خلال العقدَين الماضيَين تنفّست الجماعات الدينية والطرق الصوفية الصعداء وعادت للعمل بحرية أكبر في تركيا، بعد عقود من معاداة الدولة التركية لهذه الجماعات ومحاربتها لها منذ تأسيس مصطفى كمال أتاتورك للجمهورية الحديثة القائمة على الخصومة مع إرث السلطنة العثمانية وقيمها الإسلامية.
خلال ما يزيد على نصف قرن، حاولت الجماعات الدينية الحفاظ على تواجدها من خلال العمل السرّي تارة والالتفاف على القوانين تارة أخرى، حتى أتى حزب العدالة والتنمية المحافظ لحكم البلاد وتركها تمارس شعائرها وطقوسها بحرية.
في هذا التقرير نلقي نظرة على أهم الجماعات الصوفية في تركيا، وتاريخها، وتأثيرها على الحياة الاجتماعية والسياسية الاقتصادية.
من الخلافة إلى الجمهورية
لعبت الجماعات الصوفية دورًا كبيرًا خلال حكم الدولة العثمانية، لم يكن ذلك الدور مقتصرًا على المساجد والتكايا، بل توسّع إلى أروقة الحكم والسلاطين، حتى إن بعض الشخصيات السياسية اعتمدت على هذه الجماعات وشيوخها لتثبيت دعائم حكمها، لكن ظاهريًّا كانت تستخدَم لتمثيل الدين الإسلامي الذي تقوم الدولة بحمايته والعمل بمقتضى تشريعه.
وقرن بعد آخر، وصل بعض من أتباع النقشبندية والمولوية والخلوتية إلى المناصب الإدارية للدولة، وكذلك العسكرية، وقد يكون الشيخ آق شمس الدين أبرز مثال على المكانة السياسية التي استطاع الصوفيون حيازتها في عهد الإمبراطورية.
ويعدّ الشيخ هو “الفاتح المعنوي” للقسطنطينية، كما يُعرَف بدوره في تربية السلطان محمد بن مراد الثاني الملقّب بـ”الفاتح”، وتشجيعه الدائم له على خوض معركة الفتح، إضافة إلى دعوة الجنود للتحلّي بالسماحة واتّباع مبادئ الشريعة الإسلامية بعد المعارك.
رغم ذلك الترابط القوي بين الدولة العثمانية والطرق والجماعات الصوفية، إلا أنها كانت متوترة في بعض الأحيان، وكما أن أركان الدولة العثمانية احتاجت وقتًا طويلًا لتثبت نفسها وحضورها عالميًّا، كذلك مرّت الطرق بعدة أطوار في كنف السلطنة قبل أن تأخذ شكلها المجتمعي والسياسي، وهذا ما يذكره المؤرخ التركي خليل إينالجيك في كتابه “تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الانحدار“، في الفصل الذي يتحدث فيه عن الثقافة الشعبية والطرق الصوفية.
شاركت الكثير من الجماعات الإسلامية إلى جانب مصطفى كمال أتاتورك خلال حرب الاستقلال وتأسيس الجمهورية، كان خيار مصطفى كمال الأوّلي الحفاظ على الخلافة كمؤسسة دينية شبيهة بوضع الفاتيكان، لكن الضغوط الإسلامية المتصاعدة للحفاظ على الخلافة جعلت حكومة مصطفى كمال تستشعر خطر النشاطات الإسلامية على شؤون الجمهورية، وسعى بالتالي إلى التخلص من الخلافة.
وجاءت اللحظة الحاسمة في مارس/ آذار 1924، عندما أخذ المجلس الوطني قرارًا بإلغاء الخلافة وكل المؤسسات المرتبطة بها، مثل مؤسسة شيخ الإسلام.
لم يكن الأمر مقبولًا من الجماعات الإسلامية في تركيا، لكن غالبها رضخ للأمر الواقع، إلا أن ثورة اشتعلت ضد أتاتورك قادها الشيخ النقشبندي سعيد بيران عام 1925، هذه الثورة يختلف المؤرخون في الحديث عنها، فمنهم من يقول إنها ذات نزعة قومية انفصالية، حيث الشيخ بيران كردي قاد هذه الثورة بقصد الانفصال عن الدولة، لكن قسمًا آخر من المؤرخين يجزمون بأنها ثورة قامت على أساس ديني لإعادة الخلافة إلى الدولة.
مطلع فبراير/ شباط عام 1925، بدأت ثورة الشيخ سعيد في ناحية إييل التابعة لمدينة دجلة بولاية ديار بكر، وصف الشيخ الجمهورية التركية بالطاغوت الذي هدم ركائز الخلافة الإسلامية، ولا بدَّ من التمرد عليه لإعادة تأسيس الخلافة الإسلامية في بلاد الأناضول، ولاقى دعمًا كبيرًا من بعض عشائر جنوب شرق تركيا، لكنه فشل بعد إعلان الحكومة التركية حالة الطوارئ في المناطق التي ظهر فيها والقضاء عليه بحلول نهاية أبريل/ نيسان من العام نفسه.
في الوقت ذاته، رفضَ الشيخ الكردي سعيد النورسي (بديع الزمان النورسي) الانخراط في صفوف ثورة الشيخ بيران، واتخذ موقف الحياد، لكن حكومة أتاتورك اتهمته بدعم ذلك التمرد وحاكمته ووضعته في السجن ونفته، ورغم ذلك استطاع النورسي أن يبقي أفكاره متقدة ويكتبها فيما بات يعرَف بـ”الكتاب الأحمر” أو “رسائل النور”.
استكمل أتاتورك إجراءاته ضد الدين في البلاد، حيث أمرَ بحلّ الطرق الصوفية وحظر نشاطها، كما أغلق مدارسها في مايو/ أيار 1928، لتدخل بعدها الجماعات الصوفية في مرحلة العمل السري حتى عقد الخمسينيات الذي شهد انفراجة نسبية.
رغم التضييق الأتاتوركي على الجماعات الدينية، فإن أتباع بديع الزمان لم يتوقفوا عن الالتفاف حول شيخهم سرًّا وطباعة كتبه وتدارس القرآن وأمور الدين، ولم يكن أحد يعلم أن جماعة النورسية ستتفرع وتتمدد ويصبح أتباعها بمئات الآلاف بعد عقود.
كان أتاتورك واضحًا تجاه كل الجماعات والطرق الدينية، بل كان واضحًا تجاه الدين بشكل عام، فـ”جمهورية تركيا لا يمكن أن تكون أرض الشيوخ والدراويش والتابعين والأخوة المتدينين، فالطريق الأكثر استقامة وقانونية هو طريق الحضارة”.
عملت الجماعات الإسلامية سرًّا في البلاد لسنوات طويلة حتى تنظيم أول انتخابات تعددية، عمدت الطرق والجماعات الإسلامية إلى الترويج والتصويت للحزب الديمقراطي الأقل عدائية للدين، ففاز رئيسه عدنان مندريس برئاسة الحكومة التركية عام 1950، وما كان منه إلا أن عمل على ردّ الجميل لمن ساهم في إيصاله للحكم، فاهتمَّ بإعادة بعض رموز الدين إلى الفضاء التركي العام، وشجّع الطرق الدينية على العودة إلى لعب دورها الاجتماعي والدعوي.
كما أنه أرجع الآذان إلى اللغة العربية عام 1952، بعد أن تمَّ تحويله إلى اللغة التركية في عهد أتاتورك، إضافة إلى أنه سمح بتعلم اللغة العربية وبالسفر إلى الديار المقدسة لأداء فريضة الحج، بعد منع استمرَّ 27 عامًا متتالية خلال حكم حزب الشعب الجمهوري، وهي الإجراءات التي دفع ثمنًا لها حياته.
ظهور غولن
بشكل غير مباشر بدأت تتسلل بعض الحركات الصوفية للعمل بالشأن العام، خاصة بعد ما رأوه من نجاح عدنان مندريس وقدرته للوصول إلى الحكم، فرأوا أنه من الضروري أن ينظموا أنفسهم اقتصاديًّا واجتماعيًّا، ما أثّر بشكل لافت بعد عقود، وباتت هذه الجماعات تعتمد على دعم رجال الأعمال وأصحاب الأموال الذين خرجوا من صلبها، وحينها استطاعت الجماعات تلك تأسيس نوادٍ ثقافية وفكرية للتجمعات.
تأسّست هذه النوادي لأن الحكم العلماني في تركيا يمنع تأسيس الجمعيات الدينية ولا يسمح بالتكايا والزوايا، كما وصل المنع إلى اللباس والزي الإسلامي، ومع انطلاقة هذه النوادي الفكرية في مجمل المدن، عزّزت الجماعات تنظيمها وتواصلها مع المثقفين والعلماء ونشر الأفكار.
وفي بداية أمرها تماهت هذه النوادي مع الدولة تمامًا، لكنها بعد سنوات استطاعت زرع أفكارها والتأثير في المجتمع بعد أن انتقلت من الحالة النخبوية إلى عموم الشعب، ومع كل المحاذير والمخاطر استمرت الجماعات الدينية على ما هي عليه.
في غضون ذلك بدأ نجم الداعية فتح الله غولن بالبروز، وهو المنحدر من الجماعة النورسية التي أسّس لها الشيخ سعيد النورسي في العهد الأتاتوركي، تعلّم غولن في صفوف الجماعة وأخذ بقواعدها، فشكّل أحد فروع الطريقة النورسية.
ولم يمضِ وقت طويل حتى استطاع الرجل تأسيس مساكن للطلبة الدارسين في المؤسسات التعليمية التركية، ثم توسع نشاطه وبدأ بفتح المدارس والجامعات، ثم بدأ بالدخول في الإعلام ليؤسّس قنوات فضائية وصحفًا، وباتت جماعته تعرَف بـ”جماعة الخدمة”.
استطاع غولن أن “يعيد الهيبة للجماعات الصوفية”، إذ أدخلَ هذه الجماعات في صلب العمل الاجتماعي والرعائي والخدماتي، كما يذكر الباحث جو حمورة في بحثه تحت عنوان “الغازي والدراويش: الطرق الصوفية التركية ترث غولن”، يقول حمورة: “بات يوصف غولن بـ”الخوجا أفندي” بين أنصاره، ويقارن بينه وبين الرهبانية اليسوعية العالمية في الإعلام الغربي، في إشارة إلى قدرته الضخمة على التأثير”.
يتابع حمورة حديثه قائلًا: “عزز غولن من إمبراطوريته الخدماتية بشكل كبير عندما وسّع نشاطه التربوي خارج البلاد، وذلك حين أنشأ عشرات المدارس في دول القوقاز، كما في الدول الأوروبية التي يسكنها منحدرون من أصول تركية”، ويذهب حمورة إلى أن عمل الطرق الصوفية السرّي والعلني أدّى إلى إبعاد الناس عن العلمانية، وسحب بعض الشرعية والشعبية من الحكام والعسكر.
فيما بات الأتراك، مع نهاية القرن الماضي، في حالة غربة عن علمانية الدولة بعدما أشبعتهم الطرق الصوفية ومؤسساتها الاجتماعية والثقافية والتربوية بالعقائد الدينية، وهو من الأسباب التي جعلت حزب العدالة والتنمية يتصدر المشهد.
العدالة والتنمية والانقلاب
تغيّر المشهد في تركيا بعد وصول العدالة والتنمية إلى سدة الحكم برئاسة رجب طيب أردوغان القادم من فضاء الإسلام السياسي، حيث كان قدوم أردوغان نصرًا كبيرًا للجماعات الدينية التي بدأت في عهده بالتحرر والانعتاق من الكمالية التي حاربتهم أشد حرب، ويعلم أردوغان تمامًا أن هؤلاء كانوا سببًا من أسباب وصوله ونجاحه، إذًا المنفعة مشتركة والتعامل سيختلف يومًا بعد آخر.
سنوات وتندلع الخلافات بين جماعة فتح الله غولن والحكومة التركية، فالتحالف تحول إلى حرب سرية في أجهزة الدولة، ورغم أن العدالة والتنمية صعد إلى الحكم بتأييد مطلق من جماعة غولن، فإن الجماعة التي أعلنت دائمًا أنها لا ترغب في خوض غمار السياسة، أصبحت أكثر قوةً ونفوذًا خلال سنوات الحرية وعدم الملاحقة، التي تمتعت بها في ظل حكم العدالة والتنمية، حيث تغلغلت بشكل أخطبوطي في صفوف الجيش والشرطة والتعليم والإعلام ومختلف مؤسسات الدولة، حيث شكّلت دولة داخل الدولة.
استمرت المعركة بين العدالة والتنمية وجماعة غولن لسنوات، قبل أن تتهم الأخيرة بالتدبير لانقلاب 15 يوليو/ تموز 2016، حين كادت هذه المحاولة أن تودي بحكم العدالة والتنمية لولا أن سيطر أردوغان على الأمور وأمسك بزمامها.
وهنا وجدت الحكومة التركية نفسها تستأصل “جماعة الخدمة” من كل مناحي الحياة في تركيا، حيث زُجّ الآلاف في السجون وباتوا ملاحقين وأغلقت الجامعات والمدارس والأوقاف والإعلام التابعة للتنظيم، وبدأ أردوغان بتجفيف موارد الدعم الداخلية للجماعة التي باتت على قوائم الإرهاب.
لم ينقم أردوغان بعد المحاولة الانقلابية على الجماعات الدينية التي كانت تكبر ويصعد نجمها، خاصة أنها كانت ممّن تصدى لهذا الانقلاب، لكنه وضع خطة جديدة للتعامل معها، فبات أتباع هذه الجماعات يعدّون بالملايين في أرجاء البلاد.
وهنا يذكر الباحث حمورة أن أردوغان عمل على تقسيم إرث غولن على الجماعات كاملة، ويشير الباحث إلى أن “الحزب الحاكم تعلم من خطأه السابق، ووزّع المناصب الأساسية في الدولة على مجموعات مختلفة، وليس على جماعة واحدة كما كان الوضع مع غولن”، لافتًا إلى أن “توزيع المناصب الحساسة على الجميع يضمن ولاء الجميع، كما يجعل الحزب الحاكم وأردوغان بمثابة واهبي العطايا، فيسعى الجميع للتقرب منهما وخدمتهما لتحصيل المزيد من النفوذ والمراكز”.
أهم الجماعات الدينية في تركيا اليوم
جماعة إرين كوي
هي جماعة نقشبندية صوفية تتألف بشكلٍ عام من التجار ورجال الأعمال المحافظين، يرأسها حاليًّا عثمان نوري توب باش، أخذت جماعة إرين كوي اسمها من حي يحمل الاسم ذاته في إسطنبول، تأسّست على يد الشيخ محمود سامي رمضان أوغلو بعد عام 1955، لكن مع الضغط الذي واجه الجماعات الإسلامية في البلاد رحل رمضان أوغلو إلى السعودية وتوفي فيها عام 1984.
تدير الجماعة لجنة مؤلفة من 4 أشخاص، بعد ثمانينيات القرن الماضي باتت الجماعة بحاجة إلى تكوين نفسها على أساس المؤسسة، ودخلت في المشاريع والمؤسسات الإغاثية والتعليمية والإعلامية، ومن المؤسسات التابعة للجماعة مؤسسة عزيز محمود هدائي ومؤسسة مرادية الثقافية، إضافة إلى إشراف الجماعة على عدة أوقاف ومدارس في تركيا وخارجها.
تنفّذ مؤسسة عزيز هدائي التابعة للجماعة أنشطة تعليمية واجتماعية وثقافية في أكثر من 30 دولة حول العالم، بشكل رئيسي في البلقان والقوقاز وآسيا الوسطى وأفريقيا، منذ عام 1992 أسّست الجماعة 135 مؤسسة تعليمية خارج تركيا وداخلها، إلى جانب مركز سهبال الثقافي لـ”مساعدة الشباب على التطور الأخلاقي”.
كما اهتمت هذه الجماعة بالجانب الإعلامي، فدخلت الجماعة مجال النشر مع تأسيس شركة إركام للنشر عام 1980، كما تنشر 3 مجلات مختصة بالشباب والنساء والأسرة، وتعدّ هذه الجماعة من التيارات الدينية الأقوى في تركيا كونها تعتمد على رجال الأعمال البارزين وتنخرط بالاقتصاد، ولطالما أشارت وسائل الإعلام التركية إلى العلاقة الوثيقة بين الجماعة وعائلة طوباش المالكة لسلسلة متاجر “بيم” الشهيرة.
جماعة إسكندر باشا
تعدّ جماعة إسكندر باشا إحدى أشهر الجماعات الدينية الصوفية في إسطنبول، وربما أقدمها، فقد عمل الشيخ محمد زاهد كوتكو، المتوفى عام 1880، على تأسيس تيار إسلامي سياسي من خلال هذه الجماعة التي ورثها عن أشياخه أيضًا، وكان كوتكو يحثّ أتباعه ومريديه على الانضمام إلى مراكز التأثير في الدولة والعمل بها، بالإضافة إلى أنه يعدّ أحد كبار المناهضين للعلمانية في البلاد.
خرّجت الجماعة سياسيين كبارًا في ميدان العمل التركي، إضافة إلى العاملين في سلك الدولة، ومن بين هؤلاء الرئيس التركي الأسبق تورغوت أوزال المتوفى عام 1993، وكذلك البروفيسور نجم الدين أربكان الذي أسّس أول حزب إسلامي سياسي عام 1970 وأطلق عليه اسم “النظام الوطني”.
وخلال المسيرة السياسية المثيرة لأربكان كانت جماعة إسكندر باشا تدعمه في كل تحركاته، وتدفع بوجوه بارزة منها للانخراط بالأحزاب التي كان يؤسّس لها نجم الدين، بهدف تقويته في وجه الجيش والقوميين.
لم تسلم الأحزاب المتتالية التي صنعها أربكان من الحظر والملاحقة، لكنه ظلَّ رافضًا للمواجهة ومقارعة المؤسسة العسكرية التي تبطش بالتيارات الإسلامية، كما كان رجب طيب أردوغان وعبد الله غل من خريجي مدرسة إسكندر باشا، وأسّسا حزب العدالة والتنمية الذي سيحكم لعقدَين من الزمن لاحقًا.
بالإضافة إلى العدالة والتنمية ظهر حزب السعادة الذي خرج من رحم حزب أربكان واتّبع أفكاره، وهنا كان لزامًا على الجماعة أن تحسم موقفها فيما بين الحزبَين، وهنا حسمت موقفها وقررت تقديم الدعم اللازم لبقاء حزب السعادة داخل المنظومة السياسية التركية وفاءً له وإكرامًا لتاريخ المعلم أربكان، في حين قدمت دعمها الأكبر للعدالة والتنمية الذي نجح سريعًا في اختراق الصفوف بفضل هذا الدعم، واستطاع في فترة وجيزة من تأسيسه خوض الانتخابات المحلية وتحقيق فوز ساحق فيها.
مسجد إسكندر باشا في منطقة الفاتح في إسطنبول
لا يختلف أعضاء جماعة إسكندر باشا كثيرًا عن جماعات النقشبندية الأخرى من حيث طقوسهم الصوفية التقليدية، لكن ما يميزهم عن غيرهم من الجماعات هو التوازن الذي يحاولون تأسيسه بين التقليد والحداثة، ولطالما ناقشت مجلاتهم والمقالات التي تصدر عنهم أن الإسلام منسجم بشكل أساسي مع مفاهيم ومؤسسات الحداثة.
وعلى نقيض بعض الجماعات الأخرى، يتّضح اهتمام هذه الجماعة الوثيق بالسياسة والسياسيين، وهنا لا بدَّ من الإشارة إلى أن جماعة إسكندر باشا تعلن دعمها لطرف معيّن بالانتخابات بشكل رسمي، وهو ما لا تفعله الجماعات الأخرى التي تحاول إيصال رسائل الدعم غير المباشر، وهو ما حصل في الانتخابات الرئاسية الأخيرة منذ أعوام حين اصطفت الجماعة مع الرئيس رجب طيب أردوغان.
وتعمل الجماعة على انتقاد الأحداث السياسية الجارية في البلاد، إضافة إلى طرح الآراء التي تنتقد الحكومة عبر الصفحات المرتبطة بها على وسائل التواصل الاجتماعي.
تعمل جماعة إسكندر باشا في النشاطات المجتمعية، وهي تشغّل مئات الجمعيات، كما امتدَّ نشاطها إلى مجال ترميم المعالم التاريخية، وتتوزع الأنشطة الخيرية للأوقاف التابعة للجماعة على عدة دول، خاصة في توزيع الإعانات الغذائية وتقديم الأضحيات في الأعياد، كما تضم العديد من الجمعيات في ولايات متعددة، وتهتم هذه الجمعيات بالشباب والمرأة والرياضة والكشافة والتعليم والثقافة والبيئة.
جماعة المنزل
يرجع تأسيس جماعة المنزل أو “جماعة سمرقند” إلى الشيخ النقشبندي محمد راشد أرول، ويأتي اسمها نسبة إلى قرية منزل في ولاية أديامان جنوب وسط تركيا التي تأسست فيها، وقد انتشر نشاط تلك الجماعة بشكل كبير بعد الانقلاب العسكري عام 1980، فاعتُبرت بمثابة الجماعة الدينية الداعمة للدولة، ما ساهم في انتشارها بشكل واسع، وتحديدًا في المناطق الغربية من البلاد، وتشير المصادر التركية إلى أن هذه الجماعة هي الكبرى في تركيا دون تحديد أعداد المنتسبين إليها.
تمتلك الجماعة شركة قابضة وعدة مستشفيات ومدارس، وتجري العديد من الفعاليات في تركيا وخارجها، وتتواصل أنشطة الجماعة الإعلامية تحت اسم مجموعة “إذاعة وتلفزيون سمرقند“، بالإضافة إلى “راديو 15” ودار نشر سمرقند ودار هاسجان للنشر ومجلة “سمرقند” ومجلة “سمرقند للأطفال” ومجلة “عائلة سمرقند” ومجلة “الشاب القارئ”.
وهذه الوسائل كلها تنشر الآراء الصوفية، زيادة على ما سبق تتبع للجماعة شركات لتنظيم الحج والعمرة، وتملك الجماعة عدة مكاتب في أوروبا ويتبع لهذه المكاتب شقق سكنية لطلابها.
على عكس الجماعات الأخرى، فإن جماعة المنزل ذات فكر قومي وتدعم الحركة القومية التركية بزعامة دولت بهتشلي، وتزعم الدراسات أن عددًا من القادة السياسيين القوميين كانوا أتباع هذه الجماعة، مثل تركيش أرسلان زعيم حزب الحركة القومية السابق، ومحسن يازجي أوغلو زعيم حزب الاتحاد الكبير.
وإلى اليوم، يصوّت مريدو الجماعة لحزب الحركة القومية، وشاركت جماعة المنزل في حكومة حزب العدالة والتنمية عام 2003 بوزيرَين، وفي العام 2005 أنشأت جمعية رجال الأعمال “تومسياد” التي يبلغ عدد أعضائها 1500 عضو من رجال الأعمال.
جماعة السليمانيين
تُنسَب حركة السليمانيين إلى مؤسسها الشيخ سليمان حلمي طوناخان المولود عام 1888، مع تأسيس الجمهورية التركية الحديثة وقيام مصطفى كمال أتاتورك بالتغييرات المجتمعية والدينية والسياسية، أيقنَ سليمان حلمي أن تلك التغيرات الحادثة لا يمكنها أن تحكم المجتمع التركي كما أنها تتعارض مع الإسلام.
هذا في حين أن الانقلاب الذي أحدثه أتاتورك لا يمكن أن يبقي المجتمع محافظًا على قيمه وتقاليده، وتلك التغييرات التي حدثت في نظم ومؤسسات الدولة ترنو إلى خلق مجتمع جديد وتربية أجيال أخرى، داخل أنساق فكرية بعيدة عن الإسلام مطعّمة بأيديولوجيات غربية منقولة.
أصبح سليمان طوناخان خطيبًا عام 1938، وعمل على غرس قيم الدين خارج إطار الدولة، حيث شكّل حلقات دينية في المساجد بالإضافة إلى أقبية المنازل هربًا من الاعتقال، مع ازدياد نشاطه حوكم سليمان وسُحبت شهادته ومُنع من الخطابة، لكن حصل على الإذن مرة أخرى عام 1950، وهنا كثّف أنشطته في مجال التعليم الديني من خلال الاستفادة من الحرية الجزئية التي حدثت بعد تغيير السلطة عام 1950.
رغم عودة سليمان إلى المنابر، داهمت الشرطة أماكن وجود جماعة السليمانيين، لكن واصلت الجماعة نشاطها، وتوفي شيخ الجماعة الأول عام 1959، وواصلت الجماعة أنشطتها تحت قيادة صهره كمال كاكار.
أصبحت الجماعة مؤسسة تحت مسمى السليمانيين أو Süleymancılar، بعد بدء الهجرة التركية إلى ألمانيا عام 1961، حيث أسّست في الخارج أماكن تحت اسم المراكز الثقافية الإسلامية.
كانت الجماعة الأولى التي افتتحت دورات تحفيظ القرآن في ألمانيا، حيث اشترت الأبنية في أوروبا وأنشأت في قسم منها مسجدًا، كما أنشأت مكتبة وقاعة اجتماعات، وتعدّ هذه الجماعة الأكثر تأثيرًا بين الأتراك في ألمانيا.
تنتشر المراكز الثقافية السليمانية في بلغاريا ورومانيا وفي دول آسيا الوسطى المستقلة عن روسيا، وتقدم الخدمات الإسلامية هناك من خلال مراكزها تلك، كما أنها تقدم منحًا دراسية للأتراك الموجودين في آسيا الوسطى والبلقان للدراسة والتعلم في تركيا.
بحسب المصادر يتجاوز عدد المنتسبين إلى الجماعة مليونَي شخص، يتخرجون من مدارسها البالغ عددها 2500 مدرسة داخل تركيا فقط.
سياسيًّا، أيدت الجماعة الحزب الديمقراطي وحزب العدالة حتى انقلاب 1980، بعد ذلك دعمت تورجوت أوزال الرئيس العام لحزب الوطن الأم، ورغم الابتعاد عن العمل السياسي فإن الجماعة تحرص على المشاركة في الانتخابات، ويحاول السياسيون الأتراك استمالة وجوه الجماعة من أجل دعمهم في الانتخابات.
والمعروف عن الجماعة أنها من الفئات الدينية التي تعارض حكم حزب العدالة والتنمية، وقد صوّتت الجماعة لرئيس بلدية إسطنبول أكرم إمام أوغلو من الحزب الجمهوري ضد مرشح حزب العدالة والتنمية بن علي يلدريم في الانتخابات البلدية بإسطنبول.
جماعة إسماعيل آغا
اجتمع مئات الآلاف في حي الفاتح بمدينة إسطنبول لتشييع رئيس جماعة إسماعيل آغا، الشيخ محمود أوسطا عثمان، الملقّب بمحمود أفندي، عكست الجنازة مشهدًا مختلفًا في تركيا الجديدة التي باتت فيها الجماعات الدينية تتحرك براحة عكس ما كان قبل سنوات، هذا المشهد لم يَرُق للعلمانيين الذين اعتبروا أن البلاد بدأت تفقد صورتها التي وضعها مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك.
تتمركز جماعة إسماعيل آغا في حي الفاتح بإسطنبول، وهي من الجماعات الصوفية التي تتبع الطريقة النقشبندية، ويعدّ أتباعها بالملايين في تركيا، خاصة في قونيا وطرابزون مسقط رأس شيخها، وسُمّيت الجماعة بهذا الاسم نسبة إلى المسجد الذي اتخذه محمود أفندي مركزًا له في خمسينيات القرن الماضي، بدعم من شيخه علي حيدر أفندي.
عُرف الشيخ محمود أفندي بإنتاج وافر للكتب الدينية خلال حياته، وإضافة إلى الجانب العلمي أسّس الراحل لجماعة سيكون لها أثر بالغ لاحقًا.
تتميز الجماعة بلباسها المؤلف من جبّة وعمامة للرجال مع إرخاء للحية، وثوب أسود فضفاض للنساء يغطي كامل الجسد ما عدا جزء من الوجه، ويتجه منتسبو هذه الجماعة غالبًا إلى التعلم في المدارس الدينية ولا يلتحقون بمدارس الدولة، ما يضعهم أمام انتقاد شديد من المجتمع، خصوصًا بعد فتوى محمود أفندي التي يحرّم فيها ذهاب البنات إلى المدارس، خاصة في ظل حكم الأحزاب التي تطبّق القوانين الوضعية.
كان لوصول العدالة والتنمية إلى السلطة أثر في الانتشار الواسع للجماعة بتركيا، فقد باتت الحركات والجماعات الدينية تتصرف بحرية أكبر ممّا سبق، حيث افتتحت الأوقاف ومنازل الطلاب وبدأت حركة اقتصادية لتمويل نفسها، بالإضافة إلى حلقات التعليم.
يدخل الطالب في أوقاف إسماعيل آغا بمراحل تعليم ضمن بيئة خاصة تعطي الاهتمام للأمور الشرعية، وتقدّم هذه المدارس المسكن والطعام وأحيانًا اللباس بالمجان، وتقدّم الجماعة التعليم ليس فقط في تركيا بل في 40 دولة، من خلال “اتحاد الجمعيات التي تقدر الإنسانية” واسمه “إيدف”.
كان الشيخ محمود أفندي ذا حضور قوي في جماعته ولدى الأحزاب المحافظة خصوصًا العدالة والتنمية، إذ تناوب المسؤولون، وعلى رأسهم رجب طيب أردوغان، على زيارته خصوصًا قبل موعد الانتخابات، وفي جنازة أفندي حضر مبعوثون من كل الأحزاب حتى المعارضة منها.
وتعدّ الجماعة من أبرز الجماعات التي شاركت في صدّ انقلاب يوليو/تموز عام 2016، الذي حاول فيه الجيش الاستيلاء على السلطة والإطاحة بنظام أردوغان، وهنا يذكر مصدر من الجماعة لـ”نون بوست” أن أوامر التصدي للجيش لحظة الانقلاب صدرت من رأس الجماعة.
خلاصة
لا يقتصر الأمر في تركيا على الجماعات التي أشرنا إليها، لكنها هي الأبرز والأكبر حجمًا في خارطة القوى التي تشكّل وجه الدولة التركية حاليًّا، وتكشف تحركات هذه الجماعات مدى انتشارها وتأثيرها في المجتمع على عدة أصعدة.
وكما الأحزاب السياسية فإنه يوجد شقاق وخلاف بين هذه الجماعات ناتج عن حالة سياسية أو عقدية دينية، لكن أكبر ما يواجهه هذا التيار التصادم الكبير مع الفئات العلمانية، التي تعتبر أن هذه الجماعات تخالف الدستور وتغير هوية الجمهورية الكمالية العلمانية.
ومع اقتراب الانتخابات الرئاسية التركية، يسعى المرشحون لاستمالة هذه الجماعات، وبدا ذلك جليًّا من الوعود التي طُرحت من المرشحين ونبرة خطابهم وتركيزهم على البُعد الديني للشعب التركي، والقيم التي يعكف المرشحون على الحفاظ عليها.
لكن هل يرتبط عهد هذه الجماعات بوجود حزب العدالة والتنمية المحافظ؟ عن هذا يجيب الباحث جو حمورة: “الجماعات الدينية، بمختلف أشكالها، أقدم بكثير من حزب العدالة والتنمية وبقاؤها غير مرهون به، ربما قوتها مرهونة به ولكن ليس بقاءها، لأن حضورها متجذّر في المجتمع، في الأرياف والمدن، وبين مختلف الطبقات الاجتماعية، وتسيطر على جوامع ومراكز دينية ومؤسسات، ولها موالون في مراكز الدولة”.
مضيفًا: “ظاهرة إسماعيل آغا أو حتى فتح الله غولن أو أي جماعة أخرى، زادت قوتها بحكم حاجة العدالة والتنمية إلى حلفاء وشعبية للبقاء في الحكم، خاصة منذ عام 2004 حين تحالفت السلطة مع معظم الجماعات للتخفيف من سطوة العسكر على الحياة السياسية والعامة، وكلما تراجع دور العسكر، كما تمَّ في السنوات الماضية، زاد حضور الجماعات الدينية”.