يبدو أن قوات سوريا الديموقراطية بدأت بتكثيف حفرها للخنادق والأنفاق على الحدود السورية التركية، خصوصًا في محيط المدن الحدودية من الجهة الشمالية المقابلة للحدود، بعد ارتفاع وتيرة التهديدات التركية، وتأهُّبًا لأي عملية عسكرية محتمَلة شمال شرق سوريا.
ويأتي ذلك النشاط منذ إعلان الجانب التركي نيّته استكمال الخطة في إنشاء المنطقة الآمنة بعمق 30 كيلومترًا على طول حدوده الجنوبية، وخاصة بعد عملية نبع السلام التي شنّتها تركيا و”الجيش الوطني السوري”، أوائل أكتوبر/ تشرين الأول عام 2019 شمال شرق سوريا، ما أدّى إلى طرد “قسد” من مدينة تل أبيض بمحافظة الرقة السورية ومدينة راس العين، إضافة إلى تحرير نحو 600 منطقة سكنية على مساحة تزيد عن 4 آلاف كيلومتر، والوصول إلى الطريق السريع M4 الاستراتيجي.
تعزيز حفر الأنفاق والخنادق
في حديث أجراه “نون بوست” مع شاهد عيان يقطن في مدينة الحسكة، أكّد أن “قسد” تستغلّ حاجة المدنيين للعمل لديها في حفر الأنفاق، وأن هناك إقبالًا كبيرًا على العمل، بسبب الوضع الاقتصادي والمعيشي المتدهور للمدنيين.
وأضاف أنه جرى مؤخرًا إجبار الموظفين في منشآت “قسد” المدنية ومراكز المجالس المحلية وعدة قطاعات أخرى، على العمل في حفر الخنادق والأنفاق بهدف تسريع عملية الحفر، إضافة إلى إجبار المعتقلين في سجونها من أصحاب الجرائم والجنايات.
ويكمل شاهد العيان، الذي تحفّظ عن ذكر اسمه، أن هناك الكثير من العمّال الذين أصيبوا أو لقوا حتفهم من المدنيين جرّاء انهيار الأنفاق، كالنفق الذي كان يُحفر بالقرب من جبل عبد العزيز بريف الحسكة، إلا أن “قسد” تحاول دائمًا إخفاء ذلك عن الإعلام، ودون أي تعويض لذوي الميت أو دفع تكاليف علاج للمصاب.
ترغّب “قسد” المدنيين بحفر الأنفاق مقابل أجر يومي بين 35 و40 ألف ليرة سورية
وتتوزّع خريطة الأنفاق في مناطق حيوية بريف الحسكة الشمالي قرب الحدود التركية، إضافة إلى الدرباسية والمالكية وعامودا وعين عيسى بريف الرقة الشمالي وعين عرب المتاخمة لنقاط تجمع قوات الجيش الوطني التابع للإدارة التركية، وفق شاهد العيان.
إجبار مدنيين ومعتقلين على الحفر
يتفق الناشط الإعلامي همام عيسى، المقيم في مدينة راس العين الحدودية، مع شاهد العيان، في أن “قسد” ترغّب المدنيين بحفر الأنفاق مقابل أجر يومي بين 35 و40 ألف ليرة سورية، أي ما يعادل بين 9 و10 دولارات، مستغلّة الأوضاع المعيشية المتدهور ونقص فرص العمل في مناطق نفوذها، ودون أي تأمين طبّي للمصابين أو ذوي الموتى جرّاء العمل الخطير، كما تمارس “قسد” احترازات أمنية عالية، تتمثل بمنع العمّال من جلب هواتفهم النقالة أو ارتداء ساعات أو سماعات أو حمل أي أجهزة إلكترونية.
ولفت عيسى إلى أن ملف الأنفاق يديره القيادي البارز في “قسد” هافال جميل، مواليد الحسكة، وهو الذي جعل مناطق شمال شرق سوريا خريطة أنفاق، فمنها ما هو معروف وظاهر، ومنها ما هو سرّي، ومنها ما يكون على الحدود، ومنها ما يمرّ تحت المدن والأحياء، كأحياء القامشلي ومحيطها وعامودا والدرباسية والمالكية ورميلان، بهدف حمايتها من أي هجوم محتمَل، كما أن هناك أنفاقًا فرعية بطول 40 كيلومترًا، وأنفاقًا أطول تربط بين المدن.
وتشرف شركة “زاغروس” التابعة لـ”قسد” على عمليات الحفر ومدّ وتعبيد وصيانة الطرقات والأنفاق وتأمين المواد الأولية، بالإضافة إلى الإنشاءات العسكرية التابعة لـ”قسد”، إذ تعتبر أيضًا المسؤولة عن توظيف العمّال وتوزيعهم في الورشات المتعددة وفي المناطق المتفرقة، وتجهيز غرف الحراسة والمنامة مسبقة الصنع.
كما يشير عيسى إلى أن تكاليف حفر الأنفاق باهظة جدًّا، وهناك عمّال من العرب والكرد يعملون في الحفر، كما أن “قسد” تطلق بين الحين والآخر مناقصات للحفر حيث يوفر أصحاب المشاريع المعدّات، ويستخدمون الأسمنت المسلّح والخراسانات بكثافة ضمن الأنفاق الكبيرة، والتي تتيح تنقّل السيارات والعربات العسكرية وحماية المقاتلين والقياديين من أي هجمات، إضافة إلى احتواء بعضها على مستودعات أسلحة وذخيرة.
هل تنهي الأسلحة التركية الحديثة الدور القتالي للأنفاق؟
منذ وقت ليس بالقصير، تقوم “قسد” بكل ما من شأنه تثبيت سيطرتها على مناطق نفوذها، وذلك عبر تكثيف العمليات الاستخباراتية جرّاء الاختراقات التركية الموجودة في صفوفها، وذلك بعد الاستهدافات التركية الكثيرة من الطائرات المسيَّرة، والتي تطال من خلالها شخصيات قيادية وميدانية تتبع لوحدات حماية الشعب، أو حتى لحزب العمال الكردستاني في الشمال والشمال الشرقي السوري، أو من خلال القيام بأعمال التحصينات والأعمال الهندسية على طول خطوط التماسّ في مناطق نبع السلام والحدود التركية.
يصل هذا إلى درجة تجهيز الأنفاق بأعشاش للذخيرة وخنادق مواصلات متشعّبة من داخل البيوت والمناطق الآهلة بالسكّان، حيث تصل البلدات الحدودية وتقلّل الخسائر بعد أي عملية عسكرية موجهة ضد “قسد”، وأيضًا لإخفاء تحركاتها من وسائط الاستطلاع والرصد الأرضي وحماية أكبر عدد ممكن من القوة البشرية، وتزويد مقاتليها وآلياتها بالذخائر.
مع فارق تسليح وأعداد المقاتلين الذي يتمتع به الجانب التركي، ووجود طائرات الاستطلاع الحديثة والمسيَّرة، تصبح الخنادق غير فعّالة وينتهي الدور القتالي لهذه الأنفاق
يرى العقيد فايز الأسمر، خبير أمني واستراتيجي، في حديثه لـ”نون بوست”، أن الأنفاق لها أهمية من الناحية العسكرية، فهي وإلى جانب تأمينها إخفاء التحركات أكثر حتى عن الاستطلاع الجوّي وحماية أكثر للقوى البشرية، فإن لها عدة استخدامات أخرى:
1- قد تُستخدم للوصول إلى ما بعد خطوط العدو، وتنفيذ عمليات خاصة أو تفجيرات لمواقع هامة، كما كان يحدث سابقًا مع الجيش الحر.
2- من الممكن أن تُستخدم لعمليات التهريب بأنواعه بين الحدود.
3- من الممكن أن تُستخدم للإمدادات اللوجستية للقوات العاملة بالجبهة، أو ممكن أن تكون مشافي ونقاطًا طبية أو مستودعات للأسلحة والذخائر، وبعيدة ومؤمّنة من الاستهدافات الجوّية والمدفعية.
إلا أن مع فارق تسليح وأعداد المقاتلين الذي يتمتّع به الجانب التركي، ووجود طائرات الاستطلاع الحديثة والمسيَّرة، تصبح الخنادق غير فعّالة وينتهي الدور القتالي لهذه الأنفاق، فالطائرات الحديثة -حسب رأي الأسمر- قادرة على تحديد إحداثياتها بدقّة وتوجيه ضربات موجعة وقطع اتصالات الأنفاق ببعضها.
هذا فضلًا عن وجود متعاونين يعملون لصالح الجانب التركي ضمن ميليشيات “قسد”، أو من المدنيين المجنّدين، ومنذ زمن طويل يقدمون بنك أهداف هذه الأنفاق، لاستهدافها وتدميرها بالأسلحة المخصصة لها عندما تبدأ المعركة.
مناورات مشتركة مع النظام متزامنة مع النشاط الحدودي
أواخر الشهر الفائت، وللمرة الأولى، أجرت قوات نظام الأسد مناورات عسكرية مشتركة مع “قسد” في ريف حلب، في تطور يعدّ الأول من نوعه لقوات مدعومة من الولايات المتحدة وأخرى من روسيا.
حيث نشرت وكالة Rusvesna الروسية، 30 يوليو/ تموز الفائت، تسجيلًا مصوّرًا قالت إنه لتدريبات برمائية بين قوات النظام و”قسد” بإشراف ضباط روس، حيث أقامت وحدات الهندسة التابعة للنظام معابر عائمة، تمَّ من خلالها نقل وحدات من المشاة والدبابات التابعة للنظام إلى الضفة المقابلة، ودخول المعركة بدعم من مقاتلات النظام ومدفعية “قسد”.
وأشارت الوكالة فيما نقلته عن مصادر، إلى أن هذه التدريبات تأتي في إطار الاستعدادات لردع “العدوان التركي” في الشمال السوري، حسب وصفها.
يرى محمد السكري، باحث مهتم بالشأن السوري، أن تزامن استعدادات “قسد” عبر تكثيف حفرها للأنفاق بجانب مناوراتها مع نظام الأسد، هو نوع من تكتيك إدارة الصراع مع تركيا، ورغم أن هذه الخنادق لم تلعب دورًا كبيرًا في معركة “قسد”، إلا أنها ساهمت بشكل أو بآخر بإبطاء تقدُّم المعارضة السورية، وسمحت أيضًا بمساعدة قوات الإدارة الذاتية على الانسحاب النوعي دون أن يكون هناك خسائر بالقدر الكبير جدًّا.
وبالتالي، إن عملية حفر الخنادق والأنفاق هي أحد التكتيكات المتّبعة جزئيًّا بمناطق في غاية التحصين والتموضع لتأخير العملية العسكرية، وإضافة استحقاقات جديدة أمنية قد تعيق أو تؤخّر على الأقل العملية العسكرية وتفرض معطيات جديدة، في إطار الأولويات التي يجب أن تركّز عليها تركيا على الصعيد الميداني خلال العملية العسكرية المرتقبة.
تدرك الإدارة الذاتية أن العملية التركية قاب قوسَين أو أدنى
ويشير السكري إلى أنه من الوارد جدًّا أن يكون هناك انتشار مشترك من قوات النظام والإدارة الذاتية، في مناطق متفرّقة ونقاط عسكرية، بما فيها الأنفاق الحدودية، طالما أن هناك تماهيًا بتنا نراه خلال الفترة الماضية، يتعلق بالمحدد الأساسي الذي تنطلق منه تلك القوى (قوى ما دون الدولة)، من خلال منع تركيا بدرجة أساسية من الإقدام على أي عملية عسكرية.
ونبّه السكري إلى أن الإدارة الذاتية تتخوّف بدرجة أساسية من ابتلاع النظام السوري لمناطق نفوذها، من خلال انتشاره في مراكز القوة الأمنية على خطوط التماسّ الأولى مع قوات المعارضة السورية، وهذا يعني بطبيعة الحال إضعاف مركزية القرار داخل هيكل الإدارة الذاتية التي تحكم مناطق الإدارة.
وختم السكري حديثه أن هذا الانتشار هو بكل تأكيد وارد جدًّا كلما ارتفع الضغط التركي، ولكن هذا لا يعني أن ذلك لن يترتّب عنه تخوّفات وتوجّسات من قِبل الإدارة الذاتية بقدرة النظام السوري على الاستفادة من الحالة التي تفرضها هذه المعطيات، لابتلاع نموذج الإدارة الذاتية ومن ثم تفكيكه، ما يؤدّي إلى طبيعة علاقات جديدة بين النظام والإدارة، تنطلق بطبيعة الأحوال من تقديم تنازل من قبل الإدارة الذاتية فيما يتعلق بقانون الإدارة المحلية الذي ينطلق منه النظام، ويؤكد عليه باستمرار كأداة أساسية، من ثم يجري تفاهُم كامل.
تدرك الإدارة الذاتية أن العملية التركية قاب قوسَين أو أدنى، إلا أنها تصرّ على تغيير قواعد الاشتباك مع وقوف الداعم الأمريكي موقف المتفرج من جهة، وتوجّهها اضطرارًا أو مصلحيًا نحو التحالف مع نظام الأسد من جهة أخرى، فيما تحاول الاعتماد على تكتيكات متعددة تستخدم فيها كل المتاح لتحقيق أهداف في صفوف قوات الجيش الوطني والحليف التركي، إلا أن كل المؤشرات تؤكد أنها لصالح الجانب التركي لا سيما بعد عمليتَي غصن الزيتون ودرع الفرات، ومؤخرًا عملية نبع السلام.