الجميع يدعو إلى “حوار جادّ وفعّال” للخروج من أزمة ما بعد الانتخابات المبكرة، والتوصُّل إلى تفاهمات سياسية ترضي المتخاصمين والطامعين بمزيد من النفوذ، حيث يجري ذلك في غرف سياسية ضيقة، وبعيدًا عن الأولويات المجتمعية التي تطالب بإصلاحات حقيقية منذ احتجاجات أكتوبر/ تشرين الأول 2019.
ولكن لا شيء تحقق على الأرض، يتسابق السياسيون في الدعوات إلى حوار بين طرفَي الأزمة التي يشهدها العراق، على خلفية التصعيد بين التيار الصدري من جهة وقوى في الإطار التنسيقي من جهة أخرى، لنزع فتيل الأزمة بينهما، وذلك بعد نقل المعركة إلى الشارع والخروج باحتجاجات وأخرى موازية.
تغيب الحلول الحقيقية والأولويات المجتمعية، وتتقاطر بدلًا منها بيانات إنشائية تحثّ على الحوار والتهدئة والجلوس إلى طاولة واحدة، ومن هنا تبرز الخشية الشعبية مرة أخرى من أن يتحول الحوار السياسي إلى مجرد إعادة تقسيم الحصص بين الأحزاب المتنفذة وطرفَي الصراع.
في مرات عديدة، تجاهلت النخب السياسية المطالب التي نادى بها المتظاهرون في احتجاجات تشرين، ومنذ ذلك الحين تولد أنصاف الحلول، ميتة عليلة بدورة حياة قصيرة الأمد، بسبب احتكار الأحزاب الحوار بين أطرافها المتنفّذة عقب كل أزمة وتجلس فيما بينها، بعيدًا عن الشعب وممثليه الحقيقيين من مثقفين ونخب أكاديمية ونقابات ومنظمات وشخصيات مجتمعية.
منذ تأسيس النظام الجديد قبل نحو 20 عامًا، همّشت النخب الحاكمة الأصوات المجتمعية واحتياجات الشعب، ومثل ذلك فعلت الأنظمة السابقة منذ عقود، وسعت عقب كل أزمة إلى تغليب أولويتها ومصالحها الذاتية.
حيث يريد العراقيون اليوم حوارًا يفضي إلى حياة كريمة بتوفير الخدمات، وأمن يحصر السلاح بيد الدولة، ويؤسِّس لدولة حديثة تواكب التطور والتنمية، وتراعي شروط المستقبل، وبغير ذلك فإن أي حوار آخر لا يعني شيئًا لدى الناقمين على نظام بُنيَ على المحاصصة وتقاسم الكعكة بين المتنفّذين.
موت سريري بانتظار إعلانه رسميًّا هو ما يشهد النظام السياسي الذي ظهرت وتظهر أعراضه عليه، من خلال القتل بسلاح منفلت واستشراء الفساد
سنة بعد أخرى يتّسع الخلاف الداخلي والصراع على النفوذ بين الفرقاء السياسيين من جهة، وتتّسع الهوّة بينهم وبين الجمهور من جهة أخرى، حيث يعيش معهم العراقيون حالة اغتراب حادة، في العلن تسبّ وتشتم الأحزابُ النظامَ السياسي، وفي الكواليس تريد استمراره بشرط أن يكون في وضع يتيح لهم هيمنة أكبر على ثروات الدولة ومقدراتها.
موت سريري بانتظار إعلانه رسميًّا هو ما يشهد النظام السياسي الذي ظهرت وتظهر أعراضه عليه، من خلال القتل بسلاح منفلت واستشراء الفساد وتجاوز القانون وخرق الدستور في مرات عديدة، وكل ما سبق يتطلّب مصارحة حقيقية ومعالجات جادة مبنية على رؤى وأفكار تصبُّ في خدمة الناس وتكسب رضاهم، وبغير ذلك الزوال مصير حتمي لأي نظام يغيّب أولويات الشعب عنه.
ماذا عن المبادرات السابقة؟
خلال 10 أشهر من الانتخابات والتعطيل والخلافات، طرحت غالبية القوى السياسية مبادرات لتفكيك الأزمة وتشكيل الحكومة والمضيّ بالاستحقاقات الدستورية، المتمثلة باختيار رئيس للجمهورية وتكليف رئيس للوزراء، لكن جميعها فشلت في إحداث تقارُب بين معسكرَي الأزمة (الإطار التنسيقي والتيار الصدري).
إذ تريد القوى التي خسرت في الانتخابات -ممثّلة بقوى الإطار- وزنًا سياسيًّا بصرف النظر عن نتائج الاقتراع، ويريد الصدر أن يسمّي تياره حكومةً وفق شروطه، إلى جانب حلفائه من الأكراد والسنّة وبعيدًا عن خصومه من الشيعة، غير أن خصومه عرقلوا مساعيه في أكثر من مناسبة من خلال سلسلة معارك بدأت من التشكيك بنتائج الانتخابات.
أدّى الخلاف المتراكم إلى فرض مزيد من الضغوط على نظام سياسي هشّ تعصف به الأزمات منذ عقدَين، وغابت في المقابل مظاهر تسوية الصراع، لتتّسع دائرة الأزمة، وفتح الخصوم جبهات متعددة حتى وصلت إلى الشارع، حيث يعتصم أنصار الصدر خارج البرلمان، ويحتجّ معارضوه على أسواره.
حاليًّا، قد تنتهي معركة كسر العظم التي بدأت عندما خرج زعيم التيار منتصرًا في انتخابات أكتوبر/ تشرين الأول العام الماضي، ومُنيَ خصومه بخسارة كبيرة، انتهاءً بإغلاق المحتجّين من أنصار الصدر البيت التشريعي واعتصامهم فيه، واحتجاج الخصوم عند مقتربات المنطقة الخضراء.
التسوية الآنية مرهونة بتراجع أو تفاهمات ثنائية أو حلّ مُرضٍ للجهتَين، لكن ذلك -بالنسبة إلى الشعب- لن يجمّل من صورة النخب الحاكمة ويقلّل من فجوتها مع المجتمع، مثل عديد من القرارات المصيرية التي تولد في ظروف غامضة، وسرعان ما يبطل سحرها.
يغيب مفهوم التنافس السياسي لخدمة المجتمع، واحترام القانون الذي يخرق من المشرّعين قبل غيرهم
بطريقة ترقيعية وتقليدية، تعمد القوى السياسية والتيارات المتصارعة إلى معالجة كبرى الأزمات المجتمعية، من خلال ترحيلها تارة أو اللجوء إلى أنصاف الحلول تارة أخرى، في ظل غياب ابتكار معالجات لجذور كل أزمة.
إذ تسارع مجددًا إلى حصر الدعوات للدخول في مفاوضات بينها، بعيدًا عن قوى المعارضة وجمهور تشرين الذي لم يقل كلمته بعد، حيث أي معالجة حقيقية يجب أن ترتكز على حوار وطني شامل، تشترك فيه كل القوى السياسية والمجتمعية من دون استثناء أو تهميش، وتحقيق ذلك مرهون بأن تتضمّن المبادرات والحلول المطروحة اختلافًا واضحًا عن السلوكيات السابقة.
طبيعة الصراع الدائر
تدرس قوى في الإطار الخروج من الأزمة الراهنة عبر حل البرلمان والتوجُّه إلى اتفاق على موعد لانتخابات جديدة، وهي تسوية قد تجنّب صدام الشارع بالشارع، في المقابل يترقّب العراقيون تفاصيل دعوة الصدر إلى نظام جديد، شكل هذا النظام ومن يحدد معالمه، وماهية وسائل المضيّ به قدمًا، وهل سيتمكّن من تحقيقه في ظل معارضة بعض شركائه وكثير من خصومه.
في بلد تسبّب فيه سوء الحكم والإدارة والفساد في انقطاعات متكررة في الكهرباء، وندرة في المياه، وتفشٍّ في الفقر والبطالة، رغم أن البلاد تعوم على ثروات هائلة، يغيب مفهوم التنافس السياسي لخدمة المجتمع، واحترام القانون الذي يخرَق من المشرّعين قبل غيرهم، فتصاب الأفكار السياسية التي تهدف إلى تقديم مصلحة المواطن بالنضوب والتصحُّر، ومقابل كل ذلك تحضر الأزمات بديلًا طبيعيًّا.
يصعب وصف كل ما يحدث بأنه مطالبات شعبية عفوية، ما يحفّز على وصفه بأنه صراع داخل نخبة حاكمة ومتنفّذة أساسه الهيمنة، قد ينتهي بأقرب فرصة تفاوضية تعيد تقسيم الحصص.. أو يتفاقم.