جاء اغتيال القيادي البارز في سرايا القدس – الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي في فلسطين – تيسير الجعبري ليعيد إلى الأذهان عمليات التضليل التي يقوم بها الاحتلال الإسرائيلي عبر الوسطاء في المنطقة من أجل خداع المقاومة الفلسطينية.
ويعتبر الوسيط المصري أحد الفاعلين في ملف التواصل مع فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة سواء كانت حركة الجهاد الإسلامي أم حركة حماس أم حتى الفصائل الأخرى الموجودة في غزة خلال السنوات الماضية، ويحظى الدور المصري بانتقادات شعبية واسعة بين الفلسطينيين، في الوقت الذي تلتزم فيه الفصائل الفلسطينية الصمت حيال تكرار عمليات الغدر الإسرائيلية تزامنًا مع وساطات كانت المخابرات المصرية تقوم بها.
وتعتبر الحوادث التي شهدتها فلسطين إحدى مسببات الانتقاد الذي يوجه للوساطة المصرية فيما يتعلق بالملف الأمني مع الاحتلال الإسرائيلي على اعتبار أن الإسرائيليين يراوغون من خلالها ويوجهون ضربات غادرة للمقاومة، أما المصريون فعادة ما يلتزمون الصمت ولا ينفون ولا يردون على هذه الشكوك والشكاوى الفلسطينية، ويؤكدون وقوفهم على مسافة واحدة من أجل إعادة الهدوء واستمرار التهدئة بين قوى المقاومة الفلسطينية والاحتلال.
تاريخ الوساطات العربية مع المقاومة
على الأرجح، تعود الوساطة المصرية والعربية في التعامل مع المقاومة إلى نهايات انتفاضة الأقصى الثانية حينما كانت مصر تتدخل عبر وفدها الأمني الذي كان موجودًا في القطاع بشكل دائم حتى قبل عام 2007.
وتنامى الدور المصري في العمل مع الفصائل بغزة في أعقاب صعود حركة حماس إلى سدة الحكم عقب الانتخابات التشريعية عام 2006، إذ برز دور القاهرة في الوساطة بين حركة فتح وحماس قبيل أحداث الانقسام الداخلي.
وتنامى هذا الدور بعد ذلك، فقادت مصر ملف تثبيت التهدئة بين فصائل المقاومة في القطاع و”إسرائيل”، في أكثر من مناسبة اعتبارًا من 2007، كما تجلى الحضور المصري في قيادة مفاوضات صفقة التبادل التي بدأت أواخر عام 2009، وتكلل هذا الجهد بالنجاح في إبرام صفقة تبادل أسرى بين حماس و”إسرائيل” عام 2011.
وتطور هذا الدور بعد صعود الإخوان المسلمين في مصر إلى الحكم، فقد استقبل الرئيس المصري السابق محمد مرسي، في القصر الرئاسي بالقاهرة عام 2012، كلًا من: خالد مشعل رئيس المكتب السياسي لحماس آنذاك، وإسماعيل هنية والأمين العام السابق لحركة الجهاد الإسلامي رمضان شلح.
وعقب الانقلاب على حكم الرئيس الراحل محمد مرسي 2013، أخذت العلاقة شكلًا مختلفًا في عهد الرئيس السيسي، إذ بدأ الجيش المصري بعدها بعام حملة أمنية تستهدف الأنفاق الأرضية التي تربط القطاع بالأراضي المصرية، وتستخدم لتهريب البضائع التجارية، بعد إقرار قانون يجرم حفرها.
وشهد فبراير/شباط 2015، تحولًا سلبيًا في شكل العلاقة حينما أعلنت محكمة الأمور المستعجلة في القاهرة، حركة حماس تنظيمًا إرهابيًا، قبل أن تلغي محكمة مصرية أخرى القرار في منتصف العام ذاته، وهو ما اعتبرته الحركة خطوة إيجابية.
وفي عام 2017، أصدرت حركة حماس وثيقتها السياسية الجديدة، التي نفت فيها أي ارتباط رسمي تنظيمي بالجماعة، وهو ما أكده تصريح إسماعيل هنية رئيس المكتب السياسي للحركة، في إحدى زياراته للقاهرة، حين قال: “نحن ليس لنا أي ارتباط تنظيمي بجماعة الإخوان في مصر أو حتى في غير مصر”.
وفي عام 2018، أخذت العلاقة بين الطرفين طابعًا مختلفًا تمثل في تبادل الزيارات بين شخصيات رفيعة في حركة حماس وقيادة جهاز المخابرات المصرية، وشهدت السنوات الثلاثة الأخيرة حضورًا مصريًا في قضايا القطاع.
مواقف وأحداث
رغم مرور هذه السنوات، فإن مشهد وزيرة الخارجية الإسرائيلية تسيبي ليفني وهي تقف بجوار وزير الخارجية المصري الأسبق والأمين العام للجامعة العربية أحمد أبو الغيط في القاهرة، ما زال عالقًا في أذهان الفلسطينيين عمومًا وسكان القطاع على وجه الخصوص.
ويعتبر الفلسطينيون أن حديثها من القاهرة كان بمثابة إعلان للحرب على غزة تزامنًا مع وساطات كانت السلطات المصرية تقوم بها مع المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة نهاية ديسمبر/كانون الأول 2008، لتأتي بعدها الضربة المفاجئة بعدوان عام 2008 – 2009 عبر غارات خادعة ضللت فيها المقاومة من خلال الوسطاء الذين كانوا ينقلون رسائل إيجابية.
ذات المشهد تكرر في نوفمبر/تشرين الثاني 2012 حينما كانت مصر تلعب دور الوساطة عبر جهاز المخابرات العامة، ليفاجئ الاحتلال الجميع باغتيال نائب القائد العام لكتائب القسام أحمد الجعبري حينما قصف سيارته هو ومرافقه، مستغلًا التضليل ورغبته في الهدوء.
وبعد سنوات وتحديدًا عام 2019 تكررت ذات العملية باغتيال بهاء أبو العطا أحد أبرز قادة سرايا القدس – الذارع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي – في وقتٍ كانت القاهرة تلعب دور الوساطة بين التنظيم والاحتلال الإسرائيلي.
وعاد ذات الأمر ليتكرر عام 2022 حينما اغتال الاحتلال تيسير الجعبري القيادي البارز في سرايا القدس في الوقت الذي كانت فيه مفاوضات تتم برعاية مصرية وقطرية وأممية لاحتواء التصعيد ومنع انزلاق الأوضاع.
ووفق حديث بعض قيادات الحركة البارزين لـ”نون بوست” فإنه وقبل ساعة من عملية الاغتيال كانت الرسائل الواردة لهم عبر الوسيط المصري إيجابية وتوحي بإمكانية التوصل لاتفاق ينهي حالة التصعيد القائمة منذ أيام التي أدت لإغلاق القطاع ومعابره.
هل يتلاعب الاحتلال بالوسطاء أم يستخدمهم؟
تطرح الكثير من الشواهد السابق ذكرها بالنسبة للفلسطينيين والمراقبين سؤالًا جوهريًا يتمثل في إمكانية تلاعب الاحتلال بالوسطاء خلال جولات المفاوضات التي تسبق التصعيد مع المقاومة الفلسطينية أو التي تتم خلال الحروب.
في الوقت ذاته يبرز رأي آخر يرى أن الاحتلال يستخدم الوسطاء بما فيهم الوسيط المصري الذي تربطه به علاقات هي الأفضل منذ عقود لا سيما في عهد الرئيس المصري الحاليّ عبد الفتاح السيسي، وهو ما تحقق في أكثر من مناسبة.
وبين التلاعب والاستخدام لتمرير المعلومات المغلوطة، يمكن استحضار معلومات كشفها القيادي البارز في حركة حماس موسى أبو مرزوق سابقًا بشأن معلومات مضللة حاول الوسيط الألماني في صفقة التبادل تمريرها على الحركة خلال إحدى المفاوضات عامي 2010 و2011 في ملف الجندي جلعاد شاليط.
ويعكس هذا الموقف أن بعض الوسطاء يلعبون دورًا واضحًا لصالح الاحتلال، مستخدمين بعض المعلومات الأمنية والعسكرية التي يحصلون عليها لكسب مواقف لصالح الإسرائيليين على حساب حقوق الفلسطينيين والمقاومة.
ومع تكرار التلاعب، تبدو المقاومة الفلسطينية مطالبة باستخدام أوراق جديدة في التعامل مع الوساطات سواء كانت العربية أم الدولية واللجوء إلى سياسة التضليل المعلوماتي عند نقل مواقفها من أجل كسب الجولات بصورة أفضل وتحقيق صورة النصر.