يشهد الاقتصاد العالمي تغييرات كبيرة خلال العقود المنصرمة، بدءًا من سلاسل الإنتاج وليس انتهاءً بتفضيلات المستهلكين، وكاستجابة للعولمة شهد السوق تغييرًا في سلوك شرائح بعض المستهلكين، خاصة في الطبقة الوسطى، حيث انخرط قسم منهم في موجة العولمة، وسلك طرفٌ آخر سلوكًا معاكسًا بالتمسُّك أكثر بتفضيلاته.
وكحال غيرهم، كان للسكّان المسلمين تأثير على هذه السلوكيات، سواء في بلدانهم الأصلية أو البلدان التي هاجروا إليها خلال العقد الأخير، بعد ظهور ثورات الربيع العربي.
أدّت هذه الهجرات إلى تحولات اجتماعية وتغييرات ديموغرافية وفكرية، انعكست على الاقتصاد الدولي المتأثر بالعولمة، على سبيل المثال كان عدد السكّان المسلمين في أوروبا يشكّل 25 مليون مواطن عام 2016، ومن المتوقع أن يصل إلى حوالي 33.5 مليون بحلول عام 2050.
تسبّب ذلك، من الناحية الاقتصادية، في زيادة على طلب المنتجات الحلال عالية الجودة داخل أوروبا، ثم تطورت هذه التجارة بفعل إمكانية الربح فيها لتشمل الشريحة الاستهلاكية الأكبر في العالم الإسلامي.. فما هو الاقتصاد الحلال، وما أسباب توسّعه الكبير؟
ما هو الاقتصاد الحلال؟
تشمل المنتجات الحلال العالمية شريحة تضمّ 1.8 مليار مسلم، وتتنوّع في منتجات كثيرة منها المواد الغذائية والمنتجات المرتبطة بها.
توسّعت المنتجات الحلال الآن إلى ما هو أبعد من قطاع الأغذية، لتشمل التمويل الإسلامي، والأطعمة والمشروبات الحلال، والاقتصاد الإسلامي الرقمي، والأزياء والفنون المحتشمة، والسفر والسياحة الحلال، والرعاية الصحية والرفاهية، والمعايير والشهادات الإسلامية، والمعرفة الإسلامية، ومستحضرات التجميل الحلال، حيث يغطي هذا جميع قطاعات النظام البيئي العالمي الحلال.
على مستوى المستهلكين، لا يبحث المسلمون عن المنتجات المتوافقة مع الشريعة الإسلامية فحسب، بل عمّا يتماشى مع الحياة العصرية أيضًا، خاصة أن شريحة واسعة من المستهلكين تملك إمكانية إنفاق كبيرة، كما هو حاصل في دول الخليج وكثير من الدول النفطية التي يحظى سكانها بنِسَب إنفاق استهلاكية مرتفعة.
ساعد النمو الاقتصادي للدول ذات الأغلبية المسلمة واتّساع حجم التبادل التجاري العالمي وسهولة نقل البضائع وتطور التجارة الرقمية، على توسيع قاعدة الاقتصاد الحلال عالميًّا
لا توجد إحصاءات رسمية لمساحة الاقتصاد الحلال وحجم إنتاج المواد الداخلة فيه حول العالم، لكن تقديرات حكومية وصحفية تشير إلى بلوغه 7 تريليونات دولار، كما قال نائب الرئيس التركي، فؤاد أوكتاي، خلال القمة العالمية السابعة للمنتجات الحلال التي عُقدت في إسطنبول عام 2021، وبحسب رئيس مجلس القمة العالمية للمنتجات الحلال، يونس إيتي، فإن التوقعات حول نموّ حصص القطاعات من الاقتصاد الحلال ستكون كالآتي:
– التمويل الإسلامي سيتجاوز 3.5 تريليونات دولار.
– الأغذية والمشروبات ستتجاوز تريليونَي دولار.
– السياحة الحلال ستتجاوز 400 مليار دولار.
– مستحضرات التجميل ستتجاوز 200 مليار دولار.
– ملابس المحجّبات ستتجاوز 240 مليار دولار.
ساعدَ النمو الاقتصادي للدول ذات الأغلبية المسلمة واتّساع حجم التبادل التجاري العالمي وسهولة نقل البضائع وتطور التجارة الرقمية، على توسيع قاعدة الاقتصاد الحلال عالميًّا.
يمثّل الاقتصاد الإسلامي أهم مكونات الاقتصاد الحلال، حيث عام 2018 وصل حجم الاقتصاد الإسلامي حوالي 2.2 تريليون دولار، يمثّل الحلال منه حوالي 1.3 تريليون دولار.
في أوروبا، يمثّل الاقتصاد الصديق للمسلمين ما بين 50 و100 مليار يورو، ويظهرُ نموًّا واضحًا وثابتًا في قطاعات مثل الأزياء أو فنّ الطهو أو المأكولات والمشروبات أو الترفيه، ومن المتوقع أن يتمَّ تلبية هذا الطلب المتزايد من خلال المنتجات المتطورة التي تمَّ تطويرها في أوروبا نفسها ودول الجوار مثل تركيا، والتي يمكن أن تضمن الإمدادات وجودة المنتجات.
التمويل الإسلامي
يشير مصطلح “التمويل الإسلامي” إلى تقديم الخدمات المالية طبقًا للشريعة الإسلامية ومبادئها وقواعدها، حيث تحرِّم الشريعة تقاضي وتقديم الربا (الفائدة)، والغرر (الجهل بالمنتج)، والميسر (القمار)، وعمليات البيع على المكشوف أو أنشطة التمويل التي تعتبرها ضارّة بالمجتمع.
وبدلًا من ذلك، يتعيّن على الأطراف المعنية اقتسام المخاطر والمنافع المترتّبة على المعاملات التجارية، كما ينبغي أن يكون للمعاملة غرض اقتصادي حقيقي دون مضاربة لا داعي لها، وألّا تنطوي على أي استغلال لأي من الطرفَين.
الحاصل مع الشريحة الإسلامية هنا، أن السوق كان عليه أن يضطر التماشي مع تفضيلات هذه الشريحة، مدفوعًا بعامل الربح وتجنُّب الخسارة
يشمل التمويل الإسلامي حاليًّا أنشطة الصيرفة، والتأجير، وأسواق الصكوك (السندات) والأسهم، وصناديق الاستثمار، والتأمين (التكافل) والتمويل متناهي الصغر، لكن أصول الصيرفة والصكوك تمثّل حوالي 95% من مجموع أصول التمويل الإسلامي.
نمَت أصول التمويل الإسلامي في العقد الماضي بمعدلات عالية، حيث انتقلت من نحو 200 مليار دولار عام 2003 إلى ما يقدَّر بنحو 1.8 تريليون دولار في نهاية عام 2013، ورغم هذا الفارق المتزايد لا تزال أصول التمويل الإسلامي مركَّزة في دول مجلس التعاون الخليجي وإيران وماليزيا، وتمثّل أقل من 1% من الأصول المالية العالمية.
على سبيل المثال، تفوّق أداء الصيرفة الإسلامية على الصيرفة التقليدية على مدار العقد الماضي، حيث تجاوز معدل نفاذها إلى الأسواق الـ 15% في 12 بلدًا من بلدان الشرق الأوسط وآسيا، وعلى مدار الفترة نفسها زادَ إصدار الصكوك 20 ضعفًا لتصل قيمته إلى 120 مليار دولار عام 2013، وتواصل قاعدة المصدّرين التوسُّع مع إصدارات جديدة في أفريقيا وشرق آسيا وأوروبا.
الليبرالية والاقتصاد الحلال
ما يجذب الانتباه هنا الطريقة التي شكّلت بها التفضيلات الإسلامية نوع العلاقة الاقتصادية، حيث من المعلوم أن الليبرالية تميل أكثر نحو السوق المفتوح وإزالة الحواجز أمام المنتجات العالمية وليس العكس.
من الناحية الاقتصادية، كان يجب على الأسواق الإسلامية والمجتمعات هناك الاستجابة للعولمة بإزالة الحواجز الدينية والاجتماعية، والانخراط ضمن ما أصبح عالمًا واحدًا يشارك نمطًا استهلاكيًّا واحدًا (موضة ملابس أو عدّة موضات)، ويأكل طعامًا واحدًا (الوجبات السريعة)، ويتشارك ثقافة واحدة (كما في منصات التواصل الاجتماعي).. إلخ.
لم تكن مسيرة المنتجات الحلال سالكة في كل الحالات، حيث في دول مثل الهند تمثّل المنتجات الحلال جزءًا من صراع الهوية بين الهندوس والمسلمين
لكن الحاصل مع الشريحة الإسلامية هنا، أن السوق كان عليه أن يضطر التماشي مع تفضيلات هذه الشريحة، مدفوعًا بعامل الربح وتجنُّب الخسارة، فاستجابة المجتمعات المسلمة للعولمة في هذا الجانب كانت التحفُّظ وليس الذوبان، وهنا كان عامل الربح مدفع سلاسل الإنتاج للاستجابة إلى المنتجات الحلال والانخراط فيها.
ويتّضح هذا في أن كثيرًا من مصادر المنتجات الحلال دول غربية غير مسلمة مثل ألمانيا وأمريكا وكندا وإسبانيا وبريطانيا، إضافة إلى تفضيل عدد لا بأس به من غير المسلمين للمنتجات الحلال، كونها منتجات تتطلب معايير عالية في النظافة والصحة والإنتاج.
تحمل المنتجات الحلال طابعًا ثقافيًّا آخر، فهي تمثّل وجود المسلمين وجزءًا من ثقافتهم، ولا شكّ أن الأطعمة والمنتجات الحلال تمثل عاملًا مهمًّا في تبادُل الثقافات والتعريف بها، كما تشكّل هوية المسلمين وصورتهم عبر العالم، كما كانت عاملًا رئيسيًّا في رسم صورة إيجابية عن هذه المجتمعات سواء داخل العالم الإسلامي أو خارجه.
بالطبع، لم تكن مسيرة المنتجات الحلال سالمة في كل الحالات، حيث في دول مثل الهند تمثّل المنتجات الحلال جزءًا من صراع الهوية بين الهندوس والمسلمين، وبالتالي يمثل الحصول على ترخيص لهذه المنتجات تحديًا كبيرًا للمسلمين هناك.
بمطلق الأحوال، يبشّر هذا القطاع بتوسّع كبير في المستقبل، خاصة مع قيام الكثير من المستهلكين بشراء هذه المنتجات، وهو ما يدفع إلى استثمارات أكبر في الجهات الصناعية.