خلال الأيام الأخيرة الماضية طغى على مشهد الأحداث في لبنان بشكل كبير ملف أزمة الخبز، وعاد مشهد طوابير السيارات أمام محطات الوقود الذي شهده لبنان في وقت سابق خلال العامين الماضيين، لكن هذه المرة أمام الأفران حيث برز مشهد طوابير المواطنين يصطفون أمام الأفران وتحت شمس تموز الحارقة من أجل الحصول على ربطة خبز واحدة من القياس الكبير فيها 6 أرغفة، وربطة أخرى من القياس والحجم الصغير فيها أيضًا 6 أرغفة.
هذا المشهد بات مألوفًا ويتكرر ليلًا ونهارًا مع ما يحمله من معاناة وتضارب وتدافع في كثير من الأحيان لحجز دور من أجل الحصول على ربطة خبز، وبالفعل سقط عدد من الجرحى أمام بعض الأفران بسبب الخلافات التي حصلت بين المواطنين، وسقط في بعضها قتيل، هذا فضلًا عن ازدياد النظرة الحادة والعنصرية تجاه اللاجئين السوريين بسبب هذه الأزمة، فبعض المواطنين يرون اللاجئ السوري منافسًا لهم على ربطة الخبز، وقد دعم، للأسف، هذه النظرة مواقف بعض السياسيين اللبنانيين التي كان آخرها يوم الثلاثاء الماضي لرئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، حين قال في جلسة للمجلس النيابي أمام النواب: “معظم ربطات الخبز التي يجري إنتاجها تذهب لغير اللبنانيين والجميع يعلم بذلك” في إشارة منه إلى اللاجئين السوريين.
أسباب الأزمة
يتقاذف المسؤولون اللبنانيون الاتهامات بالمسؤولية عن هذه الأزمة المستجدة والمتفاقمة التي تهدد بجوع اللبنانيين واللاجئين السوريين على حد سواء، أو بفوضى اجتماعية عارمة من ناحية أخرى، أو بثورة “رغيف” تشبه ثورة “الواتس آب” التي حصلت في 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019.
يتطلع المسؤولون إلى إيجاد بعض الحلول الجزئية أو المرحلية التي تهدئ من روع اللبنانيين وتشكل “إبرة مخدر” تمنعهم من الثورة على الواقع القائم
غير أن أسباب هذه الأزمة يُرجعها البعض إلى سرقة ونهب الطحين الذي ما زال مدعومًا من الحكومة بشكل بسيط ومتواضع، وهذا ما صرح به وزير الاقتصاد في حكومة تصريف الأعمال أمين سلام، قبل أيام عندما قال: “الأزمة لها علاقة بتجار الطحين الذين يراكمون ثروات من احتكار الطحين المدعوم”، إلا أن مقربين من سلام أشاروا أيضًا إلى مسؤولية مصرف لبنان المركزي، لأن استيراد القمح حاليًّا مرتبط بالمصرف الذي يؤمن الدعم المالي لاستيراد كمياته من المطاحن، وتأخير عملية تأمين الدعم بالعملة الصعبة يؤخر استلام المطاحن للقمح المدعوم، وهذا بدوره يُوجِد أزمة لدى الأفران.
يتفق أصحاب الأفران مع هذه المقولة ويحمّلون الدولة ومؤسساتها المسؤولية عن الأزمة، فوزارة الاقتصاد تفرض على الأفران سعرًا محددًا ووزنًا معينًا لربطة الخبز، إلا أن مؤسسات الدولة الأخرى كالمصرف المركزي الذي يفتح اعتمادات مالية لشراء القمح من الخارج لا يريد أن يتحمل فروقات الأسعار بين سعر طن القمح في السوق العالمية وسعر ربطة الخبز للمواطن اللبناني في محاولة لتحميل الأفران هذا الفرق والكلفة، بينما هي ترفض ذلك.
ناهيك بأن وزارة الاقتصاد تشير إلى أن مسؤوليتها هي تأمين الدعم على القمح والطحين لسد حاجة السوق اللبنانية، بينما التجار يُوجدون الأزمة للاستفادة من تأمين الدعم على كامل كميات القمح، وسد بعض حاجة السوق من هذه الكميات وتهريب الباقي لبيعه في أسواق مجاورة كسوريا مثلًا وتوفير أرباح طائلة، أو في استخدام هذا القمح المدعوم في صناعات غذائية أخرى غير الرغيف.
وفي أسباب الأزمة أيضًا وما جرى تقاذفه، ما صرح به رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، عن الكمية التي يستهلكها اللاجئون السوريون من الخبز المدعوم، ومن دون نسيان ما سببته الحرب الروسية الأوكرانية من أزمة عالمية في موضوع القمح.
والواقع أن السبب الحقيقي لأزمة الخبز وقبلها المحروقات والأدوية والكهرباء والمواد الغذائية وغيرها في لبنان يعود إلى السياسات المالية والاقتصادية التي اتبعتها الحكومات المتعاقبة التي فاقمت حجم الأزمة الاقتصادية والمالية وأوقعت لبنان تحت الديون حتى تخلف عن سداد بعضها قبل نحو عامين، وهو ما دفع الشركات الائتمانية إلى تخفيض مستوى لبنان الائتماني ما حال دون حصوله على قروض أو مساعدات مالية من خارج الدورة الاقتصادية اللبنانية حتى الساعة.
أفق الحلول والتوقعات
يتطلع المسؤولون إلى إيجاد بعض الحلول الجزئية أو المرحلية التي تهدئ من روع اللبنانيين وتشكل “إبرة مخدر” تمنعهم من الثورة على الواقع القائم والأزمات المتناسلة، وغالبًا ما يكون ذلك بموافقة ورعاية خارجية من خلال إيجاد حلول جزئية لبعض الأزمات.
وفي ملف الخبز والرغيف أشار وزير الاقتصاد أمين سلام، إلى قرض تم تأمينه من البنك الدولي بقيمة 150 مليون دولار لتأمين إمدادات القمح، وأشار أيضًا إلى أنه سيدخل إلى لبنان 49 ألف طن من القمح قبل نهاية شهر يوليو/تموز، مؤكدًا أن ذلك يجب أن يدفع إلى عدم رؤية طوابير بعد ذلك أمام الأفران، كما أشار أيضًا إلى وجود خلية أزمة لتوزيع القمح والطحين بشكل عادل، وتعهد الوزير بملاحقة من يعمل على اختلاق الأزمات قانونيًا أمام القضاء اللبناني.
أي حل لأي أزمة يحتاج إلى حلول جذرية لبقية الأزمات، ويحتاج إلى حلول سياسية داخلية وخارجية
بدوره أشار رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، إلى أهمية تنظيم وصول القمح والطحين إلى المطاحن والأفران، مضيفًا أن هذا الأمر سيكون مرتبطًا بآلية واضحة تُشرف عليها لجنة مختصة، وفيما يتعلق برفع الدعم عن الطحين قال ميقاتي إن حكومته مستعدة لرفع الدعم عن كل شيء شرط أن يصدر توصية بذلك من المجلس النيابي.
من الواضح أن الحلول الجذرية لهذه الأزمة أو لغيرها من الأزمات في لبنان ليست أمرًا سهلًا وبسيطًا، فالبلد يعيش أزمة بنيوية تهدد الكيان والنظام والمؤسسات، وأي حل لأي أزمة يحتاج إلى حلول جذرية لبقية الأزمات، ويحتاج إلى حلول سياسية داخلية وخارجية، هي إلى الآن غير متوافرة، وبالتالي فإن هذه الأزمة مرشحة لمزيد من التفاقم في ظل غياب الحلول وتفشي الفساد واستخدام لبنان ساحة لتصفية حسابات الآخرين وعجز اللبنانيين أنفسهم عن اجتراح الحلول والخروج من مربعات الانعزال والطائفية واستمرار الانقياد لهذه الزمرة الحاكمة التي قادت وتقود البلد نحو المجهول وهي ترفع شعار حماية مكوناتها الأقلوية على حساب النهوض بالبلد الواحد للجميع.
ولعل من أخطر ما يمكن أن يصل إليه لبنان في ظل هذه الأزمات، وآخرها الرغيف، أن يغرق في فوضى اجتماعية قد تقود إلى حرب أهلية أو ربما تكون أعنف وأصعب منها.