تمحورت عناوين الأخبار الرئيسية في كرة القدم العالمية هذا الصيف حول قرار اللاعب الشاب كيليان مبابي تمديد عقده لمدة ثلاث سنوات مع فريق “باريس سان جيرمان” على حساب تحقيق حلمه بالانتقال إلى العملاق الإسباني ريال مدريد.ب
جعل فريق باريس سان جيرمان – المملوك من قبل شركة قطر للاستثمارات الرياضية الممولة من طرف الدولة – مبابي البالغ من العمر 23 عامًا اللاعب الأعلى أجرًا في العالم حتى أنه حصل على 125 مليون دولار كمكافأة توقيع، وهو مبلغ لم يقدمه أي فريق من قبل من أجل الاحتفاظ بأحد لاعبيه.
وفي قصة أخرى حدثت في أواخر أيار/ مايو الماضي، ألغى المنتخب الأرجنتيني لكرة القدم مباراة ودية مقررة ضد إسرائيل استجابةً لدعوات للانسحاب من المباراة من قبل “نادي الخضر لكرة القدم” الفلسطيني، الذي كان لاعبه محمد علي البالغ من العمر 19 عامًا قد قُتل برصاص قوات الاحتلال الإسرائيلي في نيسان/ أبريل.
قبل أسابيع من ذلك، وجد المنتخب المصري لكرة القدم نفسه في قلب أزمة إقليمية كبرى بعد هزيمته الصادمة بنتيجة 2-0 أمام إثيوبيا في التصفيات المؤهلة لكأس الأمم الأفريقية للعام المقبل. وقد ربط المشجعون والمسؤولون السياسيون بين أداء الفريق على أرض الملعب والخلاف المستمر بين مصر وإثيوبيا بشأن سد النهضة الذي يعتبره المصريون تهديدًا وجوديًا لاستفادة البلاد من مياه نهر النيل.
في أخبار أخرى، تم مؤخرًا استدعاء ميغيل سالغادو ابن مدافع ريال مدريد وإسبانيا السابق ميشيل سالغادو البالغ من العمر 17 عامًا لتمثيل منتخب الإمارات تحت 20 عامًا، علما بأن والده يعمل في هذه الدولة الخليجية منذ اعتزال كرة القدم قبل عقد من الزمن.
تُظهر هذه القصص مجتمعة المكانة الشاملة التي باتت تحتلها كرة القدم في الشرق الأوسط، ومدى تأثير هذه المنطقة على كرة القدم العالمية. ولطالما كانت كرة القدم الرياضة الأكثر شعبية في معظم أنحاء الشرق الأوسط، حيث تستحوذ على عقول الملايين من الناس، وتوجه تطلعاتهم، بينما تستمر أعداد الجماهير في التضاعف.
بروز ظواهر أوسع
إن كرة القدم أكثر من مجرد لعبة وإنها هي أيضًا علامة حاسمة على الصعيدين السياسي والاقتصادي، فضلاً عن كونها أداة في أيدي أولئك الذين يتحدون النظام الحاكم. فمنذ أن فاجأت الفيفا المشجعين في جميع أنحاء العالم في سنة 2010 بمنح قطر حقوق استضافة كأس العالم 2022، طالب صحفيون وأكاديميون وناشطون وقادة سياسيون وعشاق اللعبة في جميع أنحاء العالم بتفسير وتقييم تداعيات هذا القرار بجعل دولة عربية صغيرة تحتضن هذا الحدث الرياضي الأكثر شعبية على الكوكب.
وبينما كانت الأسئلة المتعلقة بحقوق العمال وسياسات القوة الناعمة ودور المال في كرة القدم محور الكثير من المحادثات حول كأس العالم 2022، رأى آخرون النطاق الذي ستمنحه كرة القدم لبروز ظواهر أوسع في المنطقة.
بهذه الروح أنجزنا عملنا بعنوان “كرة القدم في الشرق الأوسط: الدولة والمجتمع واللعبة الجميلة”، وهو كتاب جديد يوضح فيه 12 باحثًا كيف أصبحت كرة القدم ساحة تنافس ونزاع عبر مجموعة واسعة من القضايا.
من الجلي أن إرث كرة القدم في الشرق الأوسط يسبق بوقت طويل رحلة استضافة كأس العالم أو الاستفادة من ثروة نفطية لا مثيل لها في سوق الانتقالات الأوروبية. في الواقع، وصلت كرة القدم إلى المنطقة مع المستعمرين الأوروبيين منذ أكثر من قرن، وقد استخدمت كجزء من نظام الفصل بين المعمرين والشعوب المستعمرة. في المقابل، آمنت النضالات القومية بقيادة النخب المحلية إيمانًا قويًا بالرياضة المنظمة كمؤشر للتقدم الثقافي والحضاري، وكان إنشاء الدوري المصري لكرة القدم مثالاً على ذلك.
مع التأسيس المبكر لأندية كرة القدم العريقة مثل الأهلي والزمالك، فإن إنشاء الدوري الوطني خلق مجالًا جديدًا لتعاطي مسائل الهوية الوطنية والطبقة الاجتماعية والحراك الاقتصادي وتوزيع السلطة السياسية. ويعكس النجاح أو الفشل على أرض الملعب منافسة شرسة بين المؤسسات الرياضية الناشئة للوصول إلى الموارد واللاعبين الواعدين وقلوب المشجعين المصريين في جميع أنحاء البلاد.
علاقات متوترة
لم يكن مفاجئًا أنه في أعقاب صعود جمال عبد الناصر إلى السلطة في مصر ما بعد الاستعمار، أصبحت كرة القدم مرة أخرى ساحة للصراع السياسي، هذه المرة بين المواطنين المصريين ونظام استبدادي ناشئ سعى إلى إحكام سيطرته على حياة الملايين من المعجبين المتحمسين. ومع ارتفاع شعبيته، تم تعيين عبد الناصر رئيسًا فخريًا للأهلي ثم سرعان ما عَيّن مسؤولًا عسكريًا يثق به لرئاسة الاتحاد المصري لكرة القدم.
وبعد فترة وجيزة، ساهم عبد الناصر في إنشاء الاتحاد الأفريقي لكرة القدم سنة 1957، وافتتح كأس الأمم الأفريقية في وقت كانت فيه مصر تواجه عزلة دولية بعد تحديها القوى الاستعمارية السابقة بريطانيا وفرنسا. رفعت مصر الكأس في البطولة الأولى، وفازت حتى الآن بسعة كؤوس أفريقية أكثر من أي دولة أخرى.
بمرور الوقت، عرضت الدول بشكل متكرر أجنداتها السياسية على فرق كرة القدم الوطنية الخاصة بها. وفي كأس العالم 1998 بفرنسا، لُعبت مباراة في دور المجموعات بين إيران والولايات المتحدة في فترة من العداء بين البلدين يعود تاريخه إلى الثورة الإيرانية لسنة 1979. وقد شهدت الاستعدادات للمباراة، التي فازت بها إيران بنتيجة 2-1 بطريقة دراماتيكية، حضورًا إعلاميًا مكثفًا سلط كل أضوائه وشحذ المشاعر السياسية التي عكسها المشجعون من كلا الجانبين، في حين حاول رؤساء الدولتين الأمريكية والإيرانية اغتنام الفرصة لإبداء بعض نوايا المصالحة وطيّ الخلافات وتجاوز العلاقات المتوترة.
وبالمناسبة، ستلتقي إيران والولايات المتحدة مرة أخرى في استاد الثمامة القطري في مرحلة المجموعات في وقت لاحق من هذا العام. وفي خضمّ التنافس الإقليمي المتصاعد والمحاولات غير المتوقفة لإعادة استئناف الاتفاق النووي الإيراني من المؤكد أن اللقاء بين المنتخبين سيكون أكبر من مجرد مباراة.
التعبئة الشعبية
إلى جانب محاولات دعم الحكام الاستبداديين أو تحدي الدول المنافسة، تم التحجّج أيضًا بالشغف بكرة القدم في ممارسات التعبئة الشعبية. خلال الانتفاضات العربية سنة 2011، لعبت مجموعات مشجعي كرة القدم مثل “الأهلاوي ألتراس” في القاهرة دورًا مهمًا في الاحتجاجات الجماهيرية التي واجهت نظام حسني مبارك، وأظهرت استماتة كبيرة في مواجهة قوات الأمن وتحدي سلطة الدولة.
وفي الآونة الأخيرة، أدرجت مجموعات الحراك الاحتجاجية في الجزائر – التي سعت إلى منع الدكتاتور المريض عبد العزيز بوتفليقة من الترشح لولاية رئاسية خامسة على التوالي – الهتافات الجماهيرية والأغاني الشعبية وعروض التيفو المرئية التي عادة ما تكون مخصصة للمباريات في احتجاجات الشوارع المناهضة للنظام.
كما استغلت حركة “المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات”، التي أطلقها المجتمع المدني الفلسطيني، نداء كرة القدم العالمية لدعوة المشجعين والأندية والمنتخبات الوطنية والرعاة إلى تنفيذ المقاطعة الثقافية لإسرائيل ردًا على استمرار احتلالها للأراضي الفلسطينية وانتهاكاتها لحقوق الإنسان.
وعلى خطى المقاطعة الرياضية التي استهدفت نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا، نجحت حركة المقاطعة المساندة لفلسطين في تسليط الضوء على محنة الفلسطينيين جزئيًا من خلال حملات مثل الإلغاء الناجح لمباراة الأرجنتين وإسرائيل، ودعوة الفرق والمشجعين إلى مقاطعة شركة “بوما” حتى توقف رعايتها لفرق متمركزة في المستوطنات الإسرائيلية.
ويجادل العديد من الباحثين في كتاب “كرة القدم في الشرق الأوسط” بأن مراقبة دور كرة القدم في المجتمع يمكن أن تعطي صورة مفيدة عن القضايا الأعمق التي تؤثر على الشعوب، بخلاف تأثيرها على اللاعبين والمشجعين.
لا يزال اللاجئون الذين فروا إلى لبنان بعد الطرد الإسرائيلي القسري لمئات الآلاف من الفلسطينيين في سنة 1948 يقيمون بلا جنسية ومحرومون من العديد من الحقوق الأساسية ومن الوصول إلى عشرات المهن المحددة. وقد أضفى الدوري اللبناني لكرة القدم طابعًا مؤسساتيًا على هذه الممارسات التمييزية من خلال وضع حصص على عدد اللاعبين الفلسطينيين في كل نادٍ، وحتى حرمانهم من فرصة اللعب كما هو الحال بالنسبة لحراس المرمى.
التمييز بين الجنسين
إضافةً إلى ما سبق، قد تكون كرة القدم وسيلة لكشف وتحدي التمييز بين الجنسين. في تركيا، مثلًا، واجهت لعبة السيدات معاملة غير متكافئة مما أدى إلى تعرض لاعبات كرة القدم لتفاوت كبير في الأجور وعدم كفاية الرعاية الطبية والوصول المحدود إلى المرافق وانعدام الأمن الوظيفي، مقارنة باللاعبين الرجال. وفي إيران، تم تحدي حظر المشجعات في الملاعب ليس فقط من قبل الفيفا ومنظمات حقوق الإنسان الدولية، وإنما أيضا من قبل المتفرجين الإيرانيين أنفسهم في سلسلة من المواجهات المتوترة.
ساعدت الفترة التي سبقت كأس العالم 2022 في تسليط الضوء على عدد من القضايا ذات الأهمية في منطقة الخليج على وجه الخصوص، ومن بينها قضية اللاعبين المجنسين. ولاعبو المنتخب القطري الذين سيشاركون في بطولة كأس العالم هذا العام، يعتبرون مواطنين قطريين كاملين، ومقيمين منذ فترة طويلة في الدولة، ومواطنين متجنسين قدموا من أماكن أخرى. ومع ذلك، سواء كان ذلك في المقابلات الإعلامية أو المنشورات على وسائل التواصل الاجتماعي أو الاحتفالات على أرض الملعب غالبًا ما تطغى قضية الهوية الوطنية على المفاهيم المتعلقة بالهوية والمواطنة في دول الخليج.
بخصوص مسألة حقوق العمال المهاجرين، كشفت الاستعدادات لكأس العالم للجمهور العالمي عن انتهاكات في نظام الكفالة الذي ينظم علاقات العمل في الخليج. فبينما تشرف سلطات الدولة وشركات البناء العالمية ووكالات التوظيف على مشاريع كبرى من ملاعب ومنشآت تدريب إلى فنادق ونظام مترو على مستوى المدينة، تعالت حملة ضغط دولية لحث قطر على إصلاح ممارساتها العمالية، ممّا دفع بالحكومة القطرية إلى الإعلان عن سلسلة من الإصلاحات في سنة 2017. ثم في العام الذي يليه، تم افتتاح مكتب لمنظمة العمل الدولية في الدوحة، حيث رصدت تغييرات ملموسة في ظروف العمال المهاجرين.
صعود دول الخليج
أصبحت كأس العالم 2022 ترمز إلى الدور الذي تلعبه الدول الغنية بالسيولة المالية، من خلال إحداث تغيير في مركز الثقل في كرة القدم العالمية. وقد شهد العقدان الماضيان تحولات مهمة في الرياضة مع زيادة عولمة اللعبة وتطويرها.
مثّل شراء نادي مانشستر سيتي لكرة القدم في سنة 2008 من قبل مجموعة استثمارية إماراتية، ثم استحواذ صندوق قطر للاستثمار على نادي باريس سان جيرمان إلى بداية حقبة جديدة لدول الخليج، التي أصبحت لاعبًا رئيسيًا في البطولات الأوروبية الكبرى. وإلى جانب النتائج الميدانية، استفادت هذه الدول من ثرواتها في السعي وراء دبلوماسية القوة الناعمة والمصالح الجيوسياسية.
في سنة 2015، ذكرت صحيفة “الغارديان” البريطانية أن أعضاء المكتب المسيّر لمان سيتي قد ضغطوا على الحكومة البريطانية لفتح تحقيق ضد جماعة الإخوان المسلمين، فيما اعتُبر امتدادًا لحملة الحكومة الإماراتية على مستوى المنطقة ضد الحركة. كما أثار استحواذ صندوق الاستثمارات العامة السعودي على نادي نيوكاسل يونايتد مؤخرًا ادعاءات بأن النظام كان متورطًا في غسيل أموال رياضي، لا سيما في ظل الأحداث الأخيرة من انتهاكات حقوق الإنسان في الداخل والخارج.
من جهة أخرى، احتلت الحرب على حقوق بث كرة القدم مركز الصدارة خلال حصار قطر من قبل الدول المجاورة الذي بدأ في سنة 2017، حيث تم إطلاق قناة قرصنة مقرها في المملكة العربية السعودية تسمى “بي آوت كيو” التي بث المباريات على مدى عامين مما كبّد شبكة “بي إن سبورتس” الرياضية القطرية – التي تمتلك حقوق البث لمسابقات كرة القدم الأكثر مشاهدة في العالم – خسائر كبيرة.
أمام هذه المعطيات، من المرجح أن يكون مستقبل كرة القدم في الشرق الأوسط أكثر تشابكًا مع التطورات السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية في المنطقة. ونظرًا لأن انتشار هذه اللعبة الجميلة يتوسع أكثر فأكثر في المجتمعات ويصبح أكثر ارتباطًا بمصالح الدول والشركات، فمن المؤكد أنها ستثير أسئلة جديدة بشأن الاستهلاكية والاستدامة والمصالح الوطنية وحقوق العمال واستقرار الأنظمة والحريات السياسية. وبما أن صعود وهبوط هذه اللعبة يتردد صداه إلى خارج الملعب، سيصبح من الواضح للجميع أن كرة القدم أكثر من مجرد لعبة.
المصدر: ميدل إيست آي