شكّل اغتيال زعيم القاعدة، أيمن الظواهري، ضربة موجعة للتنظيم، ربما تكون هي الأكثر إيلامًا منذ مقتل قائده ومؤسسه أسامة بن لادن قبل 11 عامًا، ورغم استهداف العديد من قيادات القاعدة على مستوى ولاياتها في حواضنها الجهادية، سوريا والعراق وأفغانستان والصومال، فإن العملية الأخيرة من المرجح أن يكون لها تداعيات مغايرة تمامًا مقارنة بنظيراتها خلال العقد الأخير.
لم يكن الظواهري زعيمًا للتنظيم فحسب، تلقى تعليمه على يد أستاذه بن لادن وتشرب القيادة الفرعية والمركزية من قيعانها منذ أن كان عضوًا عاديًا حتى وصل إلى المتحدث باسم القاعدة وصولًا لزعامتها فقط، بل كان رمانة الميزان التي يتسند إليها هذا الكيان رغم الخناق الذي يتعرض له طيلة السنوات الماضية.
وبمقتله الذي ربما لم يكن مفاجئًا للكثيرين في ضوء عدد من المؤشرات، ربما ينفرط عقد التنظيم الأكثر تماسكًا منذ تسعينيات القرن الماضي، وتتفتت أركانه التي ظلت لسنوات عدة المرتكز الأساسي لنشأة العديد من التنظيمات المسلحة الأخرى، ليبقى السؤال: هل انتهت القاعدة للأبد؟ وهل كتب مقتل الظواهري شهادة وفادة التنظيم؟
ماذا خسرت القاعدة باغتيال الظواهري؟
المتابع لنشاط القاعدة خلال السنوات الأخيرة يلاحظ أن التنظيم يعاني من خمول واضح على الجبهات كافة، ويعود ذلك إلى تجفيف منابع التمويل والاستقطاب معًا، بجانب تراجع نفوذه لصالح خصومه من حلفائه السابقين وعلى رأسهم تنظيم الدولة “داعش” وهو ما أفقده الكثير من الزخم.
هذا التراجع الواضح في التمدد الأفقي كان له تأثيره البيّن على تمدده الرأسي، إذ يعاني التنظيم من فقدان كوادره وقياداته التي كان يؤمل عليها في استعادة حضوره القديم، حتى إنه فقد الأسماء التي كانت تُعد لخلافة الظواهري حال تعرضه لأي طارئ بعد التسريبات التي كانت تشير إلى مقتله قبل سنوات، وعلى رأسهم أبو الخير المصري الذي قتل في سوريا في فبراير/شباط 2017 على أيدي الأمريكان، كذلك أبو محمد المصري (نائب الظواهري وساعده الأيمن) الذي استهدف رفقة ابنته زوجة حمزة بن لادن، في أكتوبر/تشرين الأول داخل إيران.
وفي ظل تلك الوضعية كان الظواهري عمود الخيمة الذي أبقى على القاعدة كتنظيم مسلح على الساحة الدولية، ورغم ما كان يعاني منه من أمراض حالت دون مشاركته في أي عمليات أو أنشطة مسلحة، كان وجوده حيًا بين أعضاء التنظيم له من التأثير المعنوي ما أبقى على تماسك الكيان ولو تماسكًا ظاهريًا.
وعليه فإن خروج الظواهري من المعادلة سيكون بمثابة “هزيمة نفسية ثقيلة” على التنظيم الذي من المتوقع أن يسير نحو آتون الانزلاق أكثر وأكثر خلال المرحلة المقبلة، ليواصل نزيف الثقل والنفوذ الذي تأثر كثيرًا خلال السنوات العشرة الماضية وباتت القاعدة اسمًا أكثر منه كيانًا حاضرًا ذا تأثير يقلق الجميع كما كان في السابق، ما يدعو للتساؤل عما تبقى من التنظيم بعد الضربات المتلاحقة التي تعرض لها وما زال.
ماذا تبقى من التنظيم؟
نجح التنظيم الذي تأسس خلال مرحلة الجهاد الأفغاني في الفترة بين أغسطس/آب 1988 وأوائل 1990، بهدف محاربة الشيوعيين خلال الغزو السوفيتي لأفغانستان، في توسيع قاعدته الرأسية والأفقية على حد سواء، إذ كان حينها قبلة للكثير من المقاتلين، وسط دعم كامل من قوى الغرب وعلى رأسهم الولايات المتحدة.
فعلى المستوى الرأسي، استطاعت القاعدة تدشين هيكل تنظيمي أشبه بالكيانات الدولية الكبرى، بدءًا من أمير للتنظيم يساعده هيئة عمليات بمعاونة مجلس شورى يتألف من كبار الأعضاء وأكثرهم علمًا، ثم لجان متعددة تتولى كل منها قطاع بعينه، فهناك لجنة عسكرية مسؤولة عن التدريب وتوفير الأسلحة ووضع الخطط، كذلك لجنة مالية مهمتها توفير الغطاء النقدي والمالي للتنظيم وتذليل كل العقبات المادية أمام نشاط الأعضاء، هذا بخلاف لجنة الشريعة الموكلة بتطبيق مسارات العمل بالشريعة بجانب لجنة الدراسات الإسلامية والفتاوى المخولة بإصدار الفتاوى وأبرزها فتوى جواز قتل المسلمين للأمريكان في عام 1998، وفي أواخر التسعينيات تقريبًا تم تشكيل لجنة الإعلام والعلاقات العامة، المتخصصة في إصدار البيانات والمواد المصورة الخاصة بالتنظيم ونشاطاته.
ثمّة خيط رفيع يربط بين الأسماء الأربع المرشحة لخلافة الظواهري، فجميعهم تربى في كنف إيران، على مرأى ومسمع من قادتها، فبينما كان العالم يلفظهم كانت طهران حاضنتهم العسكرية والمادية واللوجستية
وعلى المستوى الأفقي فقد اتسعت رقعة القاعدة التي لم يكتف نفوذها بالداخل الأفغاني فقط، إذ انتشرت فروعها في العديد من المناطق، منها بلاد المغرب العربي الذي تأسس في 2006، وفرع القاعدة في شبه الجزيرة العربية الذي تأسس في 2009 في اليمن والسعودية، كذلك فرعها في شبه القارة الهندية الذي تأسس في 2014 وتتسع أنشطته لتشمل أفغانستان وباكستان والهند وميانمار وبنغلاديش، فضلًا عن فرعها في مالي وغرب إفريقيا الذي تشكل عام 2017.
وفي السودان كان للقاعدة حضور كبير بين عامي 1992 و1996، حين استضاف حسن الترابي قائد التنظيم أسامة بن لادن، وخلال تلك الفترة قدم زعيم القاعدة مساعدات كبيرة للحكومة السودانية، كما أقام معسكرات لتدريب المقاتلين وأنشأ عددًا من مؤسسات الأعمال، الأمر ذاته في العراق حيت تمددت الجماعة بشكل واضح.
وخلال العقد الأخير تعرض التنظيم لتضييق خناق على أعلى مستوى، أصابه بحالة من الشلل التام، ما نجم عنه فقدانه لنفوذه في معظم – إن لم يكن كل – مناطق السيطرة التي كان يهيمن عليها سابقًا، وانزوى به الحال اليوم في بعض النقاط الضعيفة في بعض المناطق في أفغانستان وإيران، بعدما قلمت أظافره في بقاع نفوذه القديمة، ورغم ذلك كان بقاء الظواهري بعلاقاته القوية وشبكة نفوذه الممتدة عامل الأمان الذي أبقى على التنظيم، لكن بعد وفاته فالأمور من المرجح أن تسير نحو موت سريري محتمل، ما لم تظهر على السطح حاضنة جديدة تضع القاعدة على جهاز التنفس مرة أخرى لتبقي عليها حية حتى إشعار آخر، لكن وجود مثل تلك الحاضنة لن يكون مجانًا بطبيعة الحال، فالأمر مكلف للغاية ويحتاج إلى مقابل يعوض تلك الفاتورة المرتفعة.
هل تكون إيران الحاضنة الجديدة؟
قبل الإجابة عن هذا السؤال نلقي الضوء على أبرز الأسماء المرشحة لخلافة الظواهري في زعامة التنظيم، ورغم تعددها، فإن أبرزها يتمحور في عدة شخصيات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة، على رأسهم محمد صلاح الدين زيدان، المعروف باسم “سيف العدل المصري”، أحد أبرز القادة المؤثرين في مسيرة القاعدة، الذي بدأت علاقته بالكيان في تسعينيات القرن الماضي حين التقى بأسامة بن لادن في السودان.
حينها طلب منه الإيرانيون تدريب عناصر التنظيم في السودان على استخدام المتفجرات، كما توسط لدى النظام الإيراني لتدريب أفراد القاعدة في لبنان على يد الجنرال عماد مغنية، أحد أبرز القادة في مليشيا “حزب الله”، ونظرًا للدور المحوري الذي قام به سيف العدل تعززت علاقته بشكل قوي مع طهران، حيث تم تكليفه بإدارة ملف علاقات التنظيم مع إيران.
أما المرشح الثاني فهو صهر الظواهري وأحد أقرب مساعديه، محمد أباتي المعروف بـ”عبد الرحمن المغربي” الذي كان يلقب بـ”ثعلب القاعدة” واستطاع على مدار سنوات طويلة خداع الأمريكان، إذ أوهمهم بأنه قُتل ليسقط من قائمة المستهدفين لدى المخابرات الأمريكية ما ساعده على التحرك بأريحية بين الدول، حتى استقر في إيران التي ارتمى في أحضانها وترعرع داخل كنفها وظهر للأضواء بعد سقوط طالبان في أفغانستان عام 2001، وفق ما نشر “نون بوست” في تقرير سابق.
الاسم الثالث الذي فرض نفسه على بورصة التكهنات هو عز الدين عبد العزيز خليل، المعروف بـ”ياسين السوري”، ولد في القامشلي شمال سوريا عام 1982، ويعد واحدًا من أبرز قادة القاعدة المرتبطين بإيران، وله دور محوري في توفير الدعم اللوجستي للتنظيم، فكان المشرف الرئيسي على عمليات نقل الأموال والمقاتلين من مختلف الدول العربية إلى الأراضي الإيرانية، ومنها إلى باكستان مسرح عمليات وأنشطة القاعدة، ويقيم فوق الأراضي الإيرانية منذ عام 2005 وله علاقات وثيقة بالعديد من القادة العسكريين الإيرانيين، وقد أدرجته الولايات المتحدة على لوائح الإرهاب في يوليو/تموز 2011.
لا ينكر أحد أن القاعدة في أضعف مراحلها حاليًّا منذ تأسيسها قبل 32 عامًا، إذ فقدت كل نفوذها في معظم المناطق التي كانت تهيمن عليها، بجانب فقدانها لمصادر التمويل
هناك أيضًا سلطان يوسف حسن العارف، الشهير بـ”قتال العبدلي”، المولود في جدة عام 1986 ويحمل الجنسية السعودية، وقد انضم للقاعدة بعد سقوط حكم طالبان في أفغانستان عام 2001، واتخذ من طهران مأوى له على مدار سنوات، وشارك في العديد من العمليات أبرزها المتعلقة باستهداف المصالح الأمريكية، وقد وقعت عليه الخارجية الأمريكية عقوبات عام 2021 في ضوء استهداف قادة القاعدة المقيمين في إيران.
ثمّة خيط رفيع يربط بين الأسماء الأربع المرشحة لخلافة الظواهري، فجميعهم تربى في كنف إيران، على مرأى ومسمع من قادتها، فبينما كان العالم يلفظهم كانت طهران حاضنتهم العسكرية والمادية واللوجستية، ومن ثم يرى البعض أن إيران أعدت العدة مسبقًا للهيمنة على التنظيم مبكرًا جدًا، ونجحت في إعداد العديد من الأسماء القادرة على خلافة الظواهري حال تعرضه لأي أزمة او استهداف، ومن بينهم الباحث في الشأن الإيراني إسلام المنسي، الذي وصف قادة القاعدة في إيران بأنهم قد “أصيبوا بما لا يمكن وصفه إلا بـ”متلازمة طهران”، فطوال سنوات عديدة لم يستنشقوا إلا هواء إيران ولم يشربوا إلا مياهها حتى صار ولاؤهم لها ولم يعودوا يعرفون لهم وطنٌ سواها، وأضحت طهران عاصمة التنظيم الدولي للقاعدة”.
لافتًا إلى أنه “بعد عقدين تقريبًا من احتماء التنظيم ببلادهم – في إشارة إلى إيران – أصبح لهم عليه الكلمة النافذة بشكل غامض حتى بالنسبة لمنتسبي التنظيم أنفسهم، الذين يجهلون الوجهة التي يُساقون إليها بعد ارتماء قادتهم في قبضة طهران وارتهانهم لقرارها” على حد قوله.
وعلى الجانب الآخر، يرى الباحث جيروم دريفون، محلل الأزمات الدولية في موقع “ميدل إيست آي” المتخصص في قضايا الشرق الأوسط، أن تعيين زعيم للقاعدة من القادة المقيمين في إيران سيعزز التوترات بين واشنطن وطهران في ظل تعثر مفاوضات الاتفاق النووي الحاليّة، مضيفًا أن العديد من الشخصيات ذات الحيثية استهدفت داخل الأراضي الإيرانية منها قادة للتنظيم ذاته كما حدث مع أبو محمد المصري الذي تم تصفيته على أيدي عملاء إسرائيليين بأوامر عليا من واشنطن عام 2020، هذا بجانب قتل عدد من العلماء النوويين الإيرانيين على أيدي الاستخبارات الإسرائيلية، وعليه لا يستبعد استهداف أي قادة محتملين للقاعدة داخل إيران.
هل انتهت القاعدة؟
يزداد وضع التنظيم سوءًا عامًا تلو الآخر، لكنه رغم كل ذلك كان متماسكًا في ضوء الضمانات التي كان يوفرها الظواهري، لكن بعد رحيله خرجت بعض التكهنات التي تشير إلى أن التنظيم انتهى بشكل رسمي، لكن هذا الرأي ربما يكون متسرعًا نسبيًا في ضوء بعض الحسابات والمؤشرات المرحلية.
لا ينكر أحد أن القاعدة في أضعف مراحلها حاليًّا منذ تأسيسها قبل 32 عامًا، إذ فقدت كل نفوذها في معظم المناطق التي كان تهيمن عليها، هذا بجانب فقدانها لمصادر التمويل والدعم، والملاحقات الدولية التي تتعرض لها، كما أنها فقدت كذلك زخمها كتنظيم يمكن توظيفه لتحقيق أجندات ما بين الحين والآخر في ظل نشأة كيانات أخرى أكثر شراسة وحضورًا وتأثيرًا.
من المرجح أن تُبقي طهران على القاعدة في إطارها الضيق، الدعم المحدود الذي يبقيها على قيد الحياة ولو عبر أجهزة التنفس الصناعي، مع ممارسة كل أنواع الضغوط التي تضمن عدم تورطها في أي أعمال من شأنها أن تحرجها دوليًا
لكن ذلك لا يعني أن التنظيم بكل ما كان لديه من حضور وقاعدة شعبية قد ألقى بمنديله معلنًا نهايته حتى إن كان من فوق سرير وفاته الإكلينيكية، وإن كانت القاعدة لا تملك حاليًّا الإمكانات التي تؤهلها لتنفيذ هجمات واسعة النطاق في الدول الغربية انتقامًا لمقتل زعيمها لكنها ستبقي على وضعيتها الحاليّة ككيان دون مخالب حول تركيزه إلى القضايا المحلية بعدما فقد بريقه الدولي، وفق دريفون.
وفي المقابل فإن إيران وبعد سنوات الدعم التي قدمتها لقادة القاعدة حتى باتت تهمين عليهم بشكل كبير لا يمكنها التخلي عنهم بالكلية، وفي الوقت ذاته هي تعي جيدًا تداعيات إعلانها بشكل مباشر ورسمي عن دعمها لهذا التنظيم، فذلك من شأنه أن يعقد حساباتها الخارجية ويزيد من تهديد مصالحها الدولية وعلى رأسها الاتفاق النووي مع الولايات المتحدة.
ومن ثم فمن المرجح أن تُبقي طهران على القاعدة في إطارها الضيق، الدعم المحدود الذي يبقيها على قيد الحياة ولو عبر أجهزة التنفس الصناعي، مع ممارسة كل أنواع الضغوط التي تضمن عدم تورطها في أي أعمال من شأنها أن تحرج إيران دوليًا، على الأقل في هذا التوقيت، لتحتفظ بها كورقة ضغط محتملة من الممكن توظيفها – كيانًا وأفرادًا – إذا ما تطلب الأمر مستقبلًا، في ضوء التجييش الإقليمي والدولي ضدها بقيادة “إسرائيل”، وهو التصور الأقرب في ضوء خريطة التوازنات الحاليّة التي فرضت تموضوعات جديدة على القوى كافة.