أطلقت الحكومة المصرية على لسان رئيسها مصطفى مدبولي، في 13 يونيو/حزيران 2022 ما أسمته وثيقة “سياسة ملكية الدولة”، وهي الوثيقة التي تكشف موقف الدولة من القطاعات الاقتصادية وأصولها المملوكة لديها خلال السنوات الخمسة المقبلة، في محاولة لإعادة الثقة إلى مناخ الاستثمار المحلي، وتحفيز رجال الأعمال على ضخ مليارات الدولارات في السوق المصري.
وتعد تلك الوثيقة استجابة لما كشفه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي خلال حفل “إفطار الأسرة المصرية” الذي عقدته مؤسسة الرئاسة في أبريل/نيسان الماضي حين أشار إلى استهداف جمع 40 مليار دولار من بيع الأصول المملوكة للدولة بمعدل 10 مليارات دولار سنويًا لمدة أربع سنوات لتعزيز احتياطي البلاد من العملات الأجنبية بما يساعد على الوفاء بالتزاماتها المالية والنقدية.
ورسمت الوثيقة خطة زمنية لتخارج الدولة عن بعض القطاعات وفتح الطريق أمام مشاركة القطاع الخاص، حيث تضمنت 3 أقسام: الأول يشمل القطاعات التي ستخرج منها الدولة بصورة نهائية، الثاني يشير إلى تلك التي ستقلل الحكومة فيها من حجم استثماراتها مع منح الأجانب المشاركة، فيما يتضمن القسم الثالث الجزء الخاص بالمجالات التي من المفترض أن تتوسع فيها الاستثمارات والتوسعات الرسمية.
وبحسب خطة الحكومة فإن الهدف الرئيسي من تلك الإستراتيجية الجديدة هو زيادة حجم حصة القطاع الخاص من الاقتصاد من 30% كما هي حاليًا إلى أكثر من 65% مستقبلًا، حسبما نشر موقع “ميدل إيست آي” المهتم بشؤون الشرق الأوسط.
التحول المفاجئ من هيمنة الدولة على معظم قطاعات الاقتصاد وتهميش القطاع الخاص بالكلية إلى العمل على التشاركية وفتح الباب أمام الشركات الخاصة أثار الكثير من التساؤلات عن جدية تلك السياسة بصفة عامة وأبرز القطاعات التي تنتوي الدولة التخارج منها وحجمها قياسًا بالاقتصاد الكلي، وما إذا كان تلك السياسة الجديدة محاولة بالفعل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه وتصحيح مسار خاطئ أم تحايل جديد على الوضع في ضوء الضغوط الممارسة على الحكومة وسياساتها التي ساهمت في تأزم الوضع الاقتصادي.
تراجع نصيب القطاع الخاص
تعرضت حصة القطاع الخاص في الاقتصاد المصري خلال السنوات العشرة الماضية إلى هزات عنيفة، حيث فقدت أكثر من 60% من قيمتها، نظير زيادة الهيمنة الحكومية على معظم المجالات، فوفق النشرة الشهرية للبنك المركزي المصري في مايو/آيار الماضي تراجع نصيب القطاع الخاص من 71.7% خلال عام 2012/2013 إلى 26.3% خلال السنة المالية 2020/2021، وعلى الجانب الآخر ارتفعت استثمارات الدولة خلال الفترة ذاتها من 28.3% إلى 73.7%.
أما عن المجالات التي تسيطر عليها الاستثمارات الحكومية فتتمحور في الزراعة والتجارة والصناعات التحويلية وتكرير البترول بجانب قطاع العقارات، فيما يهيمن القطاع الخاص على مجال السياحة وبعض الأفرع الخاصة بالقطاع التجاري الذي يواجه فيه مزاحمة كبيرة من الدولة.
وقد أدت سيطرة الحكومة على الاقتصاد إلى خروج عشرات الشركات عن دائرة المنافسة، بل إن الكثير منها اضطر إلى غلق أبوابه وإعلان إفلاسه، فيما اتجه البعض إلى تغيير نشاطاته في محاولة للتكيف مع المعطيات الجديدة، ليدفع العاملون بشتى مستوياتهم ثمن هذا التوجه الذي زج بعشرات الآلاف إلى آتون البطالة، ودفع الكثير منهم إلى السفر للخارج بحثًا عن فرصة عمل.
“أحمد”.. مهندس مصري (35 عامًا) كان يعمل في إحدى شركات المقاولات الكبرى، فوجئ قبل عامين تقريبًا بموجة تصفية داخل الشركة، فصل مهندسين وعمال، وتقليل رواتب آخرين، وتحميلهم المزيد من الأعباء، وحين سأل عن السبب قيل له إن الشركة فقدت أكثر من 60% من أعمالها بسبب سيطرة الهيئة الهندسية للقوات المسلحة على معظم مشروعات الإسكان والطرق والكباري، الأمر الذي دفعه إلى السفر إلى إحدى دول الخليج للعمل هناك لتحسين ظروفه بعدما بات الوضع في مصر لا يحتمل في ظل الظروف الأخيرة، مضيفًا أن هذا القرار لم يكن قرارًا فرديًا منه، لكن كثيرًا من زملائه سلكوا نفس الطريق.. هكذا تحدث لـ”نون بوست”.
الإعلان عن وثيقة “سياسة ملكية الدولة” يحقق لها أكثر من هدف، الأول مغازلة المؤسسات المالية الكبرى وعلى رأسها صندوق النقد بما يسهل عملية الحصول على قروض جديدة، كذلك يمتص الاحتقان الشعبي المتصاعد بسبب الوضع المتردي الذي يحمل الشارع الدولة مسؤولية تفاقمه بحكم هيمنتها على كل القطاعات، كما يرسم صورة عامة وردية عن مناخ الاستثمار في مصر بما يشجع المستثمر الأجنبي.
المجالات الربحية.. الإبقاء على الهيمنة
الوثيقة المقدمة من رئيس الحكومة لم تقدم تفاصيل بشأن خريطة التخارج، وأي المجالات التي ستخرج منها الدولة، وحجم هذا الخروج، وأي منها سيفتح بابها للقطاع الخاص ونسب المشاركة، وعليه فإن حالة من الغموض تخيم على الأجواء في ظل غياب المعلومات الكاملة، ما فتح الباب أمام السيناريوهات والتكهنات.
وفق المصادر الخاصة بموقع “المنصة” المصري فإن القطاعات الأكثر ربحًا وصاحبة الاستثمارات الهائلة ستظل تحت هيمنة الحكومة، أبرزها صناعة تكرير البترول الذي ضخت فيه الدولة 11.4 مليار جنيه خلال عام 2012، فيما غاب القطاع الخاص جملة وتفصيلًا عن هذا المجال، الوضع كذلك في صناعات الحديد والصلب والأسمنت، إذ استحوذت القوات المسلحة مجموعة “حديد المصريين” التي تسيطر على أكثر من 22% من سوق حديد التسليح في مصر، وفي مجال الأسمنت سيطرت الدولة على 20% من سوقه الإجمالي.
الأمر – بحسب الموقع المصري – لم يختلف كثيرًا عن صناعات التبغ، التي تهيمن عليها الدولة من خلال شركة “إيسترن كومباني” التي بلغت استثماراتها في 2021 نحو 678 مليون جنيه، فيما تحجر القطاع الخاص عند حاجز الـ5.2 مليون جنيه فقط، كذلك الأجواء في صناعات الرخام والجرانيت والذهب التي تقبع منذ سنوات تحت هيمنة الحكومة والجيش.
السؤال هنا: ما هي القطاعات التي ستتخارج منها الحكومة إذًا؟ ولماذا؟
المجالات الأبرز المتوقع أن تنسحب منها الدولة لصالح القطاع الخاص تتمحور في 3 قطاعات رئيسية: الأخشاب، الجلود، والصناعات النسيجية، التي لا تتجاوز نسبة الاستثمارات الحكومية فيها حاجز الـ20% بواقع 6.3 مليون جنيه فقط، فيما يحتل القطاع الخاص النصيب الأكبر من استثماراته بحسب النشرة الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء (حكومي).
وفي الصناعات النسيجية تحديدًا لا تتجاوز حصة الحكومة بها 1.4% من إجمالي الاستثمارات بواقع 27 مليون جنيه، نظير 1.9 مليار جنيه للقطاع الخاص، وتنتوي الدولة التخارج من هذا القطاع بنسبة 90%، وفي صناعات الملابس الجاهزة فقد بلغت استثمارات القطاع الحكومي 350 ألف جنيه فقط مقابل 730.3 مليون جنيه للخاص، وفق النشرة ذاتها.
وعن أسباب اختيار الدولة لتلك القطاعات بالذات يشير نائب رئيس الاتحاد المصري لجمعيات المستثمرين، أسامة حفيلة، إلى أن الصناعات المذكورة تسبب أعباء مالية على الحكومة كونها من المجالات كثيفة العمالة وتحتاج إلى ميزانيات ضخمة، ولم تحقق الأرباح المطلوبة، وعليه لا تريد الدولة تهديد السلم الاجتماعي من التخلص من تلك الصناعات لما يترتب عليها من كوارث اجتماعية، ومن ثم ستفتح الباب أمام القطاع الخاص لتحمل الأعباء كاملة وإزاحة هذا الحمل الثقيل من على كاهل الدولة.
من السابق لأوانه الحديث عن حسن أو سوء نية الدولة في تبنيها لتلك الإستراتيجية، وعليه فإن التفاؤل الذي صاحب الإعلان عن وثيقة “سياسة ملكية الدولة” والكلام عن تخارج الدولة من بعض القطاعات وإفساح المجال للقطاع الخاص هو تفاؤل مشوب بالحذر والترقب في ظل الكواليس التي لم يكشف عنها وندرة المعلومات حتى اليوم
وعليه فإن وثيقة ملكية الدولة التي قدمتها الحكومة تبقي على الصناعات الربحية ذات العوائد الكبيرة تحت قبضة الدولة فيما تمنح القطاع الخاص الفرصة للمشاركة في المجالات التي تمثل عبئًا على الحكومة، ورغم ذلك فإن نائب رئيس الاتحاد المصري لجمعيات المستثمرين، يعتبر أن الوثيقة لم تدخل بعد حيز التنفيذ كونها لا تزال قيد التجربة وأن الأمر يحتاج إلى وقت طويل للنقاش والمداولة، وإن كانت خطوة إيجابية نحو تشاركية القطاع الخاص في الاقتصاد الوطني.
جدير بالذكر أن مسحًا كانت قد أجرته مؤسسة “ستاندرد آند بورز غلوبال” في أبريل/نيسان الماضي كشف عن انكماش القطاع الخاص غير النفطي في مصر، ليواصل تدهوره على مدار الـ17 شهرًا المنقضية، فيما تعمقت الأزمة بعد الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير/شباط الماضي.
ورغم ارتفاع مؤشر مديري المشتريات في مصر من من 46.5 في مارس/آذار الماضي إلى 46.9 نقطة في أبريل/نيسان، فإنه لا يزال أقل من 50 نقطة التي تفصل بين النمو والانكماش، بحسب “ستاندرد آند بورز غلوبال” التي أوضحت أن الارتفاع الجنوني للأسعار بعد الأزمة الأوكرانية زاد من المأزق الاقتصادي العالمي بصفة عامة ومن الاقتصاديات الناشئة والنامية على وجه الخصوص.
هناك آراء تشير إلى أن الدولة مدفوعة بحزمة من الضغوط الداخلية والخارجية مجبرة على تبني إستراتيجية جديدة تخفف بها من قبضتها على الاقتصاد الذي أثار سيطرة الجيش عليه الكثير من الانتقادات الخارجية، ومن ثم فإن الإعلان عن تلك الوثيقة الجديدة يحقق لها أكثر من هدف، الأول مغازلة المؤسسات المالية الكبرى وعلى رأسها صندوق النقد بما يسهل عملية الحصول على قروض جديدة، كذلك يمتص الاحتقان الشعبي المتصاعد بسبب الوضع المتردي الذي يحمل الشارع الدولة مسؤولية تفاقمه بحكم هيمنتها على كل القطاعات، كما يرسم صورة عامة وردية عن مناخ الاستثمار في مصر بما يشجع المستثمر الأجنبي.
من السابق لأوانه الحديث عن حسن أو سوء نية الدولة في تبنيها لتلك الإستراتيجية، وعليه فإن التفاؤل الذي صاحب الإعلان عن وثيقة “سياسة ملكية الدولة” والكلام عن تخارج الدولة من بعض القطاعات وإفساح المجال للقطاع الخاص هو تفاؤل مشوب بالحذر والترقب في ظل الكواليس التي لم يكشف عنها وندرة المعلومات حتى اليوم، التي بكشفها سيزال النقاب عن الكثير من الأسئلة الجدلية لتتضح الصورة بشكل أكثر نقاءً.