بعد 3 أشهر من المحادثات التي بدت في كثير من الأحيان محكومًا عليها بالفشل، وقّعت روسيا وأوكرانيا اتفاقية للسماح ببيع الحبوب العالقة في موانئ أوكرانيا المحاصرة على البحر الأسود، ومساعدتها في الحصول على الأموال التي تشتد حاجتها إليها لمواصلة حربها ضد روسيا، وتلك صفقة لها تداعيات عالمية على أزمة الجوع العالمية الوشيكة، والنزاعات أو حتى الهجرة الجماعية التي يُخشى أن تنتج منها.
مع توقيع “صفقة الحبوب” بوساطة تركية أممية، عاد القمح والحبوب الأخرى إلى قلب الجغرافيا السياسية بعد الغزو الروسي لأوكرانيا، وسط تساؤلات عن تأثير الصفقة على انخفاض أسعار المواد الغذائية المرتفعة في جميع أنحاء العالم والتخفيف من حدّة أزمة الجوع المتصاعدة، التي يمكن الشعور بها بقوة في الدول الأفريقية، والتي تعتمد بشكل كبير على الحبوب الأوكرانية والروسية.
تداعيات محتمَلة
كان الهدف من “صفقة الحبوب”، الموقّعة بين كييف وموسكو بوساطة الأمم المتحدة وتركيا في إسطنبول في 22 يوليو/ تموز 2022، تغيير هذا الوضع الفوضوي من خلال اختراق دبلوماسي كبير يهدف، بحسب وكيل الأمين العام للشؤون السياسية وبناء السلام روزماري ديكارلو، إلى سدّ فجوة الإمدادات الغذائية العالمية، وخفض الأسعار المرتفعة التي أشعلتها الحرب التي دخلت شهرها الخامس.
وتأمل الأمم المتحدة أن تغادر الموانئ الأوكرانية 5 ملايين طن من الحبوب شهريًّا بموجب الاتفاق، وهو رقم يمكن مقارنته بمستويات ما قبل الحرب، ما يوفّر مساحة تخزين للمحاصيل الجديدة في أوكرانيا.
بموجب الاتفاق الذي صُوّر على أنه “الحلّ الخارق”، وعدت روسيا بعدم مهاجمة أي من السفن القادمة من الموانئ خارج المياه الإقليمية إلى البحر الأسود من قبل أي طرف، لكن هذا الوعد لم يدم طويلًا، فبعد أقل من 24 ساعة على توقيع الاتفاق، ضربت الصواريخ الروسية ميناء أوديسا الأوكراني المهم، وزعم المسؤولون الروس أنهم أصابوا أهدافًا عسكرية.
هذا هو السبب في أنه عندما كشف الأمين العام للأمم المتحدة، أنطونيو غوتيريش، عن “صفقة الحبوب”، كان مندفعًا بلا هوادة تقريبًا بوصفه إياها بأنها “منارة للأمل والإغاثة للبلدان التي هي في أمسّ الحاجة إليها أكثر من أي وقت مضى”، وبدلًا من ذلك وصفته كييف بأنه تلقّى “صفعة على وجهه” بعد تعرُّض ميناء أوديسا لقصف يمحي أدنى أثر للثقة من الجانب الأوكراني.
يؤكّد الهجوم الروسي أيضًا اتهام سابق لمسؤولين غربيين بتعمُّد موسكو عرقلة سلاسل الإمدادات العالمية خلال حربها في أوكرانيا، ففي الأيام الأخيرة أيضًا امتدّت الخطوط الأمامية للنزاع إلى بعض أغنى الأراضي الزراعية في أوكرانيا، حيث تعرّضت الحقول للهجوم، ما أجبر المزارعين على ترك أراضيهم، ولم يكن لديهم القدرة لتخزين ملايين الأطنان من الحبوب العالقة في البلاد، ففي يونيو/ حزيران الماضي دُمّرت صومعة تخزين الحبوب في مدينة ميكولايف، التي تقول أوكرانيا إن روسيا ضربتها بصواريخ كروز الجوية.
مثل هذه الهجمات الروسية، لا سيما الهجوم الأخير على ميناء أوديسا الحيوي، أحد الموانئ الثلاثة المشاركة في الاتفاقية، من المرجّح أن تقوِّض الاتفاق الذي يهدف إلى تجنُّب أزمة الغذاء العالمية.
بالإضافة إلى ذلك، قد يتردد تجّار الحبوب والسلع الغذائية في المشاركة في المنطقة إذا رأوا أنها تنطوي على مخاطرة كبيرة، ما من شأنه أن يقود إلى إفشال الصفقة في نهاية المطاف، لكن إذا التزمت روسيا بوعدها، فستكون الفوائد فورية.
في مقال نشرته مجلة “فورين بوليسي“، يرى المحلل الاقتصادي دارين نيوسوم أن “الصفقة قد لا تستحقّ الورقة التي كُتبت عليها”، مضيفًا أن “الاتفاق لن يحل الأزمة العالمية في الكثير من أسواق الحبوب هذه، أعتقد أن الأسواق ستظل متقلبة للغاية، وسنضطر إلى الاستمرار في التعامل مع هذا حتى يتمّ حل المشكلة الأكبر المتمثلة في غزو روسيا لأوكرانيا”.
بينما يزيد التفاؤل بالنسبة إلى آخرين، ففي مقال نشره موقع “ذا كونفرزيشن“، يرى أستاذ الاقتصاد الزراعي بجامعة ستيلينبوش في جنوب أفريقيا، أنه إذا التزمت روسيا بالاتفاق الذي وقّعته مع أوكرانيا للسماح باستئناف صادرات الحبوب من موانئ أوكرانيا على البحر الأسود، فسيتمّ توفير الحبوب التي تشتدّ الحاجة إليها للبلدان المستوردة، بما في ذلك العديد من البلدان الأفريقية.
ستكون الإمدادات كبيرة لأن أوكرانيا لديها أكثر من 20 مليون طن من الحبوب (القمح والذرة وبذور عبّاد الشمس والحبوب الأخرى) في الصوامع، لكنها لم تتمكّن من شحنها إلى أسواق التصدير بسبب الغزو الروسي الذي عطّل البنية التحتية، والهجمات على السفن التي تنقل البضائع، في تهديد صريح للمزارعين في أوكرانيا والأمن الغذائي العالمي.
رغم ذلك، قد يبالغ البعض أحيانًا في الدور الذي تلعبه أوكرانيا وروسيا في إنتاج القمح، فرغم أن البلدَين استحوذا على حوالي 27% من إجمالي القمح الذي تمَّ تصديره العام الماضي، فإن هذا لا يعني أنهما السبيل الوحيد لبلد ما للحصول على القمح، فغالبًا ما تقوم البلدان بتنمية قدراتها الخاصة ويمكنها الاعتماد على الاحتياطيات لمواجهة صدمات الأسعار.
حتى لو لم تؤدِّ “صفقة الحبوب” الأوكرانية الروسية إلى أي شيء، فإن أسعار الغذاء العالمية انخفضت إلى حدّ ما
هناك أيضًا الكثير من القمح في المخزونات العالمية، فدول مثل الصين والهند والولايات المتحدة والعديد من الدول الأخرى لديها ما يكفي من القمح المخزّن لاستيعاب أعداد كبيرة من السكان من 6 إلى 12 شهرًا أو أكثر، ويمكن لهذه البلدان الاستفادة من متاجرها لتفادي ارتفاع الأسعار، ما يؤدي إلى الركود في الإمدادات العالمية.
ومن المتوقع أن يبلغ عجز الصادرات من محصول القمح في البحر الأسود خلال موسم 2021-2022، بين روسيا وأوكرانيا، 7 ملايين طن فقط، في حين أن هذا يمثل 20-30% من الصادرات العالمية، إلا أنه يمثل 0.9% فقط من إنتاج القمح العالمي (حوالي 700-800 مليون طن لكل سنة في السوق).
وفي وقت مبكّر من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بدأ المزارعون في جميع أنحاء العالم في زراعة المزيد من القمح في محاصيلهم المزروعة في الخريف بسبب الحشد العسكري الروسي على حدود أوكرانيا، ومع ذلك ليس كل البلدان لديها المناخ أو الأرض أو الثروة لتجاوز أزمة الإمدادات.
ماذا يمكن أن تفعله 20 مليون طن من الحبوب؟
أوكرانيا لاعب بارز في سوق تصدير الحبوب والبذور الزيتية العالمية، فهي تؤمّن الحبوب لنحو 400 مليون نسمة حول العالم، وفي الأوقات العادية ستصدّر أوكرانيا -المعروفة بإحدى سلال الخبز في العالم- حوالي ثلاثة أرباع الحبوب التي تنتجها.
وفقًا لبيانات المفوضية الأوروبية، كانت أوكرانيا تصدّر قبل الحرب أكثر من 90% من منتجاتها الزراعية، أي حوالي 6 ملايين طن شهريًّا، عبر موانئ البحر الأسود، وبالتالي ساهمَ توقُّف الصادرات في الارتفاع الملحوظ في أسعار السلع الزراعية منذ اندلاع الحرب.
روسيا أيضًا من المورّدين الرئيسيين للمواد الغذائية للعالم، وهي مسؤولة عن إنتاج مشترك للذرة مع أوكرانيا بنسبة 4%، ومع ذلك تعدّ مساهمة كل منهما أكثر أهمية في الصادرات، حيث تمثل 14% من صادرات الذرة العالمية و58% من صادرات زيت عبّاد الشمس العالمية عام 2020، لذلك فإن للحرب التي شنّتها روسيا على أوكرانيا تأثيرها على صادرات الحبوب، لا سيما في جنوب الكرة الأرضية الذي يعتمد عليها بشكل كبير.
يميل معظم عملاء أوكرانيا إلى أن يكونوا من الدول الأقل تقدمًا، فقد كانت مصر وإندونيسيا أكبر المستوردين عام 2019، واعتمدت بعض الدول الأفريقية على صادرات كييف للحصول على صادراتها من القمح، ويؤكّد ذلك قول سيلستين توامبا، الرئيس التنفيذي لشركة “لا باستا”، أكبر منتج للطحين والمعكرونة في الكاميرون، لصحيفة “نيويورك تايمز“، عقب توقيع “صفقة الحبوب”: “كان الخناق يضيق، لذا من المفترض أن تساعدنا الصفقة على التنفُّس”.
النبأ السار هو أنه حتى لو لم تؤدِّ “صفقة الحبوب” الأوكرانية الروسية إلى أي شيء، فإن أسعار الغذاء العالمية انخفضت إلى حدّ ما، حيث تشير الأخبار المتداولة بعد ساعات من توقيع الصفقة إلى انخفاض أسعار القمح بنسبة 5%، لذا إذا كان بإمكان المزيد من الحبوب الأوكرانية الوصول إلى السوق، فهل هناك أسعار أقل تلوح في الأفق؟
يرى البعض أن أسعار الحبوب يمكن أن تنخفض مع توفر المزيد من إمدادات الحبوب في السوق العالمية، لكن الضربة الصاروخية الروسية التي استهدفت البنية التحتية لميناء أوديسا غيّرت هذه التوقعات المتفائلة، حيث ارتفعت أسعار القمح مرة أخرى في اليوم التالي بنسبة 4% لتصل إلى 7.86 دولارات للبوشل.
في الواقع، انخفضت أسعار القمح بالفعل إلى مستوى ما قبل الغزو بحلول 1 يوليو/ تموز، بينما عادت أسعار الذرة إلى مستويات ما قبل الحرب بحلول 17 يوليو/ تموز، ومع ذلك لا تزال أسعار الحبوب أعلى بنسبة 50% عمّا كانت عليه قبل 30 شهرًا.
بشكل عام، سيكون هذا الانخفاض المبدئي تطورًا جيدًا للمستهلكين، لا سيما أولئك الذين يعيشون في الدول النامية والفقيرة، ومن شأن التراجع المحتمل في الأسعار أن يعزز من الصورة الإيجابية بالفعل لأسعار الحبوب العالمية، والتي تراجعت عن المستويات القياسية التي وصلت إليها في الأسابيع التي أعقبت الغزو الروسي لأوكرانيا.
على سبيل المثال، انخفض مؤشر منظمة الأغذية والزراعة لأسعار الغذاء، وهو مقياس للتغيُّر الشهري لأسعار السلع الزراعية المختارة، بنسبة 2.3% في يونيو/ حزيران 2022 عن الشهر السابق، وهو ثالث انخفاض على التوالي في عدة أشهر، ففي يناير/ كانون الثاني 2022 بلغ متوسط المؤشر 136 نقطة بزيادة 1% عن ديسمبر/ كانون الاول 2021، حيث ارتفع بنسبة 21% على أساس سنوي، وهو أعلى مستوى له منذ أبريل/ نيسان 2011.
كانت النقطة المطمئنة في ذلك الوقت أنه لا يزال بالإمكان الاعتماد على منطقة البحر الأسود، التي تشكّل حصة كبيرة من صادرات الحبوب والبذور الزيتية، ومع ذلك ارتفعت النسبة بمقدار 29 نقطة (23.1%) عن قيمة المؤشر في السنة الماضية، ما يعني أن صفقة الحبوب الأخيرة واستئناف التجارة المحتمل من شأنهما أن يحررا صادرات الحبوب التي تشتد الحاجة إليها، ومع ذلك من المرجّح أن يكون تأثير الصفقة على أسعار الحبوب هامشيًّا.
في الأيام التي سبقت الغزو الروسي لأوكرانيا، كان هناك ارتفاع في الأسعار الدولية لعدد من السلع، وشملت الذرة (21%) والقمح (35%) وفول الصويا (20%) وزيت عبّاد الشمس (11%) مقارنة بالفترة نفسها من العام الماضي، ويعني هذا أن أسعار عام 2021 كانت مرتفعة بالفعل.
تعتبر الاتفاقية الأخيرة مهمة بشكل خاص لـ 14 دولة أفريقية، تعتمد، وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة، على الدولتَين المتحاربتَين في نصف وارداتها من القمح
هنا يجب على المرء أن يدرك أن الزيادات في أسعار المواد الغذائية ليست فريدة من نوعها بالنسبة إلى الكثير من الدول المستوردة، ففي مايو/ أيار 2022 بلغ متوسط تضخُّم أسعار المواد الغذائية الاستهلاكية في زامبيا وكينيا والبرازيل والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي أكثر من 10% على أساس سنوي، وبالمقارنة بلغ متوسط تضخُّم أسعار المواد الغذائية الاستهلاكية في جنوب أفريقيا 7.8%.
هناك أحداث مختلفة وراء هذه الزيادات في الأسعار، لكن التركيز ينصبّ على الحرب بين روسيا وأوكرانيا واضطراباتها في سلاسل التوريد ومخزونات الحبوب في أوكرانيا، لكن في الواقع جاءت الحرب عندما كانت أسعار الغذاء العالمية في اتجاه تصاعدي بالفعل.
كان هناك بعض العوامل التي أدّت إلى ارتفاع أسعار المنتجات الزراعية في العامَين السابقَين للصراع، وشمل ذلك الجفاف الذي قوّض الإنتاج في أمريكا الجنوبية وشرق أفريقيا وإندونيسيا، وأدّى الطلب المتزايد على الحبوب والبذور الزيتية في الهند والصين إلى الضغط على الأسعار العالمية، والتحرك نحو دعم الوقود الحيوي من قبل إدارة الرئيس الأمريكي جو بايدن، والاضطرابات في سلاسل التوريد والزيادة في تكاليف الشحن بسبب فيروس كورونا، لهذا من غير المرجّح أن تعود أسعار الحبوب إلى مستويات ما قبل الحرب.
بشكل عام، ستعتمد أسعار الحبوب والبذور الزيتية العالمية على حجم الاضطراب وطول الفترة الزمنية التي سيتأثر فيها النشاط التجاري الذي سيؤدّي استئنافه إلى تحرير ملايين الأطنان من الحبوب من أوكرانيا، في حين يعني استمرار الصراع بين روسيا وأوكرانيا أن الضغط على الأسعار سيستمر، وستكون المناقشات الدولية متعددة الأطراف عاملًا حاسمًا في تحديد ما إذا كانت تجارة الحبوب ستُستأنف من البحر الأسود.
كيف ستؤثر صفقة الحبوب على أفريقيا؟
من المرجّح أن يفيد انخفاض الأسعار المحتمَل وزيادة العرض نتيجة الاتفاق بين روسيا وأوكرانيا جميع البلدان المستوردة والمستهلكين على المدى المتوسط، هذا إذا افترضنا أن خطوط الشحن ستبدأ في تلقّي الطلبات ونقل الحبوب بعد هجوم أوديسا، وأن الصفقة لن تتعرّض للانهيار كما لوّحت روسيا في حال عدم رفع العقبات التي تعترض الصادرات الزراعية الروسية على الفور.
من منظور أفريقي، هناك تجارة زراعية كبيرة بين دول القارة السمراء وروسيا وأوكرانيا، حيث تستورد القارة حوالي 80 مليار دولار أمريكي من المنتجات الزراعية سنويًّا، خاصة القمح وزيت النخيل وبذور عبّاد الشمس، بنمو يبلغ حوالي 6% سنويًّا، وتبلغ فاتورة الواردات الغذائية السنوية من منطقة أفريقيا جنوب الصحراء حوالي 43 مليار دولار أمريكي سنويًّا.
لقد أدرك الكثير من الناس أن روسيا وأوكرانيا لاعبان أساسيان في سوق السلع الزراعية العالمية، حيث تنتج روسيا حوالي 10% من القمح العالمي بينما تنتج أوكرانيا 4%، ويعادل هذا تقريبًا حجم إجمالي إنتاج القمح في الاتحاد الأوروبي، ويمثل البَلدان معًا ربع صادرات القمح العالمية.
وفي عام 2020، استحوذت روسيا على 18%، بينما استحوذت أوكرانيا على 8%، لذلك مهما كانت النتائج هامشية، فإن أي انخفاض محتمَل في أسعار هذه السلع سيكون إيجابيًّا للبلدان المستوردة والمستهلكين في نهاية المطاف.
الأهم من ذلك أن البلدان الأفريقية استوردت منتجات زراعية بقيمة 4 مليارات دولار من المنتجات الزراعية من روسيا عام 2020، 90% منها قمح و6% بذور عبّاد الشمس، وكانت الدول المستوردة الرئيسية هي مصر، التي استحوذت على ما يقارب نصف الواردات، تليها السودان ونيجيريا وتنزانيا والجزائر وكينيا وجنوب أفريقيا.
وبالمثل، تستورد أفريقيا ما قيمته 2.9 مليار دولار من المنتجات الزراعية من أوكرانيا، حوالي 48% منها قمح و31% ذرة، وشمل الباقي زيت عبّاد الشمس والشعير وفول الصويا، وبالتالي تُعتبر الاتفاقية الأخيرة مهمة بشكل خاص لـ 14 دولة أفريقية، تعتمد، وفقًا لمنظمة الأغذية والزراعة، على الدولتَين المتحاربتَين في نصف وارداتها من القمح، بينما تعتمد دولة واحدة، هي إريتريا، عليهما بشكل كامل.
وتمثل الحبوب العالقة في أوكرانيا أهمية كبيرة للبلدان المجاورة، التي اعتمدت لسنوات على سلسلة الإمداد الغذائي التي تبدأ في موانئ البحر الأسود.
مصر، على سبيل المثال، لا تزال تنتظر تسليم حوالي 300 ألف طن من القمح الأوكراني كانت من المفترض أن تصل إلى شواطئها في فبراير/ شباط ومارس/ آذار الماضيين، وتواجه دول أخرى في الشرق الأوسط وأفريقيا نقصًا، من بينها لبنان الذي كان يعتمد قبل الحرب على أوكرانيا في حوالي 60% من واردات القمح.
رغم ذلك، وبحسب المحللة في مجموعة الأزمات الدولية نازنين مشيري، من المتوقع أن يكون للاتفاق تأثير محدود في بعض الأجزاء الأخرى من أفريقيا، حيث تكافح الدول أزمات سياسية واقتصادية واجتماعية داخلية ساهمت أيضًا في زيادة الجوع وارتفاع أسعار المواد الغذائية، وينطبق هذا بشكل خاص على بلدان شرق أفريقيا، حيث أدّى أسوأ جفاف منذ 4 عقود إلى تدمير المزارع والماشية وجفاف الأنهار والآبار وموت مئات الأطفال.
على سبيل المثال، أدّت الحرب الأهلية في إثيوبيا، وعدم اليقين السياسي في السودان، والصراع والإرهاب في دول مثل بوركينا فاسو ومالي والصومال، إلى منع الحكومات والوكالات الإنسانية من إيصال المساعدات إلى العديد من الأشخاص المحتاجين، وفي كينيا ساعد ارتفاع الدين الحكومي والتضخم في ارتفاع أسعار المواد الغذائية، ما أدّى إلى احتجاجات في الشوارع وغضب واسع النطاق على وسائل التواصل الاجتماعي في الأسابيع الأخيرة.
في المقابل، تستفيد بعض دول القارة، مثل جنوب أفريقيا، من تصدير الفاكهة إلى روسيا، حيث في عام 2020 استحوذت روسيا على 7% من صادرات جنوب أفريقيا من الحمضيات، وشكّلت 12% من صادرات جنوب أفريقيا من التفاح والكمثرى في العام نفسه، لكن من منظور أفريقيا تُعتبر الواردات الزراعية لروسيا وأوكرانيا من القارة هامشية، حيث بلغت 1.6 مليار دولار أمريكي فقط في السنوات الثلاث الماضية.
المكاسب التي حققتها روسيا في ساحة المعركة في الأشهر القليلة الماضية تعني أن تحرير تلك الموانئ الأوكرانية لن يمنح أوكرانيا سيطرة كاملة على منتجاتها
وبشكل عام، يحمل ارتفاع أسعار السلع أنباء سيئة للمستهلكين الذين عانوا بالفعل من ارتفاع أسعار المواد الغذائية على مدى العامَين الماضيَين، في حين سيفيد انخفاض الأسعار المستهلكين في جميع أنحاء العالم، خاصة في الدول الأفريقية النامية، كذلك سيستفيد أكبر مستوردي القمح في أفريقيا من استئناف الشحنات من موانئ أوكرانيا.
في المقابل، لا يمكن لأحد أن يغفل حقيقة أن المزارعين الأوكرانيين سيستفيدون أيضًا، مع احتمال توفير مساحة لتخزين محصول الموسم الجديد، وسيكون ارتفاع الأسعار أكثر فائدة، خاصة بالنسبة إلى مزارعي الحبوب والبذور الزيتية، الذين كانوا قلقين من أنه دون استئناف التجارة سوف تتعفّن محاصيلهم في الصوامع، ويمثل ارتفاع الأسعار بالنسبة إليهم فرصة لتحقيق مكاسب مالية، وسيكون هذا موضع ترحيب خاص نظرًا إلى ارتفاع تكاليف الأسمدة التي أجهدت مواردهم المالية.
هل تكفي الاتفاقية لحلّ أزمة الغذاء؟
يبدو رفع الحظر عن صادرات الحبوب خبرًا سارًّا، لكن بحسب البعض لا يعالج الارتفاع الشديد في أسعار الأسمدة والوقود، والتي دفعتها الحرب الأوكرانية وأثّرت على الأمن الغذائي، حتى إذا تمَّ الوفاء بالاتفاق، فإن المكاسب التي حققتها روسيا في ساحة المعركة في الأشهر القليلة الماضية تعني أن تحرير تلك الموانئ الأوكرانية لن يمنح أوكرانيا سيطرة كاملة على منتجاتها.
ففي ظل مخاوف المصدّرين بشأن التأمين سفن الحبوب في المياه الملغومة، يتهم المسؤولون الأوكرانيون موسكو بسرقة ما لا يقلّ عن مليون طن من الحبوب والمحاصيل الزيتية التي تقدَّر قيمتها بحوالي 600 مليون دولار، بينما تنفي روسيا سرقتها للحبوب، وروّجت علانية لاستئناف شحنات الحبوب من الموانئ التي تمَّ الاستيلاء عليها.
Russian thieves steal Ukrainian grain, load it onto ships, pass through Bosporus, and try to sell it abroad. I call on all states to stay vigilant and refuse any such proposals. Don’t buy the stolen. Don’t become accomplices to Russian crimes. Theft has never brought anyone luck.
— Dmytro Kuleba (@DmytroKuleba) May 24, 2022
الأخبار السيئة هي أنه لا يزال هناك الكثير من عوامل التضخم، حيث لا يزال مؤشر أسعار الغذاء أعلى بنسبة 29% عن الوقت نفسه من العام الماضي، فقد أدّت ضغوط العرض التي سبقت الحرب إلى ارتفاع الأسعار بشكل مطّرد اعتبارًا من عام 2020 فصاعدًا.
ووفقًا لتقرير مجلة “بلومبيرغ”، زادت الصادرات الغذائية من شبه جزيرة القرم بمقدار 50 ضعفًا منذ بدء الحرب، فخلال هذا العام تمَّ شحن ما لا يقل عن 462 ألف طن من المواد الغذائية، مثل الحبوب والبذور الزيتية والزيوت النباتية والبقول والبروتينات، من ميناء سيفاستوبول، مقابل 8 آلاف طن فقط في العام السابق.
في غضون ذلك، يحذّر العاملون في المجال الإنساني من أن الصفقة ليست الدواء الشافي، حيث يقول تجادا دي أوين ماكينا، الرئيس التنفيذي لمنظمة الإغاثة الخيرية Mercy Corps، الذي رحّب بحذر بالصفقة، في بيان، إنها “لن تغير بشكل كبير السعر أو توفر الوقود والأسمدة والسلع الأساسية الأخرى التي تجاوزت الآن مدى وصول الكثيرين، لا سيما في البلدان ذات الدخل المنخفض، وبالتأكيد لن تنهي أو تغير بشكل كبير مسار أزمة الغذاء العالمية المتفاقمة، ولن تساعد غالبية الـ 50 مليون شخص حول العالم الذين يقفون على شفا المجاعة”.
ربما تخفّف القدرة على نقل الحبوب عبر أوديسا بعض هذه الأعباء، كما تقول بيل ترو مراسلة شؤون الشرق الأوسط بصحيفة “ذا إندبيندنت” البريطانية، ولكنها لن تغطي في النهاية كل الأضرار التي تكبّدها قطاع الزراعة
كذلك أشاد المدير التنفيذي لبرنامج الأغذية العالمي، ديفيد بيزلي، في البداية بالصفقة، لكنه لم يغرّد عنها بعد منذ استهداف الميناء الأوكراني، فقد تأثرت التكاليف التشغيلية الإجمالية لبرنامج الأغذية العالمي بشكل كبير جرّاء ارتفاع أسعار المواد الغذائية والنفط، فقد ارتفعت النفقات بالفعل بنسبة 50% منذ عام 2019، وزادت النفقات بما يصل إلى 71 مليون دولار شهريًّا، وقد أجبر ذلك الوكالة على تقليص حصص الإعاشة في مناطق الجوع الساخنة مثل اليمن وإثيوبيا.
بالإضافة إلى ذلك، قد لا يتمكّن برنامج الغذاء العالمي من توفير الغذاء للتبرعات في المناطق الأفريقية المتعثرة، مثل شرق أفريقيا، حيث يواجه 13 مليون شخص جوعًا شديدًا في إثيوبيا وكينيا والصومال، بينما يجتاح الجفاف منطقة القرن الأفريقي التي تشهد أكثر الظروف جفافًا منذ عام 1981، بحسب برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة.
ربما تخفّف القدرة على نقل الحبوب عبر أوديسا بعض هذه الأعباء، كما تقول بيل ترو، مراسلة شؤون الشرق الأوسط بصحيفة “ذا إندبيندنت” البريطانية، ولكنها لن تغطي في النهاية كل الأضرار التي تكبّدها قطاع الزراعة، ولن تعيد الأراضي الأوكرانية إلى أصحابها، حيث يبدو أن المشكلة تتخطى حدود أوكرانيا وروسيا، وأن كارثة الغذاء العالمية تتخطى بكثير الـ 20 مليون طن من الحبوب العالقة في أوكرانيا.