سُرقت طفولة أحمد مناصرة منه من قبل المحاكم العسكرية الإسرائيلية، وتعكس حياته حياة آلاف الأطفال الفلسطينيين الذين استهدفتهم “إسرائيل” منذ ولادته؛ فبعد شهور من تقديم الاستئناف للسلطات الإسرائيلية؛ سُمح لأحمد مناصرة بلقاء طبيب نفسي ناطق باللغة العربية لأول مرة يوم الأحد 31 يوليو الماضي، وذلك بعدما تم احتجاز مناصرة بشكل غير قانوني في الحبس الانفرادي في سجن إيشل منذ نوفمبر من العام الماضي، بموجب مرسوم من مصلحة السجون الإسرائيلية.
يُعد وصول الشاب البالغ من العمر 20 عامًا إلى طبيب نفسي ناطق باللغة العربية بأمر من مصلحة السجون الإسرائيلية والمحاكم القضائية تطورًا كبيرًا؛ حيث يوفر بصيص أمل لمناصرة الذي استمرت صحته العقلية في التدهور؛ ووفقًا لأطباء نفسيين من الشبكة الفلسطينية العالمية للصحة العقلية (PGMHN)؛ كان مناصرة قادرًا على التواصل وأبدى أملًا في التعبئة التي دعت إلى إطلاق سراحه، وبحسب ما ورد قال مناصرة للأطباء: “ساعدوني.. ساعدوني في الخروج من هنا، لأنني أُدفع بالجنون”.
وبالإضافة إلى هذه التوسلات؛ وعلى الرغم من أنه واجه محاكمات وصعوبات الحبس الانفرادي والتعذيب، فقد أعرب مناصرة أيضًا عن شكره وامتنانه لجميع أولئك الذين واصلوا الدعوة للإفراج عنه، بحسب ما قاله فريقه النفسي لـ”موندويس”.
وفي 6 آب/أغسطس/آب؛ كان من المقرر أن يعقد مناصرة؛ الذي قضى سنوات مراهقته بأكملها في السجن في ظل ظروف مسيئة، جلسة استماع أخرى في المحكمة؛ حيث يصر فريق دفاعه على المطالبة بالإفراج عنه.
احتجاج دولي لإنقاذ طفل معذب
ومنذ آذار/مارس من هذا العام، أطلقت الشبكة الفلسطينية العالمية للصحة العقلية حملة تطالب بالإفراج عن مناصرة، وحظيت الحملة بدعم وزخم على نطاق العالم مع ما يقرب من نصف مليون من الموقعين.
ومع ذلك؛ وعلى الرغم من هذه المناشدات لحماية الصحة العقلية المحفوفة بالمخاطر لمناصرة والدعوة لتقديم آفاق مستقبل صحي له؛ كانت السلطات الإسرائيلية مصرة على رفض المناشدات لإخراج مناصرة من عزلة أمنية مشددة، والتي ظل محتجزًا فيها منذ العام الماضي.
علاوة على ذلك، في حزيران/يونيو من هذا العام؛ رفض مجلس الإفراج المشروط الإسرائيلي الإفراج المبكر عن مناصرة على الرغم من الأدلة على الضرر الذي تسبب فيه الحبس الانفرادي والسجن لصحته، ولم يتبق أمام مناصرة سوى عامين ونص على انتهاء العقوبة التي تلقاها عندما كان عمره 14 عامًا فقط في عام 2015.
“إنه من الواضح تمامًا أنه من أجل إثارة غضب الناس من أجل أحمد مناصرة، علينا إنشاء حملة وهذا جهد كبير.. إنه يخبرك كيف أصبح الاضطهاد و”قتل طفولة” الأطفال الفلسطينيين أمرُا طبيعيًّا، ولا ينبغي أن يكون هذا طبيعيًّا “؛ محمد الكرد؛ كاتب وصحفي من مدينة القدس.
وقال الكرد لـ”موندويس”: “لا ينبغي أن تأخذ سكان قرية للتجمع من أجل أحمد مناصرة”، وفي الواقع؛ لم تعد قضية مناصرة منذ فترة طويلة قضية طفل واحد وعائلة واحدة، بل أصبحت شهادة صارخة على مدى التسامح مع الجرائم التي ترعاها الدولة ضد الأطفال ودعمها وتمويلها والسماح بها من قبل المجتمع العالمي.
ويشكل إعفاء “إسرائيل” من المساءلة سابقة خطيرة للأذى الذي يلحق بالأطفال في جميع أنحاء العالم؛ لا سيما في ضوء الوعي المتزايد بأن الحبس الانفرادي يعتبر تعذيبًا بحكم الواقع بموجب القانون الدولي، وقد تعرض مناصرة لاستجواب عنيف وغير قانوني من قبل المخابرات الإسرائيلية وهو في سن الـ13 والـ14؛ دون وجود محامين أو أوصياء، مع تجاهل تام لإصابة الرأس التي كان لا يزال يتعافى منها.
وقال الكرد لـ”موندويس”: «من الواضح تمامًا أنه من أجل إثارة غضب الناس من أجل أحمد مناصرة، يتعين علينا إنشاء حملة وهذا جهد كبير”، وأضاف: “إنه يخبرك كيف أصبح الاضطهاد و”قتل الطفولة” الأطفال الفلسطينيين طبيعيًّا؛ ولا ينبغي أن يكون هذا طبيعيًّا “.
“استهداف منهجي لطفولتك”
البروفيسورة نادرة شلهوب كيفوركيان، رئيسة كلية الحقوق ومعهد علم الإجرام وكلية العمل الاجتماعي والرعاية العامة في الجامعة العبرية في القدس، وكذلك أستاذة الكرسي العالمي في القانون في كلية الملكة ماري بجامعة لندن؛ كانت تتابع قضية مناصرة باهتمام، وأصبحت صياغتها لمصطلح “قتل الطفولة” مرادفًا له؛ حيث قالت: “ما يحدث لأحمد هو نموذج أولي وانعكاس لإجرام الدولة”.
وأوضحت شلهوب لـ”موندويس” أنه “إذا عدت إلى بروتوكول الكنيست عندما غيروا القانون، يمكنك أن ترى بوضوح كيف أن أطفالنا لا يعتبرون أطفالًا، بل بالغين إرهابيين”.
في الواقع، لا بزال مناصرة محتجزة في الحبس الانفرادي وسجينًا بموجب بند “الإرهاب” الموجود ضمن القانون الإسرائيليالإطار القانوني لإسرائيل. ومع ذلك؛ فإن إضفاء الشرعية على سجن طفل استُجْوِبَ بالإكراه كان نتيجة بند قانوني استحضره على وجه التحديد صانعو القانون والسلطات في “إسرائيل” أثناء محاكمة مناصرة؛ حيث أتاح ذلك تقديم تفسير قانوني لتبرير سجن وتعذيب أطفال فلسطينيين لا تتجاوز أعمارهم 12 سنة.
ويتم التلاعب بمفهوم “الإرهاب” عن قصد لإضفاء الشرعية على التعذيب الذي تعرض له مناصرة والذي لا يزال يتعرض له، وكان نفس التبرير بحجة محاربة “الإرهاب” هو الذي أدى إلى أن يقع مناصرة، عندما كان طفلاً يبلغ من العمر 13 عامًا، على الأرض وهو ينزف من إصابة دماغية لحقت به بوحشية من قبل المستوطنين الإسرائيليين الذين استمروا في الصراخ “مت يا ابن العاهرة، مت!”.
وكان هذا هو نفس التبرير الذي سمح بالاستمرار في ترويع مناصرة بعد ذلك الحادث من خلال التعذيب الجسدي والحرب النفسية التي عانى منها على أيدي أفراد الأمن الإسرائيلي أثناء استجوابه؛ حيث تم تهديد مناصرة بـ “قتله وهدم منزله وسجنه”؛ بحسب محاميه السابق طارق برغوث.
ويوضح الكرد وهو يتذكر طفولته في القدس، المدينة التي ولد فيها مناصرة وقضى فيها 13 عامًا قبل سجنه: “الحكومة الإسرائيلية تعتبرنا أرضًا خصبة للإرهاب؛ حيث يطلقون على مقاومتنا مصطلح “الإرهاب”، ولذا يبدأون في محاولة نزع سلاحنا في سن مبكرة”.
صورة ثابتة من فيلم يعرض استجواب أحمد مناصرة البالغ من العمر 13 عامًا والذي تم تسريبه من قبل “معن”
في عام 2013؛ قبل عامين فقط من سجن مناصرة، احتجزت السلطات الإسرائيلية 931 طفلاً فلسطينيًا، ولا يزال الجيش الإسرائيلي والشرطة الإسرائيلية يستهدفان الأطفال الفلسطينيين، بما في ذلك تفتيشهم عند نقاط التفتيش، واستدعاء القاصرين ومحاولة تجنيدهم كمخبرين للشرطة الإسرائيلية ووحدات المخابرات الإسرائيلية، واستخدامهم كنقاط ضغط لتهديد المعتقلين السياسيين الفلسطينيين وإجبارهم على انتزاع الاعترافات منهم.
وبالتفكير في الديناميكيات والعمليات التي تعمل بها الدولة الإسرائيلية؛ توضح نادرة شلهوب: “كان لدى أحمد أفضل المحامين، وحاول المحامون التأكيد على ما قاله أحمد”، وتابعت بنبرة مروعة: “من خلال التعقيد ووضع السياق؛ أصبح القضاة أكثر عنادًا وأرادوا تعليم جميع الأطفال في القدس درسًا”.
ويردد الكرد مشاعر مماثلة وهو يتذكر بهدوء طفولته: “أن تكبر طفلًا في القدس يعني أنه يجب أن تُستهدَف طفولتك بشكل منهجي”.
أطفال فلسطينيون في القدس: الحياة المستحيلة
تعرض مناصرة لظروف من شأنها أن تدمر الصحة الجسدية والعقلية لأي شخص بالغ، ناهيك عن طفل في وضع ضعيف؛ حيث تُظهر الممارسات التي تعرض لها؛ وجود شبكة قضائية وعسكرية ومدنية جماعية تفرض علنًا إساءة معاملة الأطفال التي ترعاها الدولة.
وقال الكرد: “أن تكون في الثامنة من عمرك في القدس يوازي أن تكون في الثانية والعشرين من عمرك في الضواحي البيضاء بأمريكا، وهكذا ترى الطريقة التي يتصرف بها الأطفال ويعملون في هذا البلد”.
وتابع وهو يفكر في هذه الملاحظة: “إنهم لا يتصرفون بالضرورة كأطفال، فهم يتصرفون مثل الأشخاص الذين تم تكليفهم بالتزامات ومسؤوليات ضخمة للغاية بحيث لا يمكنهم تحملها”.
ونصف السكان الفلسطينيين تقريبًا هم من الأطفال دون سن الثامنة عشر، وفي هذا السياق؛ يُنظر أيضا إلى استهداف “إسرائيل” للأطفال على أنه اعتداء مباشر على طبقة كبيرة تمثل مستقبل الفلسطينيين، ولذلك يجب ألا يُنظر إلى إلحاق تجارب مؤلمة طويلة الأمد، إلى جانب إطالة أمد الحكم العسكري الإسرائيلي، على أنه مجرد سلسلة من الجرائم الحالية، بل كتكتيك للتحكم في مصير ومستقبل جيل بأكمله.
وشددت نادرة شلهوب على أهمية أخذ الأحداث التي مر بها الأطفال في الاعتبار؛ مؤكدة أنه في حالة مناصرة: “عليك أن تأخذ في الاعتبار أنه كان عام 2015، عامًا مليئًا باعتقالات الأطفال، ومليئًا بإساءة معاملة الأطفال؛ فهي السنة التي أُحْرِقَ فيها محمد أبو خضير حيًّا”.
في الواقع؛ في عام 2014، اختطف ثلاثة مستوطنين إسرائيليين وأحرقوا الشاب محمد أبو خضير البالغ من العمر 16 عامًا في القدس وهم يهتفون “مانجال” وهي كلمة تعني الشواء. وفي نفس العام، أدين شرطي الحدود الإسرائيلي يدعى بن درعي، بقتل نديم نوارة البالغ من العمر 17 عامًا بالقرب من معسكر عوفر العسكري، وحكمت عليه المحاكم الإسرائيلية بالسجن تسعة أشهر فقط.
وقال الكرد: “المجتمع الإسرائيلي والحكومة الإسرائيلية ينظران إلى الأطفال الفلسطينيين على أنهم مشاريع أنياب ومخالب يجب إزالتها”، وأضاف: “حين تجد نفسك طفلاً في القدس فهذا يعني أن تواجه باستمرار الوجود العسكري ووجود الشرطة الذي تم إنشاؤه لإيقاعك في شرك؛ إنه ليس توتر واختناق ينشأ بسبب النشأة في القدس فقط، ولكنه أيضًا أمر يتم عن قصد”.