صيف صاخب ومنتجعات حجزت بالكامل، شواطئ تكتظ بالمصطافين، حفلات نظمت، ومهرجانات ومطاعم لن تجد فيها كرسي فارغ، تلك هي المشاهد التي تعبر الآن عن صيف لبنان، البلد الذي يعاني من أشد الأزمات الاقتصادية في العالم، فمن طوابير البنزين والخبز إلى زحمة حفلات الشواطئ والمطاعم، تفاوت مريب في الحالة اللبنانية، يمكن لأي زائر أن يشعر بهذا التناقض الكبير، فمن أين تأتي تلك الأموال؟ وهل اعتاد اللبناني الأزمات وتأقلم معها؟
في ظل المعاناة الاقتصادية التي تواجه الملايين، من الواضح أن هناك شريحةً واسعةً من اللبنانيين تعيش في بحبوحة وثراء، ما يكشف عن فجوة اجتماعية كبيرة، فالطبقة المتوسطة تتلاشى مع الوقت وتشتد الفجوة بين الأغنياء والفقراء، مما ينبئ بكارثة بين طبقات المجتمع.
فمع الأزمة المالية وانهيار الليرة اللبنانية، تبدلت أحوال فئات المجتمع نحو الأسوأ، لا سيما بعد زيادة عدد الفقراء على نحو غير مسبوق وتآكل الطبقة الوسطى التي خسرت أمانها الاجتماعي والاقتصادي وأصبحت مجبرة على التكيف مع واقع جديد واتخاذ خيارات صعبة تطال نمط حياتها.
في المقابل تخرج طبقة تكونت بفعل الأزمة هي الوحيدة القادرة على ممارسة الحياة بشكل طبيعي بعيدًا عمن يعاني على أبواب المستشفيات والأفران.
بلد التناقضات
في حفل كبير تابعه العالم العربي اختيرت في العاصمة اللبنانية بيروت ملكة جمال لبنان لعام 2022، إذ فازت ياسمينا زيتون بجائزة قدرها مئة ألف دولار أمريكي نقدًا، في وقت تفتقر شريحة واسعة من اللبنانيين إلى أدنى مقومات الحياة.
إنه البلد الذي اختيرت فيه ملكة جمال، لكن ما زالت الحكومة ورئيسها متعثرين في التكليف والتشكيل، وحتى انتخاب رئيس الجمهورية مخاضه طويل على ما يبدو.
تستهزء المطربة الكويتية شمس ممن يقول “لبنان مشاكل ولبنان مسكين”، فقد صورت فيديو في مطعم المنير الكائن في بيروت ترصد فيه الزحمة الكبيرة، وتعبر عن معاناتها في إيجاد كرسي فارغ إلا بعد وساطات، فهل هذا هو البلد المنهار؟
في المقابل مشاهد مروعة لطوابير الخبز الممتدة على أبواب الأفران لعشرات الكيلومترات التي تحولت لاحقًا إلى اشتباكات وضرب سقط فيها قتيل على خلفية أسبقية الحصول على رغيف خبز.
مشاهد الأضداد ليست جديدة في بلد التناقضات لبنان الذي لطالما اعتبر مواطنوه أن اختلافاتهم وتنوعهم تشكل فرادة ما، ولطالما رددوا بفخر: “هيدا لبنان”، أما المستجد، فوجود مظاهر الرفاهية وازدحام المطاعم والنوادي الليلية والمنتجعات، في الوقت الذي تتحدث فيه التقارير عن أن أكثر من 70% من سكان لبنان يعيشون في فقر متعدد الأبعاد.
وينسحب الترف على أماكن السهر، حيث تصل أسعار تذاكر الدخول إلى المليوني ليرة لبنانية (نحو 80 دولارًا)، ورغم ذلك، تعج تلك الأماكن بروادها، فيواصل هؤلاء حياتهم بالطريقة المعتادة، ولم ترخِ الأزمة بأثقالها على حياتهم الاجتماعية والاقتصادية، هي الوجوه نفسها تقريبًا، تنتقل من مطعم إلى آخر ومن منتجع إلى آخر.
من الصعب أن تجد في محفظة هؤلاء ليرة لبنانية، فحتى أغلبهم نسي العملة الوطنية وما يحمله في جيبه هو الدولار الذي ما زال حتى يومنا هذا عالقًا داخل المصارف، في المقابل يصعب على الكثير دفع فواتير المولدات الكهربائية، فتضطر عائلات إلى قضاء الليل على ضوء الشموع أو البقاء في ظلام دامس، وبين ثلاجة فارغة ومطاعم مكتظة يبقى لبنان بلد العجائب الذي يقف بصعوبة رغم افتقاره لأبسط الاحتياجات.
أسباب الفجوة
أنتجت الأزمة الاقتصادية طبقة “الفقراء الجدد” وسحقت الطبقة المتوسطة لتبرز مكانها طبقة جديدة تعرف بـ”طبقة الدولار”، أي الذين يتقاضون رواتبهم أو تصلهم حوالات خارجية بالعملة الصعبة.
في المراكز التجارية يتجول الميسورون بمقتنياتهم الجديدة، كما يتجول الفقراء الجدد، وهم المنتمون إلى الطبقة المتوسطة سابقًا، بأيدٍ خالية، الطبقتان اعتادتا في الماضي القريب التبضع من المجمع التجاري نفسه، أما اليوم ومع معاناة أكثر من 82% من الفقر المتعدد الأبعاد بحسب دراسة أعدتها “الإسكوا”، أصبح التبضع محصورًا بين الميسورين وحاملي الدولار.
يقول الباحث في الشركة الدولية للمعلومات محمد شمس الدين: “هناك 5% من اللبنانيين من الأثرياء، يشكلون نحو 100 ألف شخص لديهم قدرة شرائية عالية بالدولار، أضف إليهم نحو 850 ألف لبناني يتلقون حوالات نقدية بالعملة الصعبة من ذويهم في الخارج وهم أيضًا لديهم قدرة شرائية مرتفعة”، مشيرًا إلى أن هذه الأرقام “تفسر مظاهر الرفاهية التي نشهدها في لبنان، لكنها لا تلغي وجود 3 ملايين لبناني يعيشون أوضاعًا اقتصادية صعبة”.
ويلعب المهاجرون من الجاليات اللبنانية في الخارج دورًا مهمًا في هذه الأزمة، فهم السبب المباشر لاستمرار لبنان، فاللبناني هاجر منذ القدم وصنع لنفسه كيانًا في عدة دول مثل دول أمريكا اللاتينية وإفريقيا وأستراليا، يحمل هؤلاء عملاتهم الصعبة ويأتون بها إلى لبنان لصرفها ومساعدة من تبقى من عائلاتهم ، فالبعض يدخر ماله طوال السنة لصرفها في موسم الصيف بصحبة عائلته وأصدقائه، وهذا هو حال الكثير، وأغلب اللبنانيين يشترون بيوتًا في لبنان حتى إن كانوا يعيشون في بلاد أخرى، كلها أسباب تفسر وجود الدولار وأيضًا تفسر زحمة المطاعم والمصارف، فالمطار في موسم الأعياد والصيف يعج بالزائرين القادمين إلى لبنان.
هناك أيضًا اللبنانيون الذين يعملون مع أحزاب السلطة ويتقاضون أجورهم بالدولار الأمريكي، ما يجعل حياتهم أكثر رفاهية، وهنا لا يمكن إغفال دور الفلسطينيين والسوريين الذين يأتون أيضًا إلى لبنان ويحملون عملات صعبة، غالبيتهم لديهم بيوت في لبنان وعائلاتهم هناك، أو بعضهم يعيش في لبنان ومردوده المالي بالدولار.
بطبيعة الحال لبنان يعتمد على السياحة فقط من ناحية قطاعاته الاقتصادية، صحيح اختفى الوجه الخليجي والأوروبي من البلد، لكن ما زال المهاجر اللبناني حاضرًا بقوة، فلبنان متميز بخدماته السياحية وموقعه الفريد، لذلك تعمل أغلب المرافق حتى في أصعب الظروف.
آثار وملامح الفجوة الاجتماعية
مظاهر التناقض الطبقي في لبنان وتشكل طبقات اجتماعية جديدة تعد نتيجة طبيعية للحالة اللبنانية المعقدة، فقد مر البلد بالكثير من الصدمات السياسية والاقتصادية ناهيك بالحروب والنزاعات الخارجية، وكلها ساهمت في خلق حالة استثنائية فريدة وبالطبع تراجع في الطبقة الوسطى، لكن ما هو واضح اليوم الفجوة الحادة التي تتضح معالمها بين المناطق وحتى في الشوارع نفسها والأحياء المتلاصقة.
السياسات والقرارات الاقتصادية بالإضافة إلى المشكلات والأزمات التي تمر بها البلاد تحمل في طياتها أثرًا مباشرًا على مختلف فئات المجتمع
وتلعب الطبقة الوسطى دورًا محوريًا في التنمية الاقتصادية والاجتماعية، فهي تعتبر صمام أمان المجتمع ومن دونها أو في حال تراجعها تتعثر الدولة سياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا.
وللطبقة الوسطى أهمية اقتصادية فهي أيضًا رافعة للاقتصاد الوطني ومصدر تمويله الرئيسي، فغالبية الطلب يأتي من الاستهلاك المنزلي الذي تشكل الطبقة المتوسطة أكثر من نصفه، ذلك أن المنتجات التي تستهلكها الطبقة المتوسطة هي تلك التي تشكل جزءًا كبيرًا من الإنتاج.
للأسف فإن السياسات والقرارات الاقتصادية بالإضافة إلى المشكلات والأزمات التي تمر بها البلاد تحمل في طياتها أثرًا مباشرًا على مختلف فئات المجتمع، إلا أن تأثيرها على الطبقة الوسطى يكون أشد وأوضح لاعتبارات متعددة تتعلق بالتركيبة الاجتماعية للطبقة الوسطى ومصادر دخلها وطبيعة إنفاقها، إضافة إلى مستوى قدرتها على التعامل مع مؤشرات التضخم وارتفاع الأسعار وتراجع الدعم الحكومي للسلع والخدمات.
إن الانهيار المالي الحاصل في لبنان بالإضافة إلى وباء كورونا عمل على تآكل الطبقة الوسطى وعزز تلك الفجوة عن طريق تراجع المستوى المعيشي، وتتجلى أيضًا مظاهر وآثار الفجوة من خلال تزايد نسب البطالة.
ويعد التضخم من أبرز الأسباب التي تضرب صميم الطبقة الوسطى فتعمل على إفقارها وتآكلها وهذا ما يحصل في لبنان، اليوم جاء لبنان في المرتبة الأولى عالميًا على مؤشر البنك الدولي لتضخم أسعار الغذاء، متخطيًا زيمبابوي التي جاءت في المرتبة الثانية وفنزويلا في المركز الثالث، الأمر الذي يشير إلى حجم التحديات المقبلة على لبنان الذي يعاني من أزمة حادة في أمنه الغذائي.
جولة قصيرة في العاصمة اللبنانية بيروت كفيلة بشرح التناقضات والفوارق الحاصلة اليوم، فالفجوة تتسع مع اشتداد الأزمة والدولار يدخل إلى لبنان رغم أنف البنوك عن طريق المطارات وشركات تحويل الأموال، حتى باتت عمليات البيع البسيطة تسعر بالدولار كأن العملة الوطنية غير موجودة، في المقابل هناك أناس تحت خط الفقر ينتظرون قيامة دولة حكم عليها بالانهيار نتيجة الفساد والسرقة.