في 14 يوليو/ تموز الماضي، خرج الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، ليهدِّد الاحتلال الإسرائيلي، في ظلّ الاستعدادات المتواصلة لبدء الحفر في حقل كاريش الواقع في مياه البحر الأبيض المتوسط بين لبنان والاحتلال.
وفتحت التهديدات المتواصلة من الحزب المدعوم إيرانيًّا في لبنان، الباب أمام إمكانية اندلاع حرب جديدة مع الاحتلال، في ظل تصاعد التهديدات المتبادلة بين “إسرائيل” من جهة وحزب الله من جهة أخرى، إعلاميًّا وسياسيًّا وعبر الوسطاء.
وجذور النزاع ليست بجديدة بين بيروت والاحتلال على منطقة في البحر المتوسط، غنية بالنفط والغاز، تبلغ مساحتها نحو 860 كيلومترًا، وتُعرَف بالـ”بلوك رقم 9″، وفي أكتوبر/ تشرين الأول 2020 بدأ الجانبان مفاوضات برعاية الأمم المتحدة ووساطة أمريكية، بهدف الانتهاء من ملفّ ترسيم الحدود.
وبدأ لبنان عام 2002 بترسيم حدوده البحرية بشكلٍ أحادي، حين كلّفت الحكومة اللبنانية مركز “ساوثمسون” لعلوم المحيطات، بالتعاون مع المكتب الهيدروغرافي البريطاني، بإعداد دراسة لترسيم حدود مياهه الإقليمية والمنطقة الاقتصادية الخالصة، وذلك بغية إجراء عملية مسح جيولوجي للتنقيب عن النفط والغاز في هذه المنطقة.
وواجه المركز عدة صعوبات في الترسيم، بسبب عدم توافر خرائط بحرية دقيقة وواضحة لمنطقة جنوب لبنان وشمال فلسطين المحتلة، ما أوصل إلى ترسيم غير دقيق، وفي عام 2006 كلّفت الحكومة اللبنانية المكتب الهيدروغرافي البريطاني بإجراء دراسة جديدة لترسيم الحدود البحرية للدولة اللبنانية، وكانت هذه الدراسة عبارة عن نسخة محدّثة لتلك التي سبقتها.
تاريخ ترسيم الحدود.. محاولات أحادية وتدخُّل للوسطاء
في 17 يناير/ كانون الثاني 2007، وقّع لبنان مع قبرص اتفاقية حول تعيين حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة، بهدف توطيد علاقات حسن الجوار والتعاون فيما بينهما لاستثمار الثروات النفطية، واستندت هذه الاتفاقية إلى اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار، وتمَّ تحديد المنطقة الخالصة بين لبنان وقبرص على أساس خط الوسط.
ووفق موقع الجيش اللبناني، لم تبرَم الاتفاقية مع قبرص التي وقّعت اتفاقية أخرى مع الاحتلال عام 2011 لتحديد المنطقة الاقتصادية الخالصة بينهما، حيث اتّهمت بيروت قبرص آنذاك بتجاهُل ما تمّ الاتفاق عليه معها، ما أدّى إلى خسارتها مساحة مائية تزيد عن 860 كيلومترًا.
وفي عام 2012، قدّمت واشنطن عبر موفدها فريدريك هوف، اقتراحًا لحلّ النزاع البحري، وذلك بتقاسُم المنطقة المتنازع عليها برسم ما يُعرَف بـ”خط هوف”، وبموجب “خط هوف” يحصل لبنان على حوالي 500 كيلومتر، والاحتلال على حوالي 360 كيلومترًا من أصل مساحة الـ 860 كيلومترًا المتنازع عليها، لكن لبنان رفض حينها هذا الاقتراح.
واقترح الجانب الأميركي أن يكون “خط هوف” خطًّا مؤقّتًا وليس حدودًا نهائية، لكن الجانب اللبناني رفض ذلك خشية تحوّل المؤقت إلى دائم عند الإسرائيلي، وفي عام 2018 شرع لبنان بالتنقيب عن النفط والغاز قبالة سواحله، وقام في 9 فبراير/ شباط بتوقيع عقد مع ائتلاف شركات دولية هي “توتال” الفرنسية و”إيني” الإيطالية و”نوفاتيك” الروسية، للتنقيب عن النفط والغاز في البلوك رقم 4 والبلوك رقم 9 في مياهه الإقليمية.
وبما أن البلوك رقم 9 يقع ضمن المساحة المتنازع عليها، اعتبرت “إسرائيل” خطوة لبنان “استفزازية”، وفي 16 فبراير/ شباط من العام نفسه، أي بعد حوالي أسبوع من توقيع لبنان عقد مع ائتلاف الشركات الدولية، دخلت أمريكا بالوساطة مجددًا بين لبنان و”إسرائيل”، عبر مساعد وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى ديفيد ساترفيلد.
وأعاد ساترفيلد اقتراحات هوف عام 2012 لرسم الحدود البحرية بين الطرفَين، غير أن لبنان رفض المقترح، ولفت بيان صادر عن رئيس مجلس النواب نبيه برّي في حينه، إصراره على موقفه لجهة ترسيم الحدود البحرية عبر اللجنة الثلاثية المنبثقة عن تفاهُم أبريل/ نيسان 1996 التي تضمّ لبنان و”إسرائيل” والأمم المتحدة.
وتفاهُم أبريل/ نيسان 1996 هو اتفاق مكتوب غير رسمي بين “إسرائيل” وحزب الله اللبناني، تمَّ التوصُّل إليه بفضل الجهود الدبلوماسية للولايات المتحدة، التي أنهت صراع عام 1996 العسكري بين الجانبَين، فيما تبنّى مجلس الأمن القرار 1701 في 11 أغسطس/ آب 2006، الداعي إلى وقف كلّ العمليات القتالية بين لبنان و”إسرائيل”.
وفي مارس/ آذار 2019، زار وزير الخارجية الأمريكي، مايك بومبيو، لبنان، والتقى الرئيس اللبناني ميشال عون، ورئيس البرلمان نبيه برّي، ورئيس الحكومة آنذاك سعد الحريري، وتناقش معهم في عدّة مواضيع منها ترسيم خط الحدود البحري بين لبنان و”إسرائيل”.
وفي مايو/ أيار 2019، زار ساترفيلد لبنان مرّتَين في غضون أيام، والتقى كلًّا من الحريري وبرّي ووزير الخارجية اللبناني حينها جبران باسيل، وأبلغهم قبل مغادرته بيروت إمكانية إجراء مفاوضات غير مباشرة، تشمل الحدود البرّية والبحرية بين لبنان و”إسرائيل”.
واستمرَّ ساترفيلد بمفاوضاته مع الجانبَين اللبناني والإسرائيلي، إلى أن تمَّ تعيين ديفيد شينكر خلفًا له في سبتمبر/ أيلول 2019، وفي 3 سبتمر/ أيلول 2020 زار شينكر لبنان على خلفية انفجار مرفأ بيروت في 4 أغسطس/ آب، لكنّه لم يلتقِ أيًّا من الرؤساء، مع أنّ زيارته وُضعت سابقًا في إطار استكمال المناقشات حيال ترسيم الحدود مع فلسطين المحتلة، لا سيما مع برّي الذي يتولّى الملف.
وفي 1 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، أعلن برّي التوصُّل إلى “اتفاق إطار” لإطلاق المفاوضات بين بلاده و”إسرائيل” لترسيم الحدود، وفي 14 أكتوبر/ تشرين الأول 2020 انعقدت الجولة الأولى من المفاوضات غير المباشرة بشأن ترسيم الحدود البحرية بين لبنان و”إسرائيل”، برعاية الأمم المتحدة ووساطة الولايات المتحدة.
وفي 28 أكتوبر/ تشرين الأول 2020 انعقدت الجولة الثانية، ووصفتها وزارة الخارجية الأمريكية بأنها “مثمرة”، دون ذكر مزيد من التفاصيل، وفي 29 أكتوبر/ تشرين الأول 2020 انعقدت جولة ثالثة قدّم خلالها كلّ وفد طرحه ومطالبه أمام الآخر وفق مصدر لبناني.
وفي 11 نوفمبر/ تشرين الثاني 2020 انعقدت الجولة الرابعة، ووصفتها الحكومة الأميركية ومكتب المنسّق الخاص للأمم المتحدة في لبنان، يان كوبيتش، بـ”المثمرة”، وفي 4 أيار/ مايو 2021 اُختتمت جولة خامسة من المفاوضات دون التوصُّل إلى اتفاق.
لماذا يهتم الحزب بالحقل؟
يمكن قراءة موقف “حزب الله” بشأن حقل كاريش في إطار ما يعيشه لبنان من أوضاع اقتصادية متردّية خلال العقد الأخير تحديدًا، وحال العجز في الطاقة وانقطاع الكهرباء والأزمة التي تعيشها بيروت خلال السنوات الأخيرة.
وتبرز محاولة الحزب حل إشكالية النقص عدة مرّات، عبر جلب سفن إيرانية محمّلة بالوقود دون أن يستهدفها الاحتلال الإسرائيلي، تحت موجة التهديدات التي أطلقها نصر الله حينها حال تمَّ استهداف هذه السفن.
وإلى جانب ذلك، يسعى الحزب لتحقيق مكاسب سياسية في ظلّ تراجُع شعبيته نتيجة الحرب في سوريا، ومشاركته فيها بصورة مباشرة عبر دعم النظام السوري برئاسة بشار الأسد، وما تبع ذلك من أزمات أمنية وسياسية.
ويرى الحزب في الأزمة الحاصلة حاليًّا فرصة ذهبية للبنان لاستخراج النفط والغاز من البحر المتوسط، في ضوء أزمة كاريش وفشل المفاوضات على مدار 20 عامًا في الوصول إلى حلّ ينهي أزمة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان والاحتلال.
الاحتلال يراقب
يرتكز الموقف الإسرائيلي في الآونة الأخيرة على رصد الموقف والسلوك اللبناني -“حزب الله” على وجه الخصوص-، في ضوء المفاوضات القائمة بشأن ترسيم الحدود، قبل التحرُّك عسكريًّا وأمنيًّا في ظل التهديدات المتواصلة.
ومع ذلك، هدّد وزير الحرب، بني غانتس، هو الآخر بالوصول إلى صيدا وبيروت إذا فكّر الحزب في ضرب منصّات الغاز المتواجدة في البحر، أو استهداف عمليات الحفر المنويّ البدء بها في شهر سبتمبر/ أيلول المقبل.
ويبدو الاحتلال غير معنيّ في الدخول في مواجهة جديدة بعد أكثر من عام من مواجهته للمقاومة الفلسطينية في غزة، التي تمكّنت فيها من توجيه ضربات قوية كانت إحداها لمحطة الطاقة في عسقلان، وبالتالي يخشى الاحتلال من هجمات دقيقة للحزب الذي يمتلك ترسانة صاروخية وعسكرية أكثر تطورًا، مقارنة بقوى المقاومة في القطاع.
ومع ذلك، يعتقد المراقبون الإسرائيليون العسكريون والأمنيون أن “حزب الله” يبحث عن صورة نصر جديدة يسوّقها لجبهته الداخلية، مستغلًّا ملف النفط والغاز الذي يُعتبر ورقة رابحة، في ظل ما تشهده منطقة الشرق الأوسط من ترتيب للأوراق وبناء التحالفات.
ويعتقد بعض هؤلاء أن نصر الله الذي نفّذ عملية أسر مفاجئة عام 2006، من الممكن أن يدخل في مواجهة جديدة تستهدف تحسين الواقع الاقتصادي للبنان، الذي يعاني من أزمة اقتصادية خانقة وشديدة بفعل انهيار العملة والفساد.
المعطيات والتقديرات المتوقعة
في ضوء المعطيات القائمة حاليًّا، لا يبدو خيار التصعيد مستبعدًا في سبتمبر/ أيلول المقبل، لكن مع حضور الوسيط الأمريكي لا يبدو خيار الحرب هو الأرجح، إذ من الممكن أن يقدم الحزب على مناوشات ذات طابع عسكري.
وتعتبر عمليات إرسال الطائرات المسيَّرة إلى الحقول أحد الخيارات الممكنة التي قد يقدم عليها الحزب المحسوب على إيران، فيما يبقى الردّ الإسرائيلي على مثل هذه الخطوة هو المتحكّم ميدانيًّا بتطورات الأحداث في لبنان.
ورغم حضور الوسيط الأمريكي والحديث عن بعض التقدُّم، فإن تاريخ مفاوضات الترسيم الذي لم يشهد نجاحًا أو اختراقًا حقيقيًّا، يظل شبحًا ماثلًا لإمكانية انزلاق الأمور والأحداث خلال الأسابيع القليلة المقبلة في لبنان، والوصول إلى حالة تصعيد.