ترجمة حفصة جودة
من الصعب أن نجد توضيحًا قاسيًا لفشل القادة السياسيين في ليبيا أكثر من ترهونة، تلك المدينة التي تقع بين ساحل البحر الأبيض المتوسط والصحراء، حيث قام 7 أشقاء من عائلة الكاني ورجالهم المسلحون باحتجاز وتعذيب وقتل مئات السكان في عهد الرعب الذي امتد إلى خمس سنوات.
والآن بعد عامين من انكسار قبضتهم، ما زالت ترهونة تبحث عن الجثث، فالبساتين التي كانت تنتج زيت الزيتون الشهير أصبحت الآن مقابر جماعية خفية، فقدت بعض العائلات أكثر من 6 أفراد ولا تعرف مصيرهم، بينما قال آخرون إنهم علموا بمصير أقاربهم من السجناء السابقين أو شهود العيان، فقد أُلقي بعم أحدهم لأسود الأشقاء كاني، بينما دُفن ابن العم حيًا.
ما زالت الملابس مبعثرة على الأرض خارج السجن المتنقل في أشعة الشمس الحارقة حيث كانت مليشيا الأشقاء تحتجز المساجين في خزانات أشبه بالفرن التي لا يستطيع الرجل الوقوف فيها إلا منحنيًا.
تقول كلثوم الحبشي، مديرة مدرسة التمريض المتقاعدة: “لن نتجاوز الأمر إلا عندما نحقق العدالة ويدفعون ثمن جرائمهم، وحتى ذلك الحين لن يكون هناك أي تصالح، عندما تطلب مني أن أحقق السلام، فكيف أحققه مع من تلوثت يديه بالدماء؟ كيف أصافحه؟”.
بعد عام من الاستقرار الهش، تتجه ليبيا مرة أخرى نحو الفوضى التي دمرتها بعد أن أطاح الثوار في ثورة الربيع العربي 2011 بالجنرال الديكتاتور معمر القذافي الذي حكم البلاد 40 عامًا، تركت الثورة البلاد منقسمة نصفين: غربًا وشرقًا، تقسمها حكومتان متنافستان وعشرات الميليشيات المتنافسة التي تعمل خارج القانون.
في العام الماضي قدمت فترة السلام النسبي بعض الأمل، فالانتخابات التي انعقدت في ديسمبر/كانون الأول كان المفترض أن ينتج عنها حكومة توحد مؤسسات ليبيا المنقسمة منذ فترة طويلة وتنفذ الدستور وتنزع سلاح الميليشيات وتطرد المقاتلين الأجانب، لكن عدم الاتفاق بشأن أهلية المرشحين أفسد التصويت، ودفع بالبلاد ثانية نحو مرحلة جديدة من المجهول.
بعد أكثر من 7 أشهر، أصبحت ليبيا منقسمة مرة أخرى بين القادة المتنافسين الذين لا يعمل أي منهم نحو إجراء الانتخابات، وصراعهم على الصدارة والسيطرة على ثروة ليبيا النفطية أشعل اشتباكات مميتة في العاصمة طرابلس وشوه الحياة اليومية وقلل إنتاج النفط الذي يمثل شريان حياة اقتصاد البلاد.
هذه الفوضى أبعدت العدالة عن ترهونة، فالقادة من كلا الجانبين المنقسمين متورطون في صعود عائلة الكاني، يقول حمزة القانوني – 39 عامًا – الذي قتلت عائلة الكاني عمه واحتُجز ابن عمه في سجونهم 3 أشهر: “كل من في المشهد يبحث فقط عن مصالحه، إنهم لا يرون ليبيا”.
خلّف الأشقاء وراءهم قبورًا تضم مئات الجثث وفقًا للجنة الأمم المتحدة التي اكتشفت مؤخرًا عدة مواقع دفن في ترهونة، قال المحققون الليبيون إنهم وجدوا ما يقرب من 250 جثة وتعرفوا على 60% منهم.
لكن 470 عائلة أبلغت عن أقارب مفقودين، لذا فالمحصلة غالبًا أكبر بكثير وفقًا لكمال أبو بكر خبير الحمض النووي الذي يشرف على جهود البحث والتعرف على الجثث.
تقول الحبشي إن ابنها الأكبر اختُطف عام 2011 لدعمه الثورة ضد القذافي واختفى شقيقها بعد الثورة بينما اختطفت عائلة الكاني ابنها الثاني، لم تظهر جثثهم بعد، وتأمل الحبشي أن يتضح وجودهم أحياء في أحد السجون البعيدة.
بدأت جرائم الكاني في أثناء الثورة، حيث استغلوا الفوضى لتصفية الحسابات ضد خصومهم وترسيخ وجودهم في ترهونة التي يسكنها 70 ألف نسمة، وقد صنعوا قوتهم وثروتهم من التهريب والابتزاز وفقًا لما يقوله السكان.
بحلول عام 2016، تحالفوا مع الحكومة المدعومة دوليًا في طرابلس التي دفعت لهم لإدارة الأمن، بعد 3 سنوات اندلعت حرب أهلية جديدة عندما شن قائد شرق ليبيا خليفة حفتر هجومًا على طرابلس.
انقلبت عائلة الكاني إلى معسكر حفتر، لكن القتل كان مستمرًا بغض النظر عن المعسكر الذي انضموا إليه، وعندما تمكنت قوات الحكومة الليبية من هزيمة حفترة بدعم تركي عام 2020، طردوا عائلة الكاني من ترهونة، والآن تريد المدينة تحقيق العدالة.
لكن الحكومة الليبية عاجزة، بعد انقطاع التمويل، توقفت جهود اكتشاف والتعرف على قتلى ترهونة، لم تنقسم البلاد لأسباب دينية أو إيدولوجية، لكن مجموعة من العقبات أعاقت التقدم: منها تدخل القوى الأجنبية مثل روسيا والإمارات وتركيا ومصر التي ترغب في الفوز بليبيا لموقعها الإستراتيجي واحتياطي النفط، كذلك الحاجة إلى الإصلاح بين الشرق والغرب بعد القتال الأخير، وعدم اهتمام القادة السياسيين بحل الأزمة ما لم تعد عليهم بفائدة.
يقول وولفرام لاشر، خبير الشؤون الليبية في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية: “الآن، لا يوجد طريق واضح إلا استمرار الأزمة وانعدام الاستقرار، كل شيء يخضع للانتهازية التامة والأمور تتعلق فقط بتقسيم المراكز والأموال”.
ومع فشل مفاوضات القاهرة وجنيف بوساطة الأمم المتحدة مبكرًا هذا العام، في تحقيق أي تقدم، أصبح لليبيا رئيسا وزراء متنافسان، عبد الحميد الدبيبة في الغرب وفتحي باشاغا الذي اختاره حفتر في الشرق.
يحتقر السكان في غرب ليبيا حفتر بشكل كبير لهجومه على طربلس، واتهموه بتفجير أحياء سكنية وتعذيب وقتل المدنيين.
أصدر قاضي فيدرالي في أمريكا حكمًا افتراضيًا ضد حفتر يوم الجمعة بعد أن تخلف مرارًا وتكرارًا عن الإدلاء بشهادته في الدعوى التي رفعها المدعون الليبيون يتهمونه فيها بجرائم حرب، لكن الكثير من الليبيين يرفضون القادة الشرقيين والغربيين.
يقول أنور صوان – قائد محلي من مدينة مصراته وقاتل في ثورة 2011 -: “لا نريد كل من جاءوا من قبل، نريد وجوهًا جديدةً، أشخاصًا يريدون خدمة الشعب فقط”.
بعد عام من اعتياد الكثير من سكان طرابلس الأمن والطرق الجيدة المضاءة، أصبحت الخدمات الأساسية لا تعمل بشكل جيد مرة أخرى.
تظاهر مئات الناس مؤخرًا ضد الأوضاع السيئة وأشعلوا النار في جزء من مقرات البرلمان الغربي اشمئزازًا من انقطاع الكهرباء الذي يستمر لنحو 18 ساعة في اليوم، والسياسيين الذين لا يهتمون إلا بأنفسهم.
تقول حليمة أحمد، محاضرة القانون بجامعة سبها في الصحراء الجنوبية بليبيا: “مطالب الناس صغيرة جدًا، لا يريدون إلا الأساسيات: لا مزيد من انقطاع الكهرباء وإتاحة الطعام، كان حلمنا في أثناء الثورة أن نكون مثل دبي، والآن لا نريد إلا الاستقرار”.
بعد سقوط عائلة الكاني في ترهونة، فرّ أكثر من 16 ألف شخص من بينهم أنصار الكاني والمقاتلون والأشقاء كاني الـ5 الذين نجوا من القتال الذي اشتعل بعد الهجوم على طرابلس، والآن، يريد بعضهم العودة.
مع غياب مساعدة القادة الوطنييين، تقدمت مجموعة عرفية من شيوخ القبائل عبر البلاد للمساعدة في إعادة توطين المنفيين، فهو جزء من عملهم المستمر في التوسط لحل النزاعات والاشتباكات القبلية بشأن حدود الملكية التي تنتشر لتصل إلى الخطف والقتل والمشاحنات الشخصية التي تطلق دائرة القتل.
يسمع شيوخ القبائل الذين لا تربطهم صلة بالطرفين إلى كلا الجانبين، ويحددون المسؤولية ويتوسطون للاتفاق الذي قد يتضمن تعويضًا واعتذارات رسمية وتعهدًا بعد التراجع عن الاتفاق.
الأمر ليس ملزمًا قانونيًا، لكن هذه التسويات تُحترم عادة احترامًا للوسطاء، يقول الوسطاء إن هؤلاء الذين يخلفون وعودهم يُستبعدون من الميثاق الشرفي الذي يحكم غالبية المجتمع الليبي، وفي المرة القادمة التي يتورطون فيها في نزاع ما، لن يتوسط لهم أحد.
لا يرى ضحايا ترهونة أن المصالحات بديل عن نظام عدالة فعال، فقد قال بعضهم إنهم حاولوا مرارًا وتكرارًا الوصول إلى الشرطة لأنهم لا يريدون اللجوء إلى القتل الانتقامي، لكن المسؤولين لم يفعلوا أي شيء.
في تلك البلاد التي لا يستجيب فيها أصحاب السلطة والمال والسلاح لأحد، فليس أمام الناس إلا الوسطاء، يقول علي العجوري – 68 عامًا – ممثل قبلي عمل في مصالحة ترهونة: “لا نملك القانون، الشيء الوحيد الذي يمكن أن نقدمه هو كلمة الشرف، لا توجد دولة لكن الناس يريدون العدالة”.
المصدر: نيويورك تايمز