3 أعوام هي عمر لجان المقاومة السودانية بشكلها الحالي، وأكثر من الـ 3 أعوام هو عمرها منذ أن تشكّلت نواتها الأولى بُعيد هبّة سبتمبر/ أيلول 2013 في السودان، والتي جابهتها الأجهزة الأمنية وقتها بعنف مفرط، خلّف خلال أقل من أسبوعَين أكثر من 200 قتيل، ما دفع بقوى وكيانات سياسية وجهات مستقلّة وقتها للدعوة إلى تشكيل أجسام شعبية، تتصدى لتنظيم التظاهرات في أحياء المدن بهدف إفشال آلة القمع الأمني وإسقاط النظام حينها.
ولعبت لجان المقاومة لاحقًا دورًا محوريًّا في ثورة ديسمبر/ كانون الأول 2018، حيث تولّى أفرادها مسؤولية تنظيم الاحتجاجات في الأحياء السكنية، مستفيدين من طبيعتها التنظيمية التي تجمع بين أفراد يتشاركون المناطق السكنية، فنجحت في تنظيم احتجاجات شعبية تمتاز بوجود علاقات وأواصر سكنية بين المشاركين فيها، لتتحوّل العاصمة إلى بؤر احتجاجات شعبية سكنية، أرهقت النظام منذ ديسمبر/ كانون الأول 2018 وحتى 6 أبريل/ نسيان 2019، تاريخ تحرُّك كل المواكب تجاه القيادة العامة للجيش وتنظيم الاعتصام الذي أطاح بحكم البشير.
ورغم ضمّ عدد من لجان المقاومة لأفراد منظّمين سياسيًّا داخلها، إلا أن الحقيقة أن غالبية أعضاء لجان المقاومة هم من الشباب غير المنظَّمين سياسيًّا، كما تتمتّع اللجان بمتوسّط أعمار صغير نسبيًّا من الذين نشأوا ومارسوا العمل السياسي والاحتجاجي المنظَّم في الأعوام الأخيرة.
طبيعة تنظيمية غير قابلة للترويض أو الاختراق
أحد أهم أسباب قوة لجان المقاومة، بما يجعلها بعبعًا مخيفًا بالنسبة إلى كل الأطراف، هو طبيعتها التنظيمية اللامركزية، فلجان المقاومة عبارة عن أجسام شبكية لا مركزية، تتوزّع في كل مدن وأحياء السودان، ففي العاصمة الخرطوم وحدها توجد العديد من تنسيقيات لجان المقاومة المختلفة، والموزَّعة حسب التقسيم المناطقي والإداري في الخرطوم، وفي كل منطقة توجد العشرات أيضًا من لجان المقاومة المستقلة.
خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، شهدت لجان المقاومة تغيُّرات بنيوية في طبيعة عملها وأدائها
وتتمتّع كل لجنة مقاومة بقيادة محلية معنية باتخاذ القرارات وتقدير الأوضاع وفقًا لرؤية لجنة المقاومة، مع العمل مع لجان المقاومة المجاورة والمتشاركة في القضايا ذاتها عبر قنوات تواصل عُرفت بـ”التنسيقيات”، التي من مهامها التنسيق فقط، في حين يظل القرار يخصّ كل لجنة مقاومة لوحدها.
هذا الشكل الشبكي واللامركزي، والذي يضمن عدم وجود مركز موحَّد لصناعة القرار، جعل من غير المجدي لأي جهة العمل على اختراق لجان المقاومة، فإن حدث وتمَّ ذلك لواحدة من لجان المقاومة في أحد الأحياء أو المدن، فهناك عشرات اللجان التي تتّخذ مواقفها وقراراتها بشكل مستقل، دون التأثر بأي تدخُّل خارجي في أي لجنة مقاومة أخرى.
تغيُّرات بنيوية في طبيعة لجان المقاومة السودانية
خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، شهدت لجان المقاومة تغيُّرات بنيوية في طبيعة عملها وأدائها، فقد انتقلت اللجان من كونها أداة مجابهة تنحصر مهامّها في مقاومة الأنظمة، إلى فاعل سياسي رئيسي في المشهد، لتغادر خانة المقاومة إلى خانة الفعل والتأثير، كما لعبت دورًا شبيهًا بأدوار جماعات الضغط عقب تشكيل الحكومة الانتقالية بين المدنيين والعسكريين في أغسطس/ آب 2018، حيث باتت هي الرقيب على الأداء الحكومي ومسار الانتقال وتحقيق العدالة.
وفي الأشهر الأولى من تشكيل الحكومة، وبطريقة أحدثت نقلة في طبيعة اللجان، أُسندت بعض المهام الخدمية والإدارية إلى لجان المقاومة، عندما تمَّ تشكيل ما عُرف وقتذاك بـ”لجان الخدمات والتغيير”، والتي كان معظم أفرادها أفرادًا نشطين في لجان المقاومة في أحيائهم السكنية.
شُكّلت لجان الخدمات والتغيير لتقوم بملء الفراغ الذي خلّفه حلّ اللجان الشعبية، وهي اللجان التي كان يعتمد عليها نظام البشير لسنوات طويلة في إدارة الشؤون المحلية في الأحياء السكنية.
وبشكل تلقائي تولّت لجان الخدمات والتغيير الكثير من العبء في تنظيم وتسيير الحياة اليومية والخدمية في الأحياء السكنية لقرابة عامَين، حيث عملت على استصدار شهادات السكن، وتنظيم توزيع خدمات الغاز والخبز التي كانت تشهد شحًّا في ذلك الوقت، وغيرها من الخدمات الأساسية، بالتعاون والترتيب مع الجهات الرسمية الحكومية.
العودة إلى المسار السياسي
عادت لجان المقاومة مرة أخرى إلى الإسهام في المشهد السياسي عقب انقلاب البرهان في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، حيث مثّلت اللجان القوة الفعلية التي حرّكت الشارع طوال 8 أشهر بشكل مستمرّ، ومثّلت خط الدفاع الأول ضد الانقلاب، كما قدّمت العديد من أعضائها شهداء سقطوا أثناء التظاهرات التي جابهت الانقلاب منذ الساعات الأولى من إعلانه.
وفي الأثناء بدأت عدد من لجان المقاومة في الانخراط في وضع مواثيق سياسية حول آليات إسقاط الانقلاب، وطبيعة القوى السياسية التي ستشكّل حكومة ما بعد الانقلاب.
لعبت لجان المقاومة دورًا إسناديًا قويًا للقوى السياسية مضادًا لشريكها العسكري، لترجّح كفة القوى السياسية المدنية
وأصدرت 3 من لجان المقاومة في ولايات السودان، من ضمنها لجان المقاومة في العاصمة الخرطوم، 3 مواثيق سياسية، تتناول بالتفصيل سبل وآليات إسقاط الانقلاب، حيث دعت اللجان القوى السياسية والأجسام الثورية للتوقيع على المواثيق -التي يجري العمل على توحيدها في ميثاق واحد- باعتبارها الخارطة الرسمية لإنهاء الانقلاب.
وتبيّنَ الثقل السياسي للجان في الدعوات والمحاولات المتكررة التي انخرطت فيها الآلية الثلاثية (الإيقاد والأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي)، لإقناع لجان المقاومة في الانخراط في الحوار الذي كانت تيسّره بين العسكريين والمكونات السياسية السودانية، إلا أن اللجان تمسّكت بموقفها الرافض للمشاركة في الحوار، والمنادي بإنهاء الانقلاب ومحاسبة المتورّطين في قتل المتظاهرين، رافعة شعارها الشهير “اللاءات الثلاث” (لا تفاوض – لا شراكة – لا شرعية).
العلاقة مع القوى السياسية.. من الدعم إلى المزاحمة
ظلّت العلاقة بين لجان المقاومة والقوى السياسية المدنية علاقة تحالفية على طول الأعوام الأخيرة، رغم بعض “الغَضْبَات” التي تصدر أحيانًا من لجان المقاومة تجاه القوى السياسية المدنية، إلا أن تلك “الغَضْبَات” لم ترتقِ إلى خلق شرخ في العلاقة مع القوى السياسية، إلا مؤخرًا.
وطوال الأعوام الأخيرة، لا يمكننا الجزم بالتقاء مطابق لصوتَي لجان المقاومة والقوى السياسية، فدائمًا ما كانت مطالب لجان المقاومة أعلى بكثير من طموحات القوى السياسية، ودائمًا ما جاءت اتفاقات القوى السياسية دون طموح لجان المقاومة، ورغم ذلك لا يمكن تجاهل أن اللجان، بصورة أكيدة، ظلّت المُدافع عن القوى السياسية في العديد من الأزمات.
فمنذ تشكيل الحكومة في أغسطس/ آب 2019، لم توقف لجان المقاومة مواكبها الاحتجاجية، حتى إبّان الفترات التي شهدت استقرارًا نسبيًّا، فلم يكن منها إلا أن تنتهز كل سانحة لتسيّر موكبًا احتجاجيًّا، لتذكّر القوى السياسية التي كانت ممثلة في الحكم بضرورة استكمال مطالب الثورة.
وأثناء ذلك أيضًا، ومع احتداد نبرة لجان المقاومة تجاه القوى السياسية، لعبت دورًا إسناديًّا قويًّا للقوى السياسية مضادًّا لشريكها العسكري، لترجّح كفّة القوى السياسية المدنية، فدائمًا ما كانت لجان المقاومة تتصدى للممارسات الخارقة للشراكة من قبل العسكريين، عبر تنظيمها للاحتجاج الدائم في كل المواقف التي تتطلب ذلك.
لكن مع الزخم المتوالي الذي اكتسبته لجان المقاومة، والذي ساهمت في صنعه القوى السياسية نفسها، يبدو أن سقف الطموح السياسي للجان المقاومة تعدّى طموح القوى السياسية، التي اتّسم طموحها بما يمكن وصفه بـ”المتوسط”، بينما أضحى طموح لجان المقاومة أعلى بكثير ممّا تفرضه الشروط السياسية وتوازنات القوى على أرض الواقع، والتي تخضع لها القوى السياسية بطبيعة عملها.
بذرة القطيعة مع القوى السياسية التي تحملها لجان المقاومة داخلها قد بدأت في النمو
واتّضح الموقف المتقدِّم للجان المقاومة في أحجام تيار التسوية السياسية داخل القوى السياسية المدنية، فتمسُّك لجان المقاومة بشعار اللاءات الثلاث دفعَ العديد من القوى السياسية إلى رفض مشاريع التسوية السياسية، أو على الأقل إخفاء الترحيب بها، نزولًا عند صوت الشارع الذي تسيطر عليه بصورة كاملة لجان المقاومة، والتي لطالما رفضت أي بوادر تسوية سياسية.
ومساء الاثنين الماضي، أصدرت لجان مقاومة الديوم الشرقية بيانًا بخصوص الموكب الذي دعت إليه الحرية والتغيير لتسييره في اليوم التالي، تحت مسمّى السودان الوطن الواحد، وقالت لجان مقاومة الديوم إنها “لن تسير خلف قوى الحرية والتغيير في أي من دعواتها”.
كما أضافت أنها لن تسمح بتنصيب منصّة خاصة بقوى الحرية والتغيير في منطقة باشدار بالخرطوم، والتي تقع داخل دائرة اختصاص نشاطها، والتي قالت إنه من غير المسموح مخاطبة الجماهير من خلالها إلا عبر لجان مقاومة الديوم الشرقية.
وعلّلت لجان المقاومة موقفها بسبب ضعف قوى الحرية والتغيير الذي حملته مسؤولية إسالة الدماء ووقوع الانتهاكات، مشيرة إلى أن الحرية والتغيير تسعى للوصول إلى تسوية تضمن لها تقاسُم السلطة، كما أشارت اللجان في بيانها إلى المشاكسات والصراعات بين القوى السياسية، ما قالت إنها تنأى بنفسها عن المشاركة فيها.
وسريعًا تفاعلَ المتابعون والمراقبون مندّدين بالبيان الذي اعتبروه مخالفًا لروح الثورة التي تَعلِي من شعارات حرية التعبير والتنظيم، محمّلين لجنة مقاومة الديوم الشرقية مسؤولية البيان ومطالبين بسحب أو الاعتذار عن البيان.
صبيحة اليوم التالي، سيّرت مجموعة من المحتجّين، على رأسهم قيادات من الحرية والتغيير، المواكب انطلاقًا من محطة باشدار بحي الديم، وما هي إلا دقائق من وصول المحتجّين إلى منطقة التجمع الشهيرة وسط الخرطوم، حتى قامت مجموعة من الأفراد بزيّ مدني، معظمهم من صغار السن، بمهاجمة الموكب باستخدام الحجارة وبعض عبوات الغاز المسيل للدموع -أضحى تملُّكه من قبل مدنيين أمرًا شائعًا في الخرطوم جرّاء الاشتباكات مع المواكب، وحصول بعض المحتجّين على بعض عتاد ومعدّات الشرطة التي تخلّفها أثناء وبعد الاشتباك-، ما دفع المحتجّين للانسحاب بعد ساعات من انطلاق الموكب.
كان من الواضح أن المجموعة التي هاجمت الموكب هي مجموعة مدسوسة من الأجهزة الأمنية، بغرض إذكاء الصراع بين القوى السياسية ولجان المقاومة، وهو ما أكّدته لجنة مقاومة الديوم خلال اليوم نفسه، إذ أصدرت بيانًا قالت فيه إنها بريئة من مهاجمة الموكب.
الحدث الأخير، ورغم الأيادي المدسوسة فيه، إلا أنه أظهر أن بذرة القطيعة مع القوى السياسية قد بدأت في النمو، خصوصًا أن البيان الذي أصدرته اللجان مقاومة الديوم عقب الحدث أكّد – رغم ما حمله من إدانة – على أن دعوتهم كانت فقط لعدم المشاركة في الموكب الذي دعت إليه الحرية والتغيير، ما يعدّ تطورًا خطيرًا في العلاقة بين القوى السياسية ولجان المقاومة التي لطالما مثّلت الحاضنة الشعبية للقوى السياسية.