أعلن الرئيس الأمريكي جو بايدن، مقتل زعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، في غارة أمريكية بطائرة مسيرة بأفغانستان، السبت 30 يوليو/تموز الماضي، لافتًا في كلمة له بالبيت الأبيض مساء الإثنين 1 أغسطس/آب الحاليّ أن أجهزة المخابرات نجحت في تنفيذ مهمتها بعد تحديدها مكان الظواهري في وقت سابق هذا العام.
وتشير وسائل الإعلام إلى أن العملية وقعت في الحي الدبلوماسي بمنطقة شيربور التابعة لمدينة “وزير اكبر خان” بالقرب من السفارة الأمريكية في العاصمة كابول، وأنها استهدفت شرفة المنزل الذي كان يقيم فيه زعيم القاعدة دون أي إصابات تذكر في صفوف عائلته، فيما نقل مراسل “الجزيرة” أن الغارة قتلت شخصًا وأصابت آخر.
وكشفت صحيفة “نيويورك تايمز” أن المنزل المستهدف الذي كان يقيم فيه الظواهري كان مملوكًا لأحد كبار مساعدي وزير الداخلية الأفغاني، سراج الدين حقاني (عضو مجلس شورى حركة طالبان وعلى رأس قائمة المطلوبين لمكتب التحقيقات الفيدرالي)، وأن الطائرة المسيرة المستخدمة في الغارة تابعة لجهاز (CIA) الاستخباراتي الأمريكي وليس وزارة الدفاع (البنتاغون).
تأتي تلك العملية في وقت يعاني فيه بايدن من أزمة ثقة لدى الشارع الأمريكي إثر فشله في التعاطي مع الملفات الحيوية وعلى رأسها الملف الاقتصادي، ما تسبب في تراجع شعبيته بصورة لم يشهدها أي رئيس أمريكي سابق، ما يتوقع أن يستغل الرئيس تلك الفرصة لتحسين وضعيته واستعادة جزء من شعبيته المنقوصة، وهي الإستراتيجية الناجحة التي طالما اتبعها رؤساء الولايات المتحدة خلال السنوات الأخيرة لترميم صورتهم المشوهة على أشلاء جثث قادة التنظيمات المسلحة والمتطرفة.
تفاصيل العملية
حسبما نقلت وكالة “رويترز” عن مسؤول كبير في إدارة بايدن، فإن الظواهري كان مختبئًا بعيدًا عن أعين الأجهزة الاستخباراتية منذ سنوات، فيما كانت تترد شائعات عن وجوده في منطقة قبلية في باكستان أو بالقرب من الحدود الأفغانية، منوهًا أن المخابرات الأمريكية وضعت خطة طويلة المدى لإسقاطه.
منذ سنوات تنامى إلى مسامع الأجهزة الأمنية الأمريكية – بحسب المسؤول الذي رفض ذكر اسمه – أخبارًا تشير إلى وجود شبكة ما تدعم الظواهري وتوفر له الغطاء والحماية، الأمر تكشف أكثر بعد انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان وتسليم البلاد لحركة طالبان، فقد اتضح أن زوجة الظواهري وابنته وأطفاله انتقلوا إلى منزل آمن في العاصمة كابل، دون أن يحددوا ما إذا كان هو معهم أم لا.
وبعد مرور عدة أشهر، وتحديدًا في أبريل/نيسان الماضي استقر في يقين المخابرات أن الظواهري يقيم بالفعل في ذلك المنزل الذي انتقلت عائلته له، حيث تم رصده أكثر من مرة واقفًا في شرفته، ومن هنا تم وضع خطة لاستهدافه بأقل الخسائر الممكنة وفي سرية تامة، حتى بعيدًا عن التنسيق مع طالبان التي تحكم أفغانستان حاليًّا.
وبعد جمع تلك المعلومات عقد بايدن اجتماعات عدة مع بعض مستشاريه وكبار مسؤوليه على رأسهم مدير وكالة المخابرات المركزية “سي آي إيه” وليام بيرنز، وتناقشوا في تفاصيل العملية المزمع القيام بها لاغتيال الظواهري، وذلك عبر منزل مجسم لمنزله الذي يقيم فيه بما يوفر الضمانات الخاصة بعدم تعرض أي من أفراد أسرته للخطر على حد قول المسؤول.
وتجنبًا لأي انتقادات مستقبلية بخرق القانون الدولي، سعى بايدن وجهاز مخابراته لتوفير الغطاء القانوني لتلك العملية، وذلك بعد استشارته لكبار المحامين المتخصصين في مثل تلك الوقائع، وبعد أن اطمأن لهذا الشق أعطى الرئيس أوامره في 25 يوليو/تموز المنقضي بتنفيذ ضربة جوية دقيقة تقلل قدر الإمكان من وقوع إصابات في صفوف المدنيين.
وفي تمام الساعة 9:48 مساءً بتوقيت شرق الولايات المتحدة (01.48 بتوقيت غرينتش) من يوم 30 يوليو/تموز 2022 نفذت طائرة مسيرة الضربة باستخدام صواريخ “هيلفاير” (AGM-114) القادرة على ضرب الهدف بشكل مركز دون انفجار، ما يتيح تقليص دائرة الاستهداف بشكل كبير، التي استخدمتها أمريكا في عمليات خاصة نفذت في سوريا واليمن والعراق وليبيا والصومال.
قشة الإنقاذ لبايدن
تعد تلك العملية الانتصار الأبرز للولايات المتحدة خارجيًا بعد انسحابها من أفغانستان في 30 أغسطس/آب 2021، والأكبر حجمًا من حيث الهدف بعد مقتل زعيم القاعدة الأسبق أسامة بن لادن في مايو/آيار 2011، ومن ثم فمن المتوقع أن يكون لها صداها لدى رجل الشارع الأمريكي، العادي قبل النخبة.
وقد أثار الانسحاب الأمريكي من الشرق الأوسط موجة جدل داخل الولايات المتحدة لما يترتب على ذلك من تقليص لنفوذ أمريكا خارجيًا بما يهدد مصالحها في الإقليم، بجانب أنها بهذه الخطوة تمهد الطريق نحو خصومها الحاليّين، روسيا والصين، لتعزيز نفوذهما على حسابها، وهو الانتقاد الذي أساء لبايدن شعبيًا.
وعلى المستوى الداخلي فقد أحدث فشل إدارة بايدن في التعاطي مع الملفات الاقتصادية تزامنًا مع موجة كورونا وتداعياتها والحرب الروسية الأوكرانية وتأثيراتها في زيادة الاحتقان الشعبي ضده، ما كان له صداه في تراجع شعبيته بصورة غير مسبوقة، ما دفع الباب أمام الكثير من الأحاديت المتعلقة بشكوك ترشحه لولاية جديدة بعدما تسبب في تراجع شعبية وجماهيرية الحزب الديمقراطي.
خلال العقدين الأخيرين تعاملت الإدارات الأمريكية مع زعماء التنظيمات المسلحة كـ”مساحيق تجميل” تلجأ لها كلما اشتد الخناق عليها داخليًا نتيجة الفشل في حسم الكثير من الملفات الحياتية
ثم جاءت المحاولة الأخيرة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه لتحسين المستوى المعيشي لمواطنيه وتخفيف حدة تداعيات الأزمة الاقتصادية العالمية من خلال جولته الشرق أوسطية التي كان يؤمل نفسه بحزمة اتفاقيات تنعش خزائن بلاده بجانب الضغط على السعودية لزيادة إنتاجها النفطي بما يخفض من الأسعار المشتعلة جراء وقف الإمدادات الروسية، وهو ما فشل في تحقيقه كذلك.. ما زاد من وضعيته المتأزمة.
وبعيدًا عن الأسئلة التشكيكية التي يطرحها البعض عن حقيقة استهداف الظواهري ومدى صحة المعلومات المسربة من الإدارة الأمريكية وما إذا كان قد قتل أو توفي بسبب تلك الغارة المعلن عنها أم لا، وفي هذا التوقيت أم لا، فإن العالم الآن – وحتى تنكشف أي معلومات أخرى مغايرة للسردية الأمريكية – أمام حدث ضخم لا يقل أهمية عما حدث في 2011، وهو ما يمكن أن يزيد من شعبية بايدن وينقذه من مقصلة الاحتقان المتصاعد ويعوض به فشله في الملفات الأخرى.
ومن ثم فمن المتوقع أن يوظف الرئيس الأمريكي تلك العملية خلال الآونة المقبلة لتخفيف حدة الضغط الشعبي الممارس عليه، سواء من الشارع أم المعارضة، وأن يعزف عليها طويلًا كانتصار مهم يحسب للولايات المتحدة في حربها المزعومة ضد الإرهاب، خاصة أن الظواهري كان أحد القيادات البارزة التي تبحث عنها الاستخبارات الأمريكية منذ سنوات، ورصدت حكومتها مكافأة مالية قدرها 25 مليون دولار لمن يساعد في الوصول إليه.
مساحيق التجميل لرؤساء أمريكا
خلال العقدين الأخيرين تعاملت الإدارات الأمريكية مع زعماء التنظيمات المسلحة كـ”مساحيق تجميل” تلجأ لها كلما اشتد الخناق عليها داخليًا نتيجة الفشل في حسم الكثير من الملفات الحياتية، ويلاحظ أن كل عملية استهداف ممنهجة لأي من قادة تلك التنظيمات خلال السنوات الماضية تأتي في وقت يعاني فيه الرئيس الأمريكي من تراجع واضح في شعبيته وزيادة الانتقادات الموجهة له.
وتعد تلك التنظيمات جزءًا من بنية النظام الدولي في مرحلة ما بعد الحرب البادرة، إذ كانوا ضلعًا أساسيًا فيها، حيث احتضنهم طرفا الحرب، الولايات المتحدة وروسيا، بداية الأمر تمويلًا ودعمًا تحقيقًا لأهداف وأجندات سياسية، ثم تطور الوضع حتى تغولت تلك الكيانات وبات لها حضور أثار الطمع والطموح في نفوس زعمائها، فاستقل بعضهم وبقي الآخر في كنف أي من المعسكرين، الشرقي والغربي، حتى باتت السيطرة عليهم أمرًا غاية في الصعوبة، فتحولوا في بعض الأحيان من حلفاء إلى خصوم فنشبت العديد من المواجهات بينهم، حتى بات القضاء عليهم مسألة أمن قومي وانتصار يحسب لصاحبه، حتى إن كانوا في الأصل صنيعتهم.
ولم يكن مقتل الظواهري الإنجاز الوحيد الذي يعول عليه بايدن لترميم صورته، ففي 3 فبراير/شباط 2022 ظهر الرئيس داخل غرفة عمليات خاصة (في الطابق السفلي من الجناح الغربي للبيت الأبيض ومخصصة لمراقبة الأزمات والتعامل معها) يتابع ونائبته هاريس وأعضاء فريق الأمن القومي، عملية استهداف زعيم تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” أبو إبراهيم الهاشمي القريشي.
ومن قبل بايدن كان دونالد ترامب، الذي جلس في غرفة العمليات ذاتها في أكتوبر/تشرين الأول 2019 مع نائبه مايك بنس، ووزير الدفاع مارك إسبر، بالإضافة إلى قادة الأركان، يتابع مقتل زعيم داعش، أبو بكر البغدادي، في عملية ممنهجة للاستخبارات الأمريكية في محافظة إدلب شمال غربي سوريا.
وقبلها بشهر، وفي سبتمبر/أيلول من العام ذاته نشر البيت الأبيض صورًا تشير إلى استهداف القوات الأمريكية في أفغانستان لحمزة بن لادن، نجل زعيم القاعدة أسامة بن لادن، الذي كان يعتبره البعض قيادة واعدة في التنظيم ستمثل تهديدًا للأمن القومي الأمريكي.
ومن قبل ترامب كان باراك أوباما، الذي جعل من استهداف أسامة بن لادن أولوية قصوى منذ توليه منصبه في 2009، وفي مساء الأول من مايو/آيار 2011 جلس الرئيس الأمريكي وكبار مسؤوليه داخل غرفة العلميات يشاهد العملية التي قامت بها البحرية الأمريكية لاستهداف بن لادن والقضاء عليه داخل مقر إقامته مع الحصول على مجموعة من الأوراق والممتلكات الخاصة.
المشهد ذاته تكرر خلال ولاية جورج بوش الابن، حين استهدفت قوات بلاده زعيم القاعدة في العراق، أبو مصعب الزرقاوي، في غارة جوية على منزله في شمال بغداد في 7 يونيو/حزيران 2006، بعد 3 سنوات من حرب العراق، حينها وفي خطابه الذي ألقاه في البيت الأبيض في اليوم التالي للعملية قال بوش منتشيًا بانتصاره العظيم: “مقتل الزرقاوي ضربة قاسية للقاعدة (…) وانتصار في الحرب العالمية على الإرهاب”.
بعد ساعات قليلة من الإعلان رسميًا عن مقتل الظواهري خرجت بعض التكهنات عن هوية من يخلفه في قيادة التنظيم، فيما تمحورت الخيارات حول اثنين لا ثالث لهما: الأول وهو محمد صلاح الدين زيدان، المعروف باسم “سيف العدل المصري”، أحد أبرز القادة المؤثرين في مسيرة القاعدة والثاني صهر الظواهري المعروف باسم عبد الرحمن المغربي.
من هو أيمن الظواهري؟
ينحدر الظواهري المولود في القاهرة في 19 يونيو/حزيران 1951 لأسرة متدينة متوسطة الحال، فجده ربيع الظواهري كان شيخًا للجامع الأزهر، في حين أن أحد أعمامه كان أول أمين عام لجامعة الدول العربية، وقد درس الطب وتخرج في كلية طب القصر العيني، جامعة القاهرة عام 1974، متخصصًا في قسم العيون فيما بعد.
انخرط مبكرًا في النشاط السياسي بانضمامه لجماعة الإخوان المسلمين، واعتقل في سن الخامسة عشر، ثم انتقل بعد ذلك إلى الحركات المسلحة الأخرى التي كان لها ثقل كبير في تسعينيات القرن الماضي، حتى وصل إلى أن أصبح أحد الناطقين البارزين باسم القاعدة، وكان أحد أهم المقربين من بن لادن الذي غلبه في حضوره الإعلامي، ففي 2007 ظهر في 16 شريطًا مرئيًا ومسموعًا فيما لم يظهر بن لادن إلا في 4 فقط.
في يناير/كانون الثاني 2006 قيل إنه قتل في ضربة صاروخية أمريكية بالقرب من الحدود الباكستانية مع أفغانستان، حيث قتل في ذلك الهجوم 4 من أعضاء التنظيم، لكن بعد أسبوعين فقط من العملية خرج في شريط فيديو يحذر فيه بوش قائلًا إنه و”كل القوى على الأرض” لا يمكنهم قتله إن لم يكن مقدرًا له ذلك.
وبعد مقتل بن لادن خرج الظواهري في ثوب القائد الجديد في 8 يونيو/حزيران من عام 2011، أصدر بيانًا حذر فيه الأمريكيين من أن الزعيم المستهدف سيستمر في ترويع الأمريكان حتى من قبره، مؤكدًا أن التنظيم سيواصل عمله واستهدافه للأهداف الأمريكية في كل مكان، فيما نشرت وسائل إعلام أمريكية بعد ذلك وثائق تشير إلى تورطه في بعض العمليات السابقة وتخطيطه مستقبلًا لاستهداف الولايات المتحدة بعمليات ممنهجة قبل الإيقاع به في كابول في 30 يوليو/تموز 2022.
المرشحون لخلافته
بعد ساعات قليلة من الإعلان رسميًا عن مقتل الظواهري خرجت بعض التكهنات عن هوية من يخلفه في قيادة التنظيم، فيما تمحورت الخيارات حول اثنين لا ثالث لهما: الأول وهو محمد صلاح الدين زيدان، المعروف باسم “سيف العدل المصري”، أحد أبرز القادة المؤثرين في مسيرة القاعدة والثاني صهر الظواهري المعروف باسم عبدالرحمن المغربي.
وولد سيف العدل في محافظة المنوفية (شمال القاهرة) عام 1960 وانضم للتنظيمات المسلحة منتصف الثمانينيات، وشارك في محاولة اغتيال وزير الداخلية الأسبق حسن أبو باشا، فيما اتهم كذلك في قضية اغتيال الرئيس الأسبق محمد أنور السادات، لكنه خرج لعدم كفاية الأدلة، ما دفعه للسفر إلى السعودية عام 1989 لينضم بعدها إلى القاعدة قبل أن يرافق بن لادن في السودان عام 1992.
شغل بداية الأمر منصب رئيس الجنة الأمنية للقاعدة، في منتصف التسعينيات، كما كان مؤثرًا في إنشاء البنية التحتية للقاعدة في القرن الإفريقي، وخاصة الصومال، وقد رصدت الحكومة الأمريكية والبريطانية معًا مكافأة مالية قدرها 7.5 مليون جنيه إسترليني، و10 ملايين دولار، نظير الإدلاء بأي معلومات عنه بعد مشاركته في تفجير السفارتين الأمريكيتين في نيروبي ودار السلام عام 1998.
أما محمد أباتي والمعروف بـ”عبد الرحمن المغربي” فهو صهر الظواهري وأحد مساعديه المقربين، وكان يلقب بـ”ثعلب القاعدة” وقد نجح في خداع الأمريكان لسنوات طويلة، إذ أوهمهم بأنه قُتل ليسقط من قائمة المستهدفين لدى المخابرات الأمريكية ما ساعده على التحرك بأريحية بين الدول، حتى استقر في إيران التي ارتمى في أحضانها وترعرع داخل كنفها وظهر للأضواء بعد سقوط طالبان في أفغانستان عام 2001، بحسب الباحث في شؤون الحركات الإسلامية، إسلام المنسي.
في ضوء ما سبق، فقد جاءت عملية استهداف الظواهري على طبق من ذهب للرئيس الأمريكي جو بايدن، الذي من المرجح ألا يترك هذا الانتصار كما يسميه دون أقصى استغلال ممكن لتعويض فشله الداخلي، ليواصل الأمريكان التعامل مع التنظيمات المسلحة كقطع شطرنج تحركها وفق خطة مدروسة لتحقيق أهدافهم المتنوعة وعلى رأسها حماية الملك حتى لو كان الثمن التضحية بكل القطع الأخرى.