جاءت الموجة الأولى من الثورات العربية عظيمة، بدت للوهلة الأولى أنها ستنزع البؤس والظلم خلال أيام ليحل مكانه العدل والرخاء، وغنى الجميع لتلك الثورات وتعاطفوا معها وعلقوا عليها الآمال، واليوم وبعد مرور أربع سنوات أو يزيد، لا يظهر للعيان أي شيء من هذا – باستثناء تونس – بل على العكس تمامًا، فالأرقام تشير إلى واقع مؤسف يبدو أنه أسوأ بكثير مما كان عليه، فأرقام الضحايا في سوريا ومصر والعراق وباقي دول الثورات العربية تخبرنا بمآس حقيقية، بناءً عليه .. هل يمكننا القول بأن الثورات قد فشلت؟
طبيعة الثورات تخبرنا شيئًا آخر، فالثائر هو شخص (عادي) غير مدرب ولا يملك القوة، إمكاناته محدودة وكذلك احتياجاته .. وهنا تكمن قوته! في الطرف الآخر يوجد الخصم، الدولة أو العصابة الحاكمة في الحقيقة، عظيمة القوة والإمكانات وأيضًا كثيرة الاحتياجات .. وهنا يكمن ضعفها!
أضرب مثالاً من سوريا حيث كنت وعاينت الأحداث، كيف أن بضعة مئات من الثوار السلميين كانوا يخرجون بمظاهرة لمدة ساعة يصورونها بالهواتف مع بعض اللافتات ولا يكلف كل ذلك أكثر من 100 ليرة سورية (دولارين)، من جهته يضطر النظام لقمعها إلى تسيير الجيوش وحشد الجنود بكلفة بلغت الملايين، وحتى عندما تسلحت الثورة بقي الفرق بين كلفة الثوار وكلفة الجيش النظامي هائلة جدًا إذا ما نظرنا إلى النتائج على الأرض.
هذه المقارنة بين الثائر والظالم وجدت على مر الزمن، فدائمًا ما يكون الثائر ذا إمكانات محدودة جدًا مقارنة بخصمه ثم ينتصر بالرغم من ذلك، هذا لأن الثورة حرب من نوع آخر حرب بين البرغوث والكلب كما يحلو للبعض تسميتها، في هذه الحرب يكفي الثائر أن يبقى على قيد الحياة حتى ينتصر، يكفيه أن يثبت للجميع زيف قوة هذا المستبد وأن يسقط هيبته بين الناس، يكفيه أن تصل فكرة الثورة إلى الناس جميعًا، وأن يرفضوا هذا الظالم حتى لو في حديثهم مع أنفسهم، حتى أعداء الثورة وإن لم يقتنعوا بها فقد تسرب الشك إلى نفوسهم حول أسطورة ذلك المستبد والتي لا تلبث أن تهوى على رؤوسهم.
مهمة الثائر في أصلها أن ينشر معنى الثورة وأن يزعزع الاستبداد وأن يستنزف خصمه إلى أن ينهار، وليس عليه أن يحسم الأمر طالما أن قوته لا تسمح بذلك، ثم إذا سقط الخصم منهكًا وقضي عليه؛ تنتهي الثورة هنا، فيخلع ثوب الثورة ليلبس ثوب العامل ويبدأ البناء.
من منا لم تمتد إليه الثورة بأي شكل من أشكالها، فأثرت عليه حتى وإن رفضها أو لم يشارك فيها؟! ألم تصبح الثورات وقصص المستبدين حديث الشارع؟! ربما لا أبالغ إذا قلت أن وعيًا بهذا الحجم عن خطورة المستبدين والظلمة وقيمة العدل وحقوق الشعوب لم يوجد في مجتمعاتنا منذ مئات السنين، ما فعله الثوار لم يستطلع آلاف الدعاة والعلماء والجامعات والقنوات فعله على مدى عشرات السنين، ربما يبدو ذلك قليلاً جدًا بحجم التضحيات التي بذلت ولكن التاريخ يخبرنا أن ثمن الحرية أبهظ مما نظن.
ويكفي الثوار فخرًا – أيًا كان منهم – أنهم دمروا الخوف من قلوب الناس وأسقطوا هيبة المستبد من القلوب، ولا نلبث أن نسمع قريبًا عن سقوط الأسد ثم السيسي ثم يتتابع البقية، ليس لأن أحدًا ما قرر إسقاطهم بل لأن أسباب بقائهم أصبحت معدومة.
الثورة بهذا المعنى لا يستطيع أحد سرقتها وتبقى في قلوب الناس الضمان الحقيقي كي لا يعود مستبد مرة أخرى ويتسلط على الشعب، ليس هذا كلامًا نظريًا، فالمستبد ليس إلا شكلاً من أشكال فهم الشعب للعلاقة بين الحاكم والمحكوم، فالشعب يصنع المستبد وهو الذي يقضي عليه، وإذا صَلُح الفهم انصلح المفهوم!