القضاء فائق زيدان”.
فعلى مدى يومين كان الصدريون أكثر وضوحًا في إعلان نياتهم، في العموم، فإن المسار الذي يعمل الصدر على تثبيته سيبدو جريئًا ومغامرًا، نظرًا لطبيعة نظام القوى في العراق، القائم على شبكة مركبة من المصالح المتقاطعة، والنجاح في تجاوزها سيكون بمثابة انقلاب، من خلال إعادة رسم خريطة شيعية جديدة يحتكرها الصدر بمفرده.