بين التخلص من ماض ديكتاتوري أذل العباد ونهب مدخرات البلاد وجثم على صدور المواطنين إسلاميين ويساريين وحتى علمانيين، لم يسلم من بطشه سوى من نادى باسم الرئيس وهلل وصفق وزغرد، أو من تنازل عن حقه في المواطنة واكتفى بالمشاهدة في صمت، وبين إنتاج مستقبل مشرق يحدد فيه الشعب مصيره ويضع البلاد على سكة الديمقراطية، يلعب الناخب التونسي دور الفصل بين الماضي والمستقبل.
وفي تونس اندلعت ثورة هزت عروش الطغيان ووصل عبقها إلى مصر واليمن وليبيا ومازال الصراع دائرًا في سوريا، ثورة كانت كالخطاف الذي صنع ما أطلق عليه المفكر والكاتب التونسي وأحد مرشحي الرئاسة في انتخابات 2014 الصافي سعيد تسمية “الربيع العربي”.
ربيع قد ينطلق من تونس ليؤكد بأن الربيع سيدخل المنطقة العربية شاءت التنظيمات الملكية الشمولية أو أبيت، ولئن أسفرت الانتخابات البرلمانية الأخيرة عن تراجع القوى التي أفرزتها أول انتخابات عقب ثورة 14 كانون الثاني/ يناير من خلال عدم حصول حزب التكتل عن أي مقعد في مجلس نواب الشعب وحصول المؤتمر من أجل الجمهورية عن أربع مقاعد فقط وتراجع حركة النهضة ذات المرجعية الإسلامية إلى المرتبة الثانية بـ 68 مقابل حصول حزب حركة نداء تونس الناشئ حديثًا من رحم النظام السابق على المرتبة الأولى بـ 89 مقعدًا.
خارطة سياسية جديدة أطلقت صفارات التنبيه والتحذير من إمكانية تمكن حزب واحد من رئاسة الحكومة وتشكيلها ورئاسة مجلس نواب الشعب إلى جانب رئاسة الجمهورية في حال استطاع رئيس حركة نداء تونس وزير داخلية الحقبة البورقيبية من الحصول على ثقة الناخبين في الاستحقاق الرئاسي؛ وهو ما يعني عودة البلاد إلى ما قبل 14 كانون الثاني/ يناير 2011.
ولئن لاح الاستقطاب الثنائي واضحًا بين ممثل منظومة الثورة رئيس الفترة التأسيسية “محمد المنصف المرزوقي”، وممثل المنظومة القديمة رئيس حكومة الفترة الانتقالية “الباجي قائد السبسي”، فإن صراع الماضي بتعاسته والثورة وما تبعها من اختناق اقتصادي، لا يحدد نتائجه المفكرون والعقلاء والطامحون للحرية والانعتاق من العبودية، بقدر ما يحدد نتائجه أولئك الخائفون على قوت يومهم والمتوجسون من فقدان أمنهم.
ورغم مشاركة مرشحين شباب في هذه الانتخابات، إذ بين المرشحين يلمع نجم ما يطلق عليه بـ “برلسكوني العرب” وهو رجل الأعمال “سليم الرياحي” رئيس أحد أكبر الأندية الرياضية في البلاد والذي تحصل حزبه على المرتبة الثالثة في الاستحقاق البرلماني، ولئن تحوم حول الرياحي عديد من الاستفهامات حول مصدر ثروته وهو الذي اتهمه الناطق الرسمي باسم حزب نداء تونس “الأزهر العكرمي” في وقت سابق بأنه عميل للمخابرات الليبية.
لكن الكلمة الفصل تأجلت إلى دورة رئاسية ثانية يلتف فيها الشباب حول المنصف المرزوقي على اعتبار أنه حقوقي ولا يملك ماضيًا مشبوهًا، بل عرف بشراسته في النضال ضد بن علي وهو الذي دعا قبيل الثورة إلى احتلال الشوارع بصفة سلمية مؤكدًا أن المظاهرات السلمية قادرة على إسقاط النظام المتهالك.
وصول المرزوقي إلى قصر قرطاج من جديد قد يوفر الاستمرارية والاستقرار لخمس سنوات قادمة قد تحتاجها البلاد لمزيد من ترسيخ الديمقراطية إلى جانب كون الرجل قادر على تحقيق التوازن مع الحزب الأغلبي على اعتبار أنه من خارج المنظومة القديمة وهو آخر الحصون ضد إمكانية سيطرة حزب واحد على جميع مفاصل السلطة.
ورغم الاستقطاب الثنائي فإن قائمة المترشحين التي ضمت أسماء لامعة مثل المترشح المستقل الشرس “الصافي سعيد”، والقاضية المحترمة “كلثوم كنو”، إلى جانب المناضلين “أحمد نجيب الشابي” (الحزب الجمهوري/ ليبرالي/ وسطي)، “مصطفى بن جعفر”(حزب التكتل/ ديمقراطي/ اجتماعي)، و”حمة الهمامي (حزب العمال / أقصى اليسار)، حيث خرج منهم جميعًا “حمة الهمامي” كأكبر المنتصرين خاصة مع تصالح الأخير مع هوية شعبه من خلال تأكيده على اعتناقه للإسلام وأن الرسول الأكرم خير قدوة.
وفي ظل بحر متلاطم الأمواج أدى إلى حرب دولية بالوكالة في سوريا وحرب أهلية في ليبيا وصراع سعودي إيراني في اليمن وخليجي إخواني أنتج انقلابًا عسكريًا في مصر، تعد تونس الجزير الآمنة الوحيدة، خاصة مع شيخوخة الرئيس الجزائري الذي بات من الواضح عجزه عن الاضطلاع بمهام رئاسة الجمهورية، وهو ما يعني أن البلد محاطة بظرف إقليمي قد يهدد التجربة التونسية في كل آن وحين، فرياح الفشل والعجز تخيم على الجميع، وقد تحل بأرض تونس في حال اختار الناخب التونسي “الباجي قائد السبسي” شيخ الثامنة والثمانين ليكون رمز السيادة التونسية والرأس الثاني للسلطة التنفيذية.
ولئن نجت تونس من الغرق في مستنقعات العنف والحروب الأهلية والصراعات المسلحة، فإن ذلك لا يعني قيام الديمقراطية بشكل نهائي في البلاد، لأن الديكتاتورية تقف على الربوة منتظرة لتنتهز الفرصة، والتجربة المصرية خير دليل على ذلك، لتكون انتخابات كانون الأول/ ديسمبر 2014 نقطة مفصلية في تاريخ الأمم التي تطوق إلى الحرية ودرسًا قاسيًا لأمم رفضت السير في طريق الديمقراطية.
لقد علمت الثورة التونسية الجميع أنه بمقدور الأحزاب التي كانت لا تصل للسلطة إلا بالترهيب والديكتاتورية، أنها غير عاجزة على تولي السلطة بالصندوق، وما على المنتمين إليها سوى أن يتركوا للمواطن الاختيار ولا يمارسوا عليه الوصاية، فالشعب التونسي يعد الشعب الأكثر وعيًا في المنطقة وهو جدير باختيار توازن السلطة بين المنصف المرزوقي والباجي قائد السبسي من خلال انتخاب الأول، كما هو جدير باختيار الثاني إن استطاع تقديم ما عجز عن تحقيقه الأول.