لم تكتفِ المحاكم العسكرية الإسرائيلية بالمؤبّدات التي تقضي بها على حياة الأسرى الفلسطينيين، بل تواصل سياستها الانتقامية ضدهم من خلال ابتزازهم ماليًّا، عبر الغرامات التي تفرضها على كل أسير عند النطق بالحكم عليه. وهناك نوع آخر من الغرامات يُفرَض على الأسرى كعقوبة بشكل غير قانوني، بحجّة ارتكابهم مخالفات داخل السجن، ولا توثَّق في المحاكم الإسرائيلية بل تُسلَّم الأموال مباشرة لإدارة مصلحة السجن.
ويبلغ متوسط الغرامات التي تفرضها المحاكم الإسرائيلية على الأسرى نحو 15 مليون شيكل سنويًّا (4.5 ملايين دولار)، ويمدَّد حكم من يتخلف عن دفع غرامة 1000 شيكل مدة شهر. وتذهب هذه الأموال المسلوبة إلى خزينة الاحتلال، بحيث يتمّ اقتطاع نسبة 50% منها لخزينة الجيش، وبالتالي يمكن القول إن السجون الإسرائيلية تحوّلت إلى شركات استثمارية تجني ملايين الدولارات من الأسرى الفلسطينيين.
وتُفرَض الغرامات كجزء من الأحكام، تتراوح قيمتها حسب التهمة، وقد تصل عشرات آلاف الدولارات، بينما الغرامة التي تفرَض عليهم كعقوبة وهم داخل السجن تتراوح قيمتها من 100 إلى 1500 دولار، حسب مزاج الضبّاط التابعين لإدارة مصلحة السجون، وفي الكثير من الأحيان يختلقون عقوبات من أجل فرض الغرامات.
في القدس “اعتقال غير مكلف” للاحتلال
وبشكل متعمَّد، تلجأ “إسرائيل” إلى سياسة الغرامة، كسلاح ردع مادي للضغط على أهالي الأسرى لثني أبنائهم عن المقاومة والرضوخ لسياستها، وتكسب كثيرًا من أسرى القدس لوجود حملات اعتقال بشكل مستمر تستهدف الشباب والنساء والأطفال.
كثير من الأسرى يمضون فترات إضافية في المعتقل بعض الأحيان بدلًا من دفع الغرامات، لعدم قدرة الأهالي على الدفع
كما يوجد في القدس غرامة من نوع خاصّ تُعرَف بـ”حبر على ورق”، وفيها يتمّ إبعاد الفلسطيني عن الأقصى، وإذا خاف يدفع غرامة مالية.
تقول أماني سراحنة، مسؤولة الإعلام في نادي الأسير، إن الغرامات المالية جزء من أدوات الاحتلال في الاستغلال الاقتصادي، حيث تقدَّر بملايين الشواكل سنويًّا، مشيرة إلى أنه كلّما كان الحكم عاليًا ضد الأسير كلما كانت غرامته أكبر.
وأوضحت سراحنة لـ”نون بوست” أن عمليات الاعتقال التي تلحق بالأسير غرامة مالية تندرج تحت مسمّى “اعتقال غير مكلف” بالنسبة إلى الاحتلال، بل يستفيد من اعتقالهم ماديًّا. وبحسب متابعتها، فإن أهل القدس ينالون النصيب الأكبر من الغرامات، بسبب كثرة حملات الاعتقال التي تطاردهم وتسلُّمهم قرارات إبعاد عن المسجد الأقصى، وفي حال مخالفتهم سيدفعون آلاف الشواكل.
ولفتت سراحنة إلى أن الكثير من العائلات التي يُفرض على أبنائها الأسرى غرامات لا تستطيع الدفع، وفي أحيان كثيرة تتوجه إلى المؤسسات المعنية بالأسرى لمساعدتها، مشيرة إلى أن كثيرًا من الأسرى يمضون فترات إضافية في المعتقل بعض الأحيان بدلًا من دفع الغرامات، لعدم قدرة الأهالي على الدفع.
وتعيش السيدة علياء نجار، والدة الشابَّين المقدسيَّين هشام وعبد الرحمن، حالة قلق بسبب إبعاد الاحتلال الإسرائيلي نجلَيها عن البلدة القديمة في مدينة القدس مدة 5 شهور، وفي حال خالفا القرار تنتظر كل منهما غرامة مالية تبلغ 15 ألف شيكل.
تقول: “سبق وأن اُعتقل أولادي الثلاثة مدة 11 شهرًا مع غرامة مالية وصلت 20 ألف شيكل، بالكاد وفّرها زوجي ليتمَّ الإفراج عنهم، عدا عن المصروف الذي كان يحوَّل لهم بشكل شهري ليشتروا ما يريدون من الكانتينا -مقصف السجن-، الغرامة مرهقة ماديًّا ونفسيًّا”.
وأضافت لـ”نون بوست”: “حين أُفرج عن ولدَي هشام وعبد الرحمن بعد يومَين من احتجازهما، تمَّ توقيعهما على غرامة مالية حال وصلا البلدة القديمة حيث نسكن (..) ذهبت بهما إلى مخيم شعفاط -غرب القدس- حيث بيت والدتي، وأجبرتهما على البقاء حتى لا يعودا ويستفزهما جنود الاحتلال، فيدخلا البلدة ويعتقلا وندفع الغرامة المالية”.
عائلة نجار واحدة من مئات الأسر التي تعاني من الغرامة المالية التي تفرضها المحاكم الإسرائيلية على أبنائها الأسرى، لتثقل كاهلها دون سابق إنذار وبمبالغ كبيرة بشكل متعمَّد، لردع الشباب عن المقاومة أو المطالبة بحقوقهم داخل المعتقل.
لماذا باتت الغرامة حملًا ثقيلًا على أهالي الأسرى؟
ما زاد العبء على الأهالي من دفع الغرامات لمصلحة السجون والمحاكم العسكرية عن أبنائهم الأسرى، هو توقف السلطة الفلسطينية منذ عام 2014 تكفُّلها بذلك، ويعود السبب إلى فرض سلطات الاحتلال غرامات مالية باهظة تصل إلى مئات آلاف الشواكل على الأسرى، متوقعة أن تدفعها السلطة.
وبعد توقف السلطة عن الدفع، استغلّت مصلحة السجون الأمر وباتت تترصّد للأسرى، وتفرض عليهم آلاف الشواكل في حال بادر أحدهم الإضراب الفردي أو الجماعي احتجاجًا على ممارساتها، لتكسر عزيمتهم وتجبرهم على الخضوع.
ومن أشكال المخالفات التي تفرض عليها إدارة السجن غرامة مالية، حين يتأخّر الأسير عن العدّ الصباحي، أو التعويض عن التلف في ممتلكات السجن لكن بأضعاف قيمتها المالية الحقيقية، أو افتراءً، فيحمّل الاحتلالُ الأسرى أعباء وتكاليف التدمير الذي تحدثه وحدات السجن خلال ممارستها القمع والعنف، فمثلًا من يرفع صوته بالغناء أو يضع حبلًا لنشر الملابس داخل الغرفة، يغرَّم بـ 50 دولارًا، ومن يضع صورة على الحائط 55 دولارًا، والتأخُّر عن العدّ الصباحي 15 دولارًا، في حين تصل إلى 100 دولار حال ادّعى الاحتلال بأنه ضبط جهاز اتصال في إحدى الغرف.
وتجدر الإشارة إلى أن الاحتلال يضع قيودًا على رواتب الأسرى، ويشدّد إجراءاته فلا تصل كاملةً إلا ما ندر، علمًا أن رواتب أكثر من 60% من الأسرى داخل السجون هي أقل من 3 آلاف شيكل (أقل من 800 دولار)، وتتلاعب مصلحة السجون في الأسعار داخل الكانتينا، فمثلًا يكون ثمن كيلو السكّر 1 دولار لكن يُباع للأسرى بـ 3 أو 5 دولارات، وبالتالي تتربّح على حساب الأسير.
كما تتعامل مع مخصصات الكانتينا الخاصة بالأسرى على أنها أرصدة مالية يمكن مصادرتها حال وقعت العقوبة على الأسير، ويؤثّر فرض الغرامات على راتب الأسير، بحيث يحرَم من شراء حاجاته الأساسية، إذ تصادر مصلحة السجون الأموال المودعة في حسابه لسداد قيمة الغرامة.
هناك عدة جهات تفرض الغرامات المالية على الأسرى داخل سجون الاحتلال، فبجانب مدير السجن يمكن لضباط الأمن او الاستخبارات فرض هذه الغرامات وفق مزاجهم وأهوائهم الشخصية، ومن دون أي إجراءات قانونية او إدارية. ويلعب ضابط الأمن في السجن دور القاضي والجلاد، حيث يجبر الأسرى على تنفيذ هذه الأحكام في أقرب فرصة ممكنة عند إدخال أموالهم إلى السجن.
ورغم تلك السياسات القمعية التي يُستهدف بها الأسير الفلسطيني من قبل الاحتلال، إلا أنه لم يتراجع يومًا عن سعيه لنيل حريته مهما بلغ الثمن، بل يواصل مقاومته للسجّان عبر عمليات التحرُّر، ومعركة الأمعاء الخاوية لكسر الاعتقال الإداري، والخوض في إضرابات جماعية لأخذ حقوقه التي تحاول مصلحة السجون سلبها منه.