دخل المحتجّون من أنصار الصدر إلى المنطقة الخضراء شديدة التحصين مرة ثانية خلال أقل من أسبوع، ضمن حملة ضغط كبرى على خصومهم السياسيين، ورفضًا لمرشّح الإطار التنسيقي لرئاسة الحكومة المقبلة، إذ قضى آلاف من أنصار التيار ليلتهم داخل البيت التشريعي الواقع في المنطقة التي تضمّ أيضًا مباني حكومية ومقارَّ بعثات أجنبية.
بعث الصدر باحتجاجات أنصاره رسائل عاجلة إلى خصومه، بأنه لا يزال مؤثّرًا في المشهد السياسي، رغم أن تياره لم يعد ممثلًا في البرلمان، إثر استقالة نوابه الـ 73 في حزيران/ يونيو الماضي، بعدما كانوا يشغلون الكتلة الأكبر في عدد المقاعد.
تبدو القوى السياسية عاجزة عن الخروج من الأزمة، إذ لم تُفضِ شهور من المفاوضات إلى نتيجة، رغم المحاولات التي أجرتها للتوافق مع القوى الأخرى لتسمية رئيس للوزراء من بين الأطراف الشيعية المهيمنة على المشهد السياسي منذ عام 2003.
ومثل 20 سنة مضت، غالبًا ما يكون المسار السياسي معقّدًا وطويلًا، بسبب الانقسامات الحادة والأزمات المتعددة وسطوة القوى المتنفّذة وجماعات السلاح على القرار السياسي، لكن الجمود الذي شهدته فترة ما بعد الاقتراع كان الأطول، فمنذ إجراء انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول 2021، يحول الصراع داخل القوى الشيعية والكردية بالأساس دون تشكيل حكومة، ما عطّل إصلاحات عاجلة يطالب بها الشعب.
وحتى بعد مضيّ أكثر من 10 أشهر، لم يقترب المشرّعون المكلّفون من اختيار رئيس جديد للجمهورية، ولم يكلَّف رئيس جديد لتشكيل الحكومة بعد، ولم يتمكّنوا أصلًا من الاتفاق على شيء.
لماذا صعّد الصدر؟
لم يكن خطاب الصدر وتياره بهذه اللهجة التصعيدية ضد قوى الإطار التنسيقي، حتى عقد البرلمان جلسة طارئة في 23 يونيو/ حزيران، وصوّت خلالها على النواب الجدد الذين حلّوا بدلًا من نواب التيار المستقيلين (73 نائبًا من أصل 329)، وبذلك انتهت سياسيًّا آخر آمال العودة للفائز الأول في الانتخابات إلى قبّة البرلمان مجددًا.
سعى الصدر إلى تغيير النظام عبر خطة مرسومة تبدأ بالفوز انتخابيًّا وتنتهي بالتغيير من الداخل
دخول البدلاء البيت التشريعي، وغالبيتهم من قوى الإطار، والإسراع في عقد الجلسة بعد 10 أيام فقط من استقالة نواب التيار الصدري، استفزّا الصدر حتى وهو يعرف نتيجة تقديم الاستقالة، التي وُصفت حينها بأنها ورقة ضغط ضد الخصوم ليس إلّا.
دفعت هذه المتغيرات المتسارعة التيار إلى تغيير خطابه وترتيب صفوفه من جديد، بناءً على ما تخطط له قوى في الإطار، إذ شعر الصدر شخصيًّا باستهداف مباشر من قبل رئيس ائتلاف دولة القانون نوري المالكي، بعد فضيحة التسريبات التي كشفت ما يضمره خصم التيار لهم.
زاد القلق، وشعرَ الصدريون بخطر ما يُحاك لهم في الكواليس، ليأتي ترشيح النائب الحالي والوزير والمحافظ السابق محمد شياع السوداني، المنبثق عن الطبقة السياسية التقليدية، بمثابة تحدٍّ آخر، وكأن الإطار يتحكّم به المالكي.
السقف يرتفع.. والغضب أيضًا!
الغضب الصدري العارم سببه منعه – وهو الفائز الأكبر بالانتخابات العراقية – من تشكيل الحكومة بطريقة لا تحتكم لصندوق الاقتراع تحت ذريعة “الأغلبية الوطنية”، حيث يجري تقليديًّا اختيار رئيس الحكومة بتوافق بين القوى الشيعية المهيمنة على المشهد السياسي منذ عام 2003.
أراد الصدر بذلك تغيير القاعدة، في أن يكون تياره هو من يسمّي رئيس حكومة “أغلبية” إلى جانب حلفائه من الأكراد والسنّة، لكن مشروعه جُوبه من قبل خصومه بالطعون بنتائج الاقتراع واتهامات التزوير والتخوين بالولاء للخارج، فرفع أنصار الصدر سقف مطالبهم بعد كل ذلك، ونفد صبرهم.
مؤسّساتيًّا، سعى الصدر إلى تغيير النظام، عبر خطة مرسومة تبدأ بالفوز انتخابيًّا وتنتهي بالتغيير من الداخل، حيث يؤمن التيار -مثل كثير من العراقيين- بأن نظام المحاصصة تسبّب في العديد من الويلات للعراقيين، وبعد نفاد الطرق الرسمية المؤسساتية لجأ الصدريون إلى الشارع، كمرحلة أخيرة لتغيير الواقع الذي يصعب تغييره سياسيًّا.
نقلَ الصدرُ، الذي يحظى بتأييد شعبي واسع، المعركةَ -بعد ذلك- من الأروقة السياسية إلى الشارع، ما أدّى إلى انعكاس الصراع السياسي شعبيًّا، إذ كان لتأخير تشكيل الحكومة آثار سلبية على العملية السياسية.
وتبدو المصالحة ودعوات الحوار بعيدتا المنال حاليًّا بسبب تفاقم الخلاف الذي لا يرتكز على سوء فهم شخصي، وبالتأكيد لن يحسمه حوار وتفاهُم غابا منذ بداية الأزمة، نظرًا إلى التشنُّج الكبير في المواقف الذي شهدته البلاد في أعقاب أول انتخابات مبكّرة منذ عام 2003، حيث تبرز دعوات واسعة بعد أشهر من الخلافات ومن قوى مختلفة، تحثّ على التأسيس لعقد سياسي جديد والذهاب إلى نظام جديد.
سيناريوهات ما بعد التصعيد؟
عمليًّا، انتهى ترشيح السوداني لرئاسة الحكومة المقبلة، وحُرق اسمه مثل كثير ممّن سبقوه في دورات انتخابية ماضية، لكن في عالم السياسة العراقية الذي يخضع لسلطة الجماعات المتنفّذة، كل شيء وارد.
قد تنحلّ أزمة الانتخابات بمعالجات، مثل حلّ البرلمان وإجراء انتخابات مبكّرة جديدة، بعد ما أفشل الفاعل السياسي نتائج الأولى، لكن الحلول المتداولة لن تعالج أزمةً يعاني منها النظام، كما أن لا أحد يستطيع أن يضمن عدم تفجُّرها من جديد.
تبقى العقلية التي خلّفت كل هذه الفوضى تقرر مسارات البلاد المستقبلية على طاولة تفاوض من لون واحد
في العراق، يكثر الحديث في الأوساط السياسية والأكاديمية عن تعليق الدستور وكتابة آخر جديد، بإشراف حكومة تتشكّل من الكفاءات والنخب غير المتحزّبة، بشرط أن تكون بعيدة عن تأثير نفوذ الأحزاب وجماعات السلاح، وتكثر الدعوات السياسية إلى تغيير جذري للنظام السياسي والدستور والانتخابات، بعد أن عانى الشعب الأمرَّين من صراع الكتل داخل قبّة البرلمان.
اقتحام البرلمان لم يكن سوى خطوة أولى يتّجه إليها الصدر لاستعراض قوة تياره، وفي ظل استمرار التصعيد الداخلي يزداد خطر وقوع “حرب أهلية”، لا سيما مع امتلاك كل من طرفَي الصراع مجموعات مسلّحة.
وفي ظل عدم تقديم تنازلات من قبل قوى الإطار، يعني ذلك أن الوضع سيتّجه نحو مزيد من التصعيد، الذي لا تخشاه بعض قوى الإطار، والتي عبّرت عن قلقها من المضيّ في تشكيل الحكومة من دون الصدر.
غابت البنية الديمقراطية ومؤسساتها في العراق، وأنتج ذلك مناخات فساد ضاق بها الشعب ذرعًا منذ 20 سنة مضت، حيث يراقب المحتجّون اليوم ومثلهم ملايين العراقيين البيانات الداعية إلى أنصاف الحلول.
ووسط كل السيناريوهات المفتوحة، وفي ظل الارتباك السياسي المعقّد، تبقى العقلية التي خلّفت كل هذه الفوضى تقرّر مسارات البلاد المستقبلية على طاولة تفاوض من لون واحد، لكن الخشية كبيرة من ابتكار حلّ عبر نوافذ الدبلوماسية الخلفية يحفظ للأحزاب المتنفّذة مصالحها.
فهل سيرضى الفاعلان (الإقليميان والدوليان) بإعادة عجلة الديمقراطية ومخرجاتها إلى الوراء؟