يقطع العقار في الغالب رحلة مدتها 12 سنة تبدأ من المختبر وتنتهي إلى يد المستخدم، تمنح الوكالات العالمية المختصة الترخيص للأدوية الجديدة ليتم طرحها إلى السوق والمستهلك، ولعل أهم وأرفع هذه الوكالات هي إدارة الدواء والغذاء الأمريكية (FDA) التابعة لوزارة الصحة والخدمات الإنسانية الأمريكية، تقوم هذه الوكالة بالحفاظ على سلامة وفعالية وأمان الأدوية البشرية والبيطرية واللقاحات والمنتجات البيولوجية والأجهزة الطبية والإمدادات الغذائية ومستحضرات التجميل والمنتجات الباعثة للإشعاع ومنتجات التبغ.
تُسوق إدارة الغذاء والدواء الأمريكية نفسها على أنها المسؤولة بشكل مباشر عن حماية صحة الفرد الأمريكي وصحة الأمة الأمريكية، وتركز في طرحها على مبدأ “السلامة والأمان” the safety and security للمنتج، في هذا المقال نحاول الإجابة عن أسئلة مطروحة بشأن مدى موثوقية هذه التراخيص التي تمنحها الـFDA، هل موافقة الـFDA على عقار ما تعني معرفتنا كل شيء عنه؟ ما الآلية التي تتبعها الـFDA لترخيص عقار جديد؟ هل نظام تتبع أمان وسلامة الأدوية المطروحة فعال بشكل كافٍ؟
كيف يتم طرح عقار جديد إلى السوق؟
بصورة عامة تعتبر عملية تصنيع الأدوية والموافقة عليها لتصل إلى المستهلك عملية بطيئة ومعقدة، تستغرق الكثير من الوقت والمال، بحسب مركز تافتس المختص بدراسة وتطوير الأدوية، تستغرق عملية بحث وتطوير والموافقة الكاملة على منتج دوائي جديد بين 12 إلى 15 عامًا، بمتوسط تكلفة يصل إلى 2.6 مليار دولار.
بالنسبة لإدارة الغذاء والدواء الأمريكية هناك بروتوكول من أربع خطوات FDA approval process يتم اتباعه للموافقة على منتج دوائي ومنحه الترخيص للاستهلاك، يشرف على هذه العملية مركز خاص تابع للـFDA هو مركز تقييم بحوث الأدوية Center for Drug Evaluation and Research (CDER) التي تضمن قبل طرح أي دواء أن فوائدها الصحية تفوق المخاطر، يشرف على هذا المركز فريق مستقل من الأطباء والعلماء.
سنويًا يستقبل المركز ما يقارب 1500 طلب للترخيص يتم الموافقة على 100 فقط، تتبع الخطوات التالية للحصول على الترخيص:
- المرحلة الأولى قبل السريرية Pre-clinical, INDA
- المرحلة الثانية السريرية Clinical
- المرحلة الثالثة مراجعة طلب New Drug Application (NDA) Review
- المرحلة الرابعة تقييمات المخاطر بعد طرح المنتج للسوق Post-marketing risk assessments
لتبسيط هذا الكلام، بعيدًا عن كثرة المصطلحات الطبية والعلمية، عند اكتشاف دواء مرشح يتم البدء بإجراء فحوصات على الحيوان بحثًا عن السمية ويتم جمع بيانات ومعلومات عن سلامة وفعالية المركب، عندما تكون هذه النتائج والبيانات الأولية مشجعة يتم تقديم طلب رسمي للـFDA من الشركة أو الجهة التي تتبنى البحث والتطوير لاختبار العقار على البشر.
يراجع فريق متمرس من العلماء والكيميائيين والصيادلة والاختصاصيين والأطباء، البيانات المقدمة، مركزين بشكل أساسي على السلامة والفعالية والتأكد من عدم تعريض أي شخص يتم إدخاله للتجارب لمخاطر أو أذى.
إذا تمت الموافقة على هذا الطلب، يتم تجربة العقار على البشر (المرحلة السريرية)، حيث يتم إجراء التجارب في البداية على عينة صغيرة من المتطوعين الأصحاء (أقل من 100 شخص) ومراقبة أمان العقار والآثار الجانبية الأكثر شيوعًا وكيفية استقبال العقار في الجسم.
إذا نجحت هذه المرحلة يتم إعطاء الدواء لعينة أكبر من المرضى الذين يعانون من مرض أو حالة معينة (100 شخص عادة)، يجري في هذه المرحلة التأكد من فعالية العقار ومقارنة نتائج المجاميع التي استخدمت العقار مع المجاميع التي استخدمت علاج وهمي بشكل دقيق، ونجاح هذه المرحلة يعني الانتقال إلى التجارب السريرية الثالثة والأخيرة حيث يتم إجراء التجربة على شريحة أكبر (عادة في الألف)، فزيادة العدد تمنح فرصة أكبر لجمع المزيد من المعلومات عن سلامة وفعالية العقار، ويتم إجراء تجارب بجرعات مختلفة وبالاقتران مع أدوية أخرى، في حال نجاح التجارب على البشر يتم تقديم طلب آخر للـFDA من أجل المراجعة والموافقة على البيع.
يسود بين المرضى والأطباء اعتقاد مفاده أن الترخيص الممنوح من إدارة الغذاء والدواء الامريكية (FDA) لعقار ما هو دليل على أمان وفعالية هذا المنتج
تبدأ الـFDA بمراجعة المعلومات الموجودة في المنشور الخاص بالدواء، للتأكد من دقة المعلومة وأنها معلومات كافية خالية من الادعاءات الكاذبة، بالإضافة إلى مراجعة البيانات والأبحاث التي قدمتها الجهة المتبنية للعقار، بعد ذلك تفحص الـFDA المنشأة التي سيتم تصنيع العقار فيها للتأكد من أنها خاضعة لشروط التصنيع الجيدة (cGMP).
بعد أن يجتاز العقار هذه الخطوات، تمنح إدارة الغذاء والدواء الموافقة على الدواء ويمكن توفير المنتج في السوق، وغالبًا ما تسعر الشركات المصنعة الدواء بعد حصولها على موافقة الـFDA.
يتبقى أمام الدواء خطوة أخيرة، ما بعد طرحه للاستهلاك، إذ تراقب إدارة الـFDA سلامة الدواء بعد طرحه في السوق من خلال برنامج السلامة Medwatch، والغاية هي اكتشاف أي آثار جانبية خطيرة أو غير متوقعة لم يكن ممكنًا التنبؤ بها في أثناء التجارب السريرية، كما يستطيع المرضى ومقدمو الرعاية الصحية الإبلاغ عن الآثار الجانبية أو أي مخاوف أخرى عن طريق ملء استمارة إلكترونية خاصة ببرنامج Medwatch.
تتبع اللقاحات والمستحضرات الدوائية الحيوية نفس الخطوات السابقة الذكر، باستثناء إمكانية التلاعب بالجدول الزمني، إذ توجد إمكانية طلب الموافقة على برنامج الموافقة الطارئ وبرنامج المسار السريع في الحالات التي تلبي حاجة طبية خطيرة وعاجلة كما حدث في ترخيص لقاحات COVID-19 وأدوية السرطان والإيدز وأمراض القلب.
عند الموافقة على عقار ما ووصوله إلى رفوف الصيدليات، هل يجعله آمن للاستخدام؟
يسود بين المرضى والأطباء اعتقاد مفاده أن الترخيص الممنوح من إدارة الغذاء والدواء الأمريكية (FDA) لعقار ما هو دليل على أمان وفعالية هذا المنتج، ويشعر الكثير من المستهلكين بالثقة عند رؤية شعار الـFDA ملصق على العلبة، لكن هل تستحق هذه الأدوية المرخصة كل هذه الثقة؟
تشير الأبحاث إلى أن ثلث (32%) الأدوية التي رخصتها الـFDA بين الأعوام 2001-2010 تم سحبها من السوق بسبب مشاكل متعلقة بسلامة المنتج، ما يعني أننا في كل مرة نستهلك فيها أحد الأدوية المرخصة أمام احتمالية 1 من أصل 3 للإصابة بالمضاعفات ومشاكل الأمان والسلامة.
في العقد الأول من الألفية الثانية تم سحب 71 منتجًا مرخصًا من أصل 222، ومن أشهر تلك الأدوية التي رجّ سحبها من الأسواق الرأي العام عالميًا، وتعرضت الـFDA لانتقادات كبيرة وطُرحت الكثير من الأسئلة عن مدى كفاءة نظام المراقبة ما بعد التسويق، قضية Vioxx وهو علاج مسكن لآلام التهاب المفاصل، تم سحبه من السوق عام 2004 بعد خمس سنوات من العمل بعد أن تم وصفه لأكثر من 20 مليون شخص، عانى ما يقارب 140.000 مستخدم من نوبات قلبية أو سكتات دماغية بعد تناوله.
كلف هذا السحب شركة Merck المنتجة لفيوكس، 6 مليارات دولار، وتم اتهام شركة Merck والـFDA بتجاهل مخاطر العقار، وكان لعقار Bextra آثار مشابهة لـVioxx، وتم سحبه من السوق بعد عام من طرحه لظهور أعراض جانبية مُهلكة للمستخدم مثل السكتات الدماغية والنوبات القلبية كما سبب حالة جلدية مميتة لدى بعض المستخدمين.
بعد عملية سحبه من السوق تم تغريم شركة Pfizer بما يقرب من 1.2 مليار دولار، كواحدة من أكبر الغرامات الجنائية لشركات الأدوية، والقائمة تطول.
الانتقاد الآخر الذي يطال الـFDA بأنها لا تجري الأبحاث والدراسات المستقلة فيما يتعلق بسلامة وأمان المنتجات الدوائية، بل تعتمد على الدراسات والنتائج البحثية التي تقدمها الجهة المصنعة
المشكلة التي يعاني منها نظام مراقبة السلامة الذي تعتمد عليه الـFDA أنه نظام طوعي، بمعنى أنه غير مُفعل بالشكل الصحيح، بالإضافة إلى أن استمارات التقارير التي يتم الإبلاغ فيها عن مشكلة ما، لا يتم التحقق منها بشكل صحيح، فغالبًا ما تكون مملوءة بمعلومات غير كافية ومتأخرة.
مشاكل السلامة والأمان تطال أيضًا برنامج الموافقة المستعجلة Accelerated Approval Program (AAP) التابع لـFDA الذي يتم اتهامه بطرح نتائج سريرية غير مؤكدة، بالإضافة إلى التكلفة العالية لهذه العقارات المطروحة، على سبيل المثال بعد حصول عقار أولاراتوماب (دواء يستخدم لعلاج أحد سرطانات الأنسجة الرخوة) على الترخيص المستعجل، بلغت كلفة 6 أشهر من جلسات العلاج مبلغ 106000 دولار، وبعد ذلك أظهر عدم فائدته بالدراسات اللاحقة.
ولكي نكون منصفين، لا يمكن وضع اللوم بالمجمل على الـFDA، فهي تتعرض بشكل مستمر لضغوط كبيرة من إدارة الحكومة الأمريكية من أجل تغيير البروتوكول المتبع لترخيص الدواء بُغية اختصار الوقت وتسريع عملية الترخيص، بالمقابل ينتقد الباحثون في مجال سلامة الأدوية الـFDA بأنها تعطي التراخيص بشكل أسرع مقارنة بنظيرتها في أوروبا وكندا، إذ يؤكد الباحثون أن محاولة الإسراع بطرح الدواء له عواقب تعرض المستهلك لمخاطر أكبر.
المشكلة الأخرى هي “التمويل”، إذ تحصل الـFDA على ثلث تمويلها من أموال دافعي الضرائب، أما غالبية التمويل يكون من كبريات الشركات الدوائية، الأمر الذي يضعها في خانة الشكوك بشأن مصداقية النتائج التي تقدمها للمستهلك، وكيف يُسمح بالقبول بتلقي التمويل من الشركات التي من المفترض أن يتم مراقبتها بالأساس؟
الانتقاد الآخر الذي يطال الـFDA أنها لا تجري الأبحاث والدراسات المستقلة فيما يتعلق بسلامة وأمان المنتجات الدوائية، بل تعتمد على الدراسات والنتائج البحثية التي تقدمها الجهة المصنعة، هذه الحقيقة تجعل الـFDA تبني قرارات القبول والرفض على أساس المعلومة المقدمة لها، وهنا يثار الشك بشأن مصداقية الشركات الدوائية في عرض المعلومات بدقة.
ويكثر الحديث عن التضليل الذي تقوم به هذه الشركات، إذ تعرض عن المنتج الحقائق التي تود عرضها وتخفي ما تود إخفاءه، لكنها تمارس التضليل بطرق قانونية، فتستعين بعدد من الكتاب والاختصاصيين الذين يحاولون إظهار نتائج الأبحاث بالطريقة التي تخدم مصالح الشركة المنتجة دون تعريض الـFDA للمساءلة المباشرة.
اليوم بعد كل هذا اللغط المثار عالميًا بشأن سلامة وأمان الأدوية يتجه قسم كبير من الناس لتقبل فكرة استخدام الأعشاب والعلاجات الشعبية القديمة كبديل عن الأدوية المرخصة، ويوجه قسم من الأطباء المستقلين نصائحهم بضرورة عدم استخدام أي عقار جديد قبل مرور ما لا يقل عن 7 سنوات على إنتاجه للتأكد من سلامته وأمانه.