تسير العلاقات بين أنقرة والشرق الليبي نحو انفراجة نسبية، بعد قطيعة دامت لسنوات في ظل تبايُن وجهات النظر بشأن إدارة الملف الليبي برمّته، وذلك في أعقاب الزيارة الهامة التي قام بها رئيس البرلمان الليبي، عقيلة صالح، لأنقرة، برفقة نائب رئيس المجلس الرئاسي، عبد الله اللافي، ثم تبعهما رئيس المجلس الأعلى للدولة، خالد المشري، قبل يومَين.
والزيارة هي الأولى لصالح منذ تولّي منصبه عام 2014، وتشكِّل نقلة نوعية في مسار العلاقات التركية الليبية، إذ تضع أنقرة على أعتاب دور جديد بعد الانحياز التام لحكومة الغرب المدعومة أمميًّا طيلة السنوات الماضية، في مواجهة ميليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر وحاضنته السياسية.
وشهدت الساعات الماضية حراكًا دبلوماسيًّا مكثفًا لتقريب وجهات النظر بين الفرقاء الليبيين، تحديدًا بين طرفَي النزاع الحالي، رئيس مجلس النواب ورئيس مجلس الدولة، في ضوء الغموض السياسي الذي يخيّم على الأجواء الليبية رغم النتائج الإيجابية الأولية التي حققتها المباحثات والمفاوضات الأممية.. فهل حققت الزيارة أهدافها؟
حراك دبلوماسي مكثّف
بداية كانت الزيارة غير محددة الأهداف ومجهولة الملفات المزمع طرحها على طاولة النقاش، وهو ما فتح الباب أمام التكهّنات والتأويلات المتعلقة بكواليسها، وما يمكن أن يتمخّض عنها من نتائج تسهم في حلحلة الأزمة وتفضّ الاشتباك بين الملفات المعقّدة داخل المشهد الليبي.
تشير التقارير الإعلامية إلى عقد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عدة لقاءات مع أعضاء الوفد الليبي، كل على حدة، حيث التقى في اجتماع مغلق مع صالح واللافي وناقشوا العديد من الملفات برفقة عدد من المسؤولين الأتراك المعنيين، وبعد ذلك اجتماع آخر مع المشري تطرّق إلى المسائل الخلافية بين القوى السياسية داخل الساحة الليبية.
وفي بيان صحفي له، كشف المتحدث باسم مجلس النواب الليبي، عبد الله بليحق، أن اللقاءات مع الجانب التركي تضمّنت التأكيد على “وحدة ليبيا ودعم إرساء الاستقرار والسلام والتعجيل في إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في أقرب الآجال”، مضيفًا أن “رئيس البرلمان أكّد خلال زيارته تركيا أن الأولوية تسلُّم حكومة فتحي باشاغا للسلطة عقب نيلها الثقة من مجلس النواب، لضمان إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في البلاد”.
أما نائب رئيس المجلس الرئاسي غرّد على حسابه الشخصي على تويتر، قائلًا: “التقينا في أنقرة الرئيس رجب طيب أردوغان بحضور رئيس مجلس النواب المستشار عقيلة صالح، وتناولنا التطورات السياسية وقربنا وجهات النظر في الحفاظ على وحدة ليبيا والإسراع في إجراء الانتخابات من خلال الاتفاق على التشريعات اللازمة عبر حكومة واحدة قوية، والتأكيد على استبعاد الحل العسكري لحسم الخلافات التي تشهدها الساحة الليبية حاليًّا”.
نقلة في الدور التركي ليبيًّا
تعكس الزيارة، التي ربما تُوصف بالاستثنائية، التغيُّر الواضح في رؤية الأطراف الليبية لتركيا كأحد المحاور الهامة في هذا الملف، وهو ما يتعارض بشكل كبير مع النظرة السابقة التي كانت تنظر إلى الدور التركي على أنه أحادي التوجُّه، الداعم على طول الخط للمعسكر الغربي على حساب الشرقي، بما يعزز حالة الانقسام، هكذا كان يرى أنصار المعسكر الشرقي.
اليوم، وحين يستهدف صالح المقرَّب من حفتر، ورفيقه اللافي، ومعهما في الجهة الأخرى المشري، أنقرة كقبلة واحدة، فإن لذلك دلالات هامة ورسائل محورية تنقل تركيا من دور الطرف إلى الوسيط، الأمر الذي يعكس حجم ونفوذ تركيا في المشهد الليبي، وفق ما ذهب الصحفي الليبي محمود المصراتي، الذي أكّد دعمه المطلق لتلك الزيارة.
وأضاف المصراتي: “دعوني أقولها لكم بصراحة قد لا تعجب كثيرين، لو كنت مكان عقيلة سأذهب إلى تركيا لسبب واحد، وهو أن كل تواصلات عقيلة والجيش ومَن معهم من ساسة ومجالس مع المنطقة الغربية تصطدم في النهاية بفيتو تركي لأن سيطرتهم على القرار السياسي والقواعد والمؤسسات لا تخفى على أحد”، وفق تصريحاته لـ”إندبندنت عربية”.
وألمح إلى أن الذهاب إلى تركيا هو الحل الأمثل للوصول إلى نتائج إيجابية لحلحلة الأزمة، لافتًا إلى أن الزيارات التي قام بها صالح إلى المغرب قبل ذلك لم تسفر عن شيء، إذ إنه لم يكن طرفًا مؤثرًا في المشهد، متسائلًا: “لماذا يضيّع صالح وقته مع كل هذه الأطراف وهو قادر عبر طرح ما في جعبته من تطمينات اقتصادية واستثمارية، والتفاهم مع أردوغان على اتفاقات نهائية وملزمة تنهي كل الإشكالات الحالية؟”.
هل تحقق الزيارة أهدافها؟
يشير الصحفي الليبي أسامة علي، نقلًا عمّا أسماه “مصادر مقرَّبة من مجلس النواب الليبي”، في تقرير نشره “العربي الجديد”، أن الهدف الأبرز وراء زيارة صالح لأنقرة يتمثّل في الاستعانة بالنفوذ التركي في الغرب الليبي، للضغط على الكيانات السياسية والمجموعات المسلحة هناك بتراجعها عن دعم حكومة عبد الحميد الدبيبة وتأييد حكومة فتحي باشاغا في دخول العاصمة واستلام مهامها رسميًّا، بعد الرفض الذي قوبلت به سابقًا.
كما كشف عن أن المشري لم يلتحق بصالح إلى تركيا إلا بعد أن وصلت المحادثات في هذا الاتجاه -دعم باشاغا- إلى مستويات متقدمة، وهو ما أقلقه بصورة دفعته للمشاركة في تلك الاجتماعات لتوصيل رؤيته الخاصة للجانب التركي، وقد تراجع المشري عن دعم باشاغا المكلف بتشكيل الحكومة بناءً على اتفاق بين مجلس النواب والمجلس الأعلى للدولة، بعد المخاوف من إمكانية وجود تقارب حقيقي بينه وبين حفتر.
ووفق مصادر برلمانية ليبية، فإن زيارة صالح لتركيا لم تنجح في تغيير موقف أنقرة لصالح باشاغا، إذ لا يزال الجانب التركي داعمًا وبقوة لرئيس حكومة الوحدة الوطنية عبد الحميد الدبيبة، حسبما نقل موقع “إرم نيوز” الذي نقل عن عضو البرلمان الليبي، علي التكبالي، تعليقه على التصريحات الإيجابية التي أدلى بها المسؤولون الأتراك خلال الزيارة بأنها “مجرد مناورات”، مؤكدًا أنه “لن يتم دعم حكومة باشاغا بعد هذه الزيارة من قِبل تركيا”.
لا شكّ أن المستجدات الأخيرة التي شهدتها المنطقة، والتحديات التي تواجهها أنقرة في الداخل قبل الخارج، دفعتها إلى إعادة النظر في الكثير من مواقفها السياسية في ضوء تبنّيها لسياسة “تصفير الأزمات”، ويعدّ الملف الليبي أحد أبرز الملفات المثيرة للخلافات مع الكثير من دول المنطقة، وعليه يحاول الأتراك قدر الإمكان تبريد الأجواء مع تلك القوى عبر إبداء المرونة في كثير من المسائل العالقة، وهو ما يمكن الوقوف عليه في الكثير من المواقف في الآونة الأخيرة.
غير أن ذلك لا يعني التحول المفاجئ من المعسكر الغربي إلى نظيره الشرقي، إذ إن لهذا تبعات سلبية ومخاطر على نفوذ ومصالح تركيا في ليبيا، وعليه الأمر يحتاج إلى مزيد من النقاشات والتحركات الدبلوماسية مع كافة الأطراف من جانب، ومع اللاعبين المؤثرين في الملف من جانب آخر، للوصول إلى صيغة مشترَكة ترضي جميع الأطراف لحلحلة الأزمة، وهو ما يرجّح أن تقوم به الدبلوماسية التركية.