لا تزال أصداء زيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي، نانسي بيلوسي، لتايوان تلقي بظلالها القاتمة على المشهد الصيني الأمريكي، حيث ارتفاع سخونة الأجواء بما ينذر بتصعيد ربما يدفع بالمنطقة إلى آتون حرب شاملة قد تفوق في مخاطرها تلك المشتعلة الآن في أوكرانيا.
ورغم أن زيارة بيلوسي لم تتجاوز بضع ساعات، التقت خلالها رئيسة تايوان تساي إنغ ون وعددًا من المسؤولين البارزين، فإنها وصفت بالتاريخية كونها لأعلى مسؤول أمريكي منتخب يزور تايبيه منذ 25 عامًا التي تعتبرها بكين جزءًا من أراضيها، متوعدة بـ”إعادة توحيدها” بالقوة إذا لزم الأمر.
ويرى الصينيون أن الزيارة – رغم التحذيرات الاستباقية منها – تمثل خرقًا كبيرًا لسيادة بلادهم وتهديدًا مباشرًا لأمنهم القومي، وهو ما أثار غضب السلطات الصينية التي توعدت بالرد الحاسم على تلك الخطوة التي وصفتها بالاستفزازية، فيما تعهد وزير الخارجية الصيني وانغ يي بأن “الذين يسيئون للصين سيعاقبون حتمًا”، وذلك على هامش اجتماع لرابطة دول جنوب شرق آسيا في “بنوم بنه” عاصمة كمبوديا الأربعاء 3 أغسطس/آب 2022.
تعلم بكين جيدًا أن الهدف الأبرز من دعم الولايات المتحدة لتايوان وتوسيع دائرة تحالفاتها في جنوب وشرق آسيا هو ردع الصين وتقويض نفوذها الممتد في محاولة لعرقلة هيمنتها على المنطقة ومنافستها لأمريكا عبر محاصرتها داخل إقليمها وتشتيت تركيزها وفتح جبهات عدة أمامها، إلا أن ترك هذا التوجه دون ردة فعل حازمة ربما يطمع الأمريكان في تعميق تلك السياسة التي بلا شك ستهدد مستقبل الصين بأكمله.. فماذا عن ردة فعل التنين الصيني المتوقع إزاء هذا التصعيد؟
رسالة شديدة اللهجة
ما إن حطت طائرة بيلوسي عجلاتها في مطار تايبيه في 2 من الشهر الحاليّ حتى زخمت الأجواء بالمقاتلات الجوية الصينية استعدادًا لأكبر مناورة عسكرية تنظمها القوات الجوية الصينية في تاريخ البلاد، حيث نفذت نيرانًا بعيدة المدى في ضربات دقيقة في الجزء الشرقي من مضيق تايوان، بينما أعلنت سفن البحرية التايوانية تأهبها لمراقبة المشهد والاستعداد لأي تجاوز محتمل، بحسب وكالة “رويترز“.
المناورة الأكثر شراسة في الآونة الأخيرة أثارت حفيظة تايبيه وعززت من حالة القلق التي خيمت على الشارع التايواني، فيما انتقدها الحزب التقدمي الحاكم في البلاد، لافتًا إلى أنها “تثير التوتر في المنطقة”، واصفًا إياها بـ”غير المشروعة”، مضيفًا أن التدريبات التي تجريها الصين في هذه المنطقة اللوجستية المهمة، أكثر الممرات المائية ومسارات الطيران ازدحامًا، هو سلوك أحادي الجانب وغير مسؤول.
تمثل تلك المناورة رسالة صينية شديدة اللهجة للتصعيد الأمريكي الذي يأتي في وقت يعاني فيه النظام الدولي من توترات حادة على رأسها الحرب الروسية الأوكرانية التي عززت معها حرب الاستقطابات العالمية
وردًا منها على هذا التصعيد أعلنت تايوان أنها أطلقت مقاتلات لإبعاد 27 طائرة صينية في منطقة الدفاع الجوي بالجزيرة، لافتة إلى أن 22 من تلك الطائرات تجاوز الخط الفاصل بين الجزيرة التي تتمتع بالحكم الذاتي والصين، وهو خرق واضح للقانون الدولي، وكانت السلطات التايوانية قد كشفت عن تعرض بعض المواقع الإلكترونية الحكومية مؤخرًا لهجمات إلكترونية كبيرة بما فيها المكتب الرئاسي، متهمة الصين وروسيا بالوقوف خلفها.
وتمثل تلك المناورة رسالة صينية شديدة اللهجة للتصعيد الأمريكي الذي يأتي في وقت يعاني فيه النظام الدولي من توترات حادة على رأسها الحرب الروسية الأوكرانية التي عززت معها حرب الاستقطابات العالمية، وبينما كان يستبعد الكثير من المراقبين إقدام واشنطن على تلك الخطوة في ظل التحذيرات الداخلية بتجنب استفزاز بكين، خشية فتح جبهة تصعيد جديدة لم يكن أحد على استعداد لها في الوقت الحاليّ، كان إصرار بيلوسي على زيارة تايبيه مفاجأة للكثيرين، وهو ما أحدث صدمة للشارع الصيني الذي بات مجبرًا على الرد حفاظًا على هيبته التي يرى البعض أن تلك الزيارة أحدثت خدوشًا غائرة بجدارها.
تايوان الضحية الكبرى
محاولات عدة قام بها كبار مسؤولي الأمن القومي الأمريكي لإثناء بيلوسي عن زيارتها تلك، أو تأجيلها على الأقل، بدعوى أن الفوائد المحققة منها لا تتناسب مطلقًا مع مخاطرها المحتملة، في ظل أن أولوية واشنطن في الوقت الراهن تتمحور حول تقليل خطر أي سوء تقدير في علاقات البلاد الخارجية وعلى رأسها الصين، حسبما أشار المحلل السياسي الأمريكي جوش روجين في مقاله بصحيفة “واشنطن بوست” الذي كشف فيه عن التأثير الأكبر لزيارة رئيسة مجلس النواب الأمريكي لتايوان سيظهر بعد عودتها إلى بلادها، وأن الأمر قد يستغرق شهورًا وسنوات، بما يعزز من توتير الأجواء الصينية الأمريكية فيما تقع تايوان في المنتصف لتصبح الضحية الكبرى لردة فعل الصين المحتملة.
ويعتقد روجين – استنادًا إلى عدة مصادر في الإدارة الأمريكية – أن الرد الصيني سيكون على عدة مراحل وليس مرحلة واحدة كما يتوقع البعض، في إشارة إلى التصعيد العسكري، الذي ربما يكون له تداعيات سلبية على العلاقات بين البلدين ستؤثر على مصالحهما معًا في نفس الوقت.
ومن المتوقع أن تدفع تايبيه كلفة تلك الزيارة من اقتصادها وسيادتها الوطنية وأمنها القومي، إذ إن رد الصين سيكون انتقاميًا بحسب “واشنطن بوست” ولن تجد بكين إلا تايوان للثأر منها ردًا على الخطوة الأمريكية المستفزة، كذلك توجيه رسالة تحذيرية لتجنب مثل تلك الخطوة مستقبلًا.
الزيارة الاستفزازية لبيلوسي لن تمر مرور الكرام، إذ تراها بكين تمس سيادتها وصورتها أمام العالم، وعليه سيكون الرد
ربما تتجنب بكين تجاوز الخطوط الحمراء في أي تصعيد مع أمريكا في الوقت الراهن، غير أن الصمت إزاء هذه الخطوة سيقوض صورتها عالميًا، وعليه ربما يكون الاقتصاد التايواني هو الهدف الأول للصينين، وهو ما بدأت إرهاصاته تلوح في الأفق، إذ فرضت الحكومة الصينية حظرًا على أكثر من 100 سلعة كانت تستوردها من تايوان، هذا بجانب تقليل حجم التجارة بين الطرفين، وعرقلة أي حضور اقتصادي للجزيرة خارجيًا، الأمر الذي من المرجح أن ينعكس على الوضع المعيشي الداخلي مما قد ينجم عنه اضطرابات داخلية تهدد أمن واستقرار الحكومة الحاليّة.
وعلى المستوى الأمني، فقد تجري بكين بعض التغييرات في موقفها العسكري إزاء تايوان، بما يوسع الهوة الكبيرة في القدرات العسكرية للبلدين، يتزامن ذلك مع تعزيز حرب الإنترنت والمعلومات عبر الهجمات السيبرانية التي ربما تصيب المواقع الحكومية التايوانية بالشلل التام، وفق ما ذهب إليه المحلل الأمريكي.
وسياسيًا، فإن استقبال تايبيه لشخصية بحجم رئيسة مجلس النواب الأمريكي، ربما يدفع بكين إلى إعادة النظر في العروض التي تقدمها واشنطن لتخفيف حدة التوتر مع تايبيه وتعزيز التعاون في ضوء تموضوعات جديدة تحافظ على شعب الجزيرة وسيادته فوق ترابه، إذ من الممكن أن تتخذ تلك الزيارة كذريعة لرفض أي وساطات في هذا الملف.
واختمم الكاتب مقاله بالإشارة إلى أن تايوان لم يعد أمامها في ظل تلك الوضعية الجديدة إلا إسراع الخطى لتقليل الاعتماد على الصين، على المستوى الاقتصادي على أقل تقدير، وهو ما يتطلب تعزيز الجهد الدولي لدعم الجزيرة اقتصاديًا ودبلوماسيًا وعسكريًا في أسرع وقت ممكن قبل تحقيق الانتقام الصيني أهدافه كاملة.
وفي الأخير فإن الزيارة الاستفزازية لبيلوسي لن تمر مرور الكرام، إذ تراها بكين تمس سيادتها وصورتها أمام العالم، وعليه سيكون الرد، لكن طبيعة الانتقام ومساراته هو ما سيحدد خريطة العلاقات بين البلدين – المتوترة بطبيعة الحال – خلال المرحلة المقبلة، فيما تدفع تايوان الثمن، لكنه الثمن الذي سيتحدد قيمته استنادًا إلى حجم ومنسوب ومستوى الدعم الأمريكي والغربي المحتمل تقديمه للجزيرة في مواجهة البركان الصيني المتوقع.. فهل تفي أمريكا بوعودها تجاه تايوان؟ هذا ما ستكشفه الأيام القادمة.