في تونس تحت حكم قيس سعيد صدرت بيانات تعبر عن الفرح بأن تايوان صينية ولن تكون أمريكية ولم تصدر بيانات عن نسبة التضخم التي فاقت لأول مرة في تاريخ تونس معدل 8%، لا يهم، فتايوان صينية برغم أنف نانسي بيلوسي التي يبدو أنها تستعد لرئاسة أمريكا من باب الحرب على الصين، والقوميون العرب ورثة جبهة الصمود والتصدي سعداء بحرب في آخر الأرض رغم أنهم يعانون مثلنا من نسبة التضخم.
ما دامت الصين صديقة لروسيا وروسيا تحمي نظام الأسد ونظام الأسد يحارب الخوانجية، فتايوان صينية وتسقط الإمبريالية الأمريكية (يقدم لنا القوميون العرب فرصةً لكتابة ساخرة لولا أن المقام مقام جد).
أين تايوان من تونس؟ المسافة لا تهم في عصر العولمة فرصة للعودة إلى نقاش منسي منذ الحرب البادرة هل مصلحة تونس مع أمريكا أم مع روسيا؟
ليس للبيع أو المبادلة
كان هذا شعار مطبوع على زكائب الطحين الأمريكي الذي يوزعه برنامج الغداء العالمي (pam)، ذلك القمح أنقذ التونسيين من الجوع في أول الاستقلال وجعل الرئيس الزعيم (نصف الإله) بورقيبة يعقد روابط سياسية متينة مع الأمريكيين وينحاز لموقفهم في القضايا الدولية خاصة بعد الاستقبال التاريخي الذي قدمه له الرئيس كينيدي في أول زيارة رسمية له كرئيس دولة حديثة الاستقلال.
لقد وضعه كينيدي في جيبه، لكن وجب الاعتراف بحدس الزعيم، لقد تكلم عن فشل التجربة السوفيتية منذ الستينيات وكشف توجسه من الدخول في حلف معها سواء بالتسلح بسلاحها أم مناصرتها في حربها الباردة مع الولايات المتحدة.
النفور البورقيبي من نظام عبد الناصر ونظام بومدين ولاحقًا نظام القذافي (حلفاء السوفييت) جعل بورقيبة أكثر حذرًا، فهو لم يقبل أبدًا أن يذوب في حلف سياسي عربي يحيطه من كل جانب وليس له فيه أسبقية القيادة.
مزاج الزعيم النرجسي والطحين المجاني وتسليح الجيش وتدريبه جعلوا تونس في الحلف الأمريكي/الأطلسي في الموقف المقابل لحلف فرصوفيا دون أن نغفل أمرًا مركزيًا وهو أن فرنسا كانت في الحلف الأمريكي، لذلك لا يمكن لتونس أن تتخذ موقفًا مخالفًا لفرنسًا، وورث نظام بن علي ثوابت السياسة الخارجية التي بناها بورقيبة وشهد سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفيتي وعودة روسيا القديمة لكن كدولة لعصابات المافيا والفساد، فحافظ على الوضع كما وجده.
الربيع العبري
في السنة الثانية لانفجار ثورات الربيع العربي وصف القوميون العرب هذه الثورات بأنها ربيع عبري، أما لماذا انتظروا سنة كاملة لتوصيف ما حدث؟ كانوا ينتظرون نتائج الانتخابات الأولى مفعمين بأمل أن يحكموا بواسطة صندوق انتخابي، لكن الصندوق لم يعطهم أي قيمة في لحظته وحكم على مستقبلهم بالفشل دون تعقيب، فصار الربيع العربي ربيعًا عبريًا وعادت التحالفات القديمة للظهور حتى وصلنا إلى تايوان صينية.
يقف إلى جانب قيس سعيد القوميون العرب، مفعمين بشعور عظيم بالانتصار على الخوانجية العملاء
في الأثناء استعاد القوميون العرب واليسار عامة (ومنهم أيتام الحزب الشيوعي السوفييتي) دعاية قديمة تقوم على أن الخوانجية هم صناعة مخابرات إنجليزية ثم أمريكية تشتغل لتخريب الأمة العربية من الداخل لفائدة الصهيونية العالمية، وصورت انتصاراتهم الانتخابية كمكيدة مخابراتية لتخريب الأمة وأضيفت إلى ذلك بهارات الإرهاب، فإذًا نحن في أجواء الستينيات ولا ينقصنا إلا صوت العرب من القاهرة.
والآن وقيس سعيد يحكم تونس ويقف إلى جانبه القوميون العرب، مفعمين بشعور عظيم بالانتصار على الخوانجية العملاء، وجب دفع المسائل الإستراتيجية إلى مداها، دفع تونس إلى حلف روسي صيني معاد للموقف الأمريكي، وتحويل وجهة تحالفات البلد مما لم يفلح فيه قوميو الستينيات والسبعينيات أيام الحرب الباردة، لقد حان أوان التصحيح، فقد كانت تونس نظامًا إقليميًا رجعيًا عميلًا للإمبريالية الأمريكية والغربية وقد وجب الحسم في التاريخ بدءًا من تايوان صينية.
لنتحدث عن الفائدة المحتملة
تجارب العرب مع قوى الهيمنة الغربية منذ ثلاثة قرون على الأقل (إذا لم نعد للحروب الصليبية) تكشف أن ليس للعرب صديقًا على الضفة الأخرى، ودون أن نعود إلى عرض الخيبات الكبيرة التي عاشتها الأنظمة القومية مع الحليف السوفيتي خاصة في مسألة الموقف من الكيان الصهيوني، نرى ألا فرق أخلاقيًا بين أن يكون المرء حليفًا لروسيا (أو للاتحاد السوفييتي) ولا أن يكون حليفًا للولايات المتحدة الأمريكية، إنهما دولتان قويتان وتحكمان العالم منذ قرن ولا تبحثان عن شركاء أنداد بل عن أتباع أو شبه أحلاف، لذلك فالسؤال عن الجدوى من أي تحالف يجب أن يسبق اسم الحليف.
مقادير القوة والهيمنة تميل دومًا للولايات المتحدة في الاقتصاد كما في صناعة السياسة الدولية، وقد حسم الأمريكيون كل حروبهم التي خاضوها في النصف الثاني من القرن العشرين وخرجوا منتصرين، بينما انكسر السوفييت (الروس) في أفغانستان ونراهم الآن غارقين في أوكرانيا لا يستطيعون التقدم ولا يجدون سبيلًا للتراجع.
إذًا في حالة تونس هل نوالي الأقوى لأنه الأقوى أم ننحاز للأضعف لأنه الأضعف بعقل نضالي يستقي من روح حركات التحرر في العالم، ثورية الخمسينات ضد الإمبريالية انتهت بانكشاف واضح وبسيط وهو أن روسيا لم تكن يومًا نصيرًا لحركات التحرر في العالم، لقد صار بالإمكان مراجعة هذه الدعاية الكاذبة منذ خليج الخنازير حتى حرب أفغانستان ثم انكشاف الخواء الاقتصادي للتجربة السوفيتية برمتها وانهيارها الداخلي، لذلك فان الإيحاء بأن روسيا اليوم (أو الصين حليفتها) هي وريثة هذا التاريخ النضالي لا تعدو كونها مناكفة ضمن الصراع الإيديولوجي القديم، وهي رؤية غير قادرة على تخيل كلفة تغيير الأحلاف.
مع تايوان صينية أو أمريكية قصة من أيام الحرب الباردة التي خرج منها العالم ولا تزال مستمرة في نفوس ورثة الأيديولوجيات المستنفدة
هناك وضع ثالث مثالي (لنقل رومانسي) هو أن تكون إدارة الدول خارج هذه الأحلاف وأن يكون الاعتماد على الذات هو العنوان الذي يحكم العلاقات الخارجية بجوانبها الاقتصادية والعسكرية والسياسية، لكن هذا الوضع المثالي يقتضي أولًا وضوح رؤية داخلية وجبهة وطنية متلاحمة حول الفكرة والمشروع الاستقلالي، ولم نر هذا في أي قطر عربي قبل الربيع العربي ولا بعده، ولا نرى علامات على التفكير فيه أو طرحه ضمن البدائل.
لقد رأينا دولًا تفعل ذلك وتتحرك بين الأحلاف بذكاء وتحقق نتائج اقتصادية هائلة استحقت عليها لقب النمور، لكن ما لم نوله أهمية أن هذه الدول كانت متماسكة من الداخل وقد تركت جانبًا الصراعات الإيديولوجية التي تشق الآن النخب العربية وتجعل سياسيين عرب لا يتفقون حتى في تنظيم مظاهرة من أجل مساندة الحرب على غزة، فكل السلاح الذي تسرب إلى غزة في عام حكم مرسي الإخواني سقط برسالة (عزيزي بيريز)، ولن نشير هنا إلى اليسار العربي الذي يعتبر حركة حماس حركة إرهابية، فهذا اليسار يجد متعة القهوة في مقاهي باريس مع غلاة الصهاينة.
مع تايوان صينية أو أمريكية قصة من أيام الحرب الباردة التي خرج منها العالم ولا تزال مستمرة في نفوس ورثة الإيديولوجيات المستنفدة، وما دامت هذه المواقف تتوالى في مشهد الصراعات السياسية العربية فإن المنتج لن يحظى بأكثر من سمعة السلعة التايوانية في العالم، ومع قيس سعيد وأحلافه القومية نحن ذاهبون إلى تونس مايد إن تايوان.