بالنسبة للأطفال؛ غالبًا ما يكون المنزل هو المكان الأكثر أمانًا على وجه الأرض. لكن في غزة؛ كل بضع سنوات يتم دفع المنازل إلى الخطوط الأمامية للحرب، مما يغير معنى المنزل تمامًا لمئات الآلاف من الأطفال.
ومنذ عام 2008؛ عانت غزة من أربع حروب معوِّقة، وكل منها جلب الموت والدمار أكثر من الحرب التي سبقتها؛ فقد أسفرت حرب عام 2008، أو عملية الرصاص المصبوب، عن مقتل 412 طفلاً في غضون 21 يومًا من القصف والغزو البري، وأسفرت عملية عمود الدفاع في عام 2012 عن مقتل 42 طفلًا طوال 8 أيام من القصف، وأسفر هجوم 2014، أو عملية الجرف الصامد، عن مقتل 578 طفلًا خلال 51 يومًا، وجاء أحدث طعم للحرب في الشريط المحاصر العام الماضي، في خضم شهر رمضان لعام 2021، والذي أطلق عليه هذه المرة اسم عملية حارس الجدران التي استمرت 11 يومًا قُتل فيها 66 طفلًا.
وبنهاية هذه الحرب؛ يكون أطفال غزة الذين تقل أعمارهم عن 15 عامًا قد شهدوا رسميًّا حربهم الرابعة منذ ولادتهم؛ وبالنسبة للأطفال الذين قتلوا؛ فقد انضموا إلى مئات الأطفال الذي قتلوا من قبلهم، أما بالنسبة لأولئك الذين كانوا محظوظين بما يكفي للبقاء على قيد الحياة، فإنهم يحسبون الأيام انتظارا للحرب القادمة، ويعيشون الحياة الجديدة من دون أحبائهم الذين فقدوهم في الحروب السابقة؛ وهذه قصة طفلتين من غزة نجتا من حرب عام 2021.
سوزي إشكنتنا “8 سنوات”
“يمكن إعادة جمع الحجارة؛ لكن المنزل لا يمكن”؛ كانت هذه كلمات سوزي إشكنتنا البالغة من العمر ثماني سنوات، والتي فقدت عائلتها بأكملها باستثناء والدها في مايو 2021؛ حيث أضافت: “المنازل ليست مصنوعة من الحجارة فقط؛ المنازل عبارة عن عائلات وتجمعات وصوت أطفال، ولهذا من المستحيل العودة بعد الحرب”.
عاشت سوزي وعائلتها في حي الريال بمدينة غزة، الذي تعرض لقصف مكثف في السابع عشر من أيار/مايو 2021، وكانت سوزي في غرفتها ملفوفة بين ذراعي والدتها مع أشقائها الثلاثة، زين ويحيى ودينا، عندما تعرض منزلهم للقصف الإسرائيلي؛ حيث توفيت والدة سوزي وإخوتها، الذين حوصروا تحت الأنقاض لمدة ثماني ساعات، وجميعهم دون سن العاشرة.
عندما تم إخراجها أخيرًا من تحت الأنقاض من قبل أوائل الناس الذين أسرعوا للإنقاذ؛ اعتقد الكثيرون أنها ماتت أيضًا، لكن بأعجوبة؛ كانت سوزي لا تزال تتنفس؛ حيث تتذكر الأمر كما لو كان بالأمس، فهي تتذكر أنها كانت جالسة بجانب والدها رياض في شقته المستأجرة في مدينة غزة، وتقول: “كنت نائمة عندما سقطت القنبلة، واستيقظت على المنزل الذي سقط فوقنا؛ حيث وجدت نفسي بين الحجارة، وأمسك بقدمي أخي، وأنادي والدي، لكنه لم يستطع سماعي”.
وتابع تذكرها للأحداث قائلة: “أمي وزين ويحيى ودينا ماتوا جميعًا معًا”، متذكّرة لحظاتها الأخيرة مع عائلتها، عندما حاولت الإمساك بيحيى لتهدئته وهو يكافح من أجل التنفس بعد أن توقف عن إصدار صوت، وقالت إنها أغمضت عينيها لحماية نفسها من الغبار المتساقط، وعندما استيقظت، كانت في المستشفى، ولم يتبق سوى والدها لتهدئتها. في ذلك الوقت؛ لم يكن لديها أي فكرة عن وفاة والدتها وإخوتها.
وقال رياض والد سوزي لـ”موندويس” إن سوزي لم تتحدث أو تأكل أو تتفاعل مع أي شخص في الأسابيع القليلة الأولى بعد التفجير، وبعد خروج سوزي من المستشفى، نقل رياض الخبر إلى ابنته، ونقلها إلى قبر والدتها وإخوتها، وقال إنه لن ينسى أبدًا صرخات سوزي في ذلك اليوم؛ حيث ناشدته للبقاء بجانب والدتها.
وقال رياض: “لقد فقدت عائلتها؛ إخوتها وأخواتها، وفوق كل ذلك، والدتها؛ لا أحد يستطيع تعويضها”، مضيفًا: “كل الهدايا والدعم الذي تحصل عليه من الأشخاص الذين يتعاطفون معها أمر لطيف، لكن هذا لن يجعلها تنسى أنها فقدت كل شيء”؛ متابعًا: “عندما تسأل عن سبب مقتل عائلتها بأكملها أثناء نومهم في غرفتها، لا أحد يعرف ماذا يخبرها؛ فلا يوجد سبب لذلك”.
يعمل رياض بدوام كامل في فندق في غزة، وعندما يذهب للعمل؛ يتم اقتلاع حياة سوزي بأكملها، فعليها أن تبقى مع أحد أقاربها؛ إما ابن عم أو جدتها، حتى ينتهي والدها من العمل.
واستمر رياض قائلًا: “ليس من السهل أن تكون في هذا الوضع؛ فقد كان لدي عائلة رائعة؛ خمسة أطفال جميلين.. تمنيت وانتظرت كل واحد منهم، وفجأة وجدتهم رحلوا. لماذا؟”.
بعد مقتل عائلتها؛ قام والد سوزي بإلحاقها ببرنامج للعلاج من خلال منظمة غير حكومية محلية تسمى “طفلي وأنا – للأطفال والنساء”؛ حيث كانت منار سيلمي أول طبيبة نفسية عملت مع سوزي بعد أن سجلت في المركز، وقالت إن الإجهاد اللاحق للصدمة الذي شهدته في سوزي هو شيء رأته في مئات الأطفال في غزة التي عالجتها.
وأضافت سيلمي: “كل الصدمة التي يعاني منها الأطفال في غزة بسبب الحروب واضحة في سلوكياتهم؛ حيث إنهم يعيشون في خوف دائم، ويعانون من الذعر الليلي والخجل والتلعثم في الكلام والسلوك العدواني وقلة التركيز والإلهاء، وهذه فقط بعض الأشياء التي يعيشونها”، وتابعت: “لسوء الحظ، عندما يكبر هؤلاء الأطفال، تنمو معهم هذه الاضطرابات. لأنهم يعيشون في غزة، والحرب جزء من حياتهم، لا يمكنهم الهروب منها؛ وليس لديهم فرصة للنسيان”.
وأوضحت سيلمي أن الأطفال في غزة يحتاجون بشكل عاجل إلى رعاية نفسية مستمرة ومكثفة، ولكن بسبب نقص التمويل للمؤسسات مثل تلك التي تعمل بها، فغالبًا ما يكون من المستحيل تحقيق المستوى اللازم من الرعاية.
وتمكنت سيلمي من علاج سوزي لمدة ثلاثة أشهر فقط بما مجموعه 15 جلسة قبل قطع البرنامج الذي كانت تشارك فيه بسبب نقص الأموال، ومنذ أن توقفت سيلمي عن العمل معها، لم تتمكن سوزي من تلقي أي علاج إضافي أو علاج نفسي؛ حيث قالت سيلمي بخيبة أمل: “لا توجد أموال لمثل هذه المشاريع”.
ريماس أبو داير “10 سنوات”
على بعد 50 مترًا فقط من منزل سوزي إشكنتنا، كانت هناك قصة أخرى من الخسارة والصدمة تصيب طفلة فلسطينية أخرى.
ريماس أبو داير وأختها
فقدت ريماس أبو داير، التي تبلغ من العمر 10 أعوام، شقيقتها رفيف، التي كان عمرها 12 عامًا، في السابع عشر من أيار/ما من العام الماضي؛ عندما قصفت القوات الإسرائيلية مسكنها في شارع الوحدة.
كان ذلك بعد الظهر؛ وكان عشرة من أفراد الأسرة الذي يقربون إلى ريماس بشكل مباشر يجلسون في فناء صغير خارج منزلهم لتناول الغداء، وكانت ريماس وشقيقها أحمد، ذو الاثني 12 عامًا، قد دخلوا المنزل للتو لمناداة شقيقهما الأكبر، كامل، للخروج لتناول طعام الغداء، عندما ألقيت قنبلة على منزل العائلة بالقرب من الفناء.
وتتذكر ريماس صدمة فقدان عائلتها العام الماضي؛ وبالكاد تستطيع حشد بضع كلمات؛ حيث قالت: “كان يجب أن نأكل في الداخل”، فيما يروي شقيقها كامل لحظة سقوط القنبلة: “لأكثر من 10 دقائق، كانت هناك سحابة تمطر حجارة قاتلة وحطامًا حديديًّا على رؤوسنا»، مضيفًا: “لم يكن هناك أي شيء مرئي؛ فقط الدخان الأسود الذي ملأ الهواء. وناديت على والدي وأمي، لكن لم يرد أحد؛ لقد تجمدت، ولم أستطع رؤية إلى أين أذهب، وبعد دقائق، انفجرت خزانات المياه وأزال بعض الدخان “.
عندما تلاشى الدخان، وجد كامل معظم أفراد عائلته ميتين؛ حيث قال: “وجدت عمي جالسًا ميتًا على الأريكة، وكأنه نام أثناء جلوسه، وكانت شقيقتيَّ رفيف وريماس مختبئين خلف باب يهتز، وبقية أفراد الأسرة مبعثرين في كل مكان”.
وأوضح كامل أن ريماس ورفيف كانتا مثل توأمين؛ حيث كان يفصل بينهما عاميْن فقط، فقد تقاسموا كل شيء، وبعد مرور عام؛ لا زالت ريماس تكافح لإيجاد موطئ قدم لها في الحياة بدون أختها؛ حيث تُشاهد وهي تمسك بممتلكات أختها التي تمكنوا من إنقاذها من تحت الأنقاض؛ دفاتر ملاحظاتها وحقيبة مدرستها وكتبها، يجلسون الآن على رف في غرفة ريماس، تذكيرًا بما فقدته.
وقبل وفاتها؛ كانت رفيف محافظة على عادة توزيع التمر والماء على الناس الصائمين في الشارع عند غروب الشمس في رمضان، وفي شهر رمضان هذا؛ أرادت ريماس الحفاظ على ذكرى أختها حية فخرجت لتوزيع التمر والماء على جيرانها، وقالت إنها تريد الحفاظ على أعمال أختها الصالحة حتى تتمكن من مقابلتها في الجنة يومًا ما.