شنت قوات الاحتلال الإسرائيلي، الجمعة 5 أغسطس/آب 2022، هجماتها الصاروخية ضد قطاع غزة، قالت إنها تستهدف بها حركة الجهاد الإسلامي، وذلك بعد توتر أمني دام عدة أيام بسبب اعتقال القيادي بالحركة بسام السعدي الذي ألقت شرطة الاحتلال القبض عليه عقب اقتحام مخيم جنين في 9 من الشهر الحاليّ.
وأسفرت العملية العسكرية التي جاءت تحت اسم “الفجر الصادق” عن ارتقاء 12 شهيدًا، بينهم طفلة عمرها 5 سنوات وامرأة في الـ20 من عمرها، وإصابة نحو 55 آخرين، فيما أعلنت سرايا القدس، الجناح المسلح لحركة الجهاد، إطلاقها أكثر من 100 صاروخ باتجاه مستوطنات الاحتلال، في أول ردة فعل عملية إزاء التصعيد الإسرائيلي.
ووفق الرواية الإسرائيلية فإن العملية من المتوقع أن تستمر قرابة أسبوع قابل للزيادة، فيما يشير البعض إلى أن الوقت ربما يمتد إلى أكثر من ذلك في حال دخول حركة حماس – التي تلتزم الهدوء مكتفية ببيانات تحذيرية حتى كتابة تلك السطور – على خط الأزمة، ما يعني تحول المسار من هجمات تستهدف مواقع للجهاد إلى حرب شاملة في القطاع.
وكان جيش الاحتلال قد أعلن في بيان له بدء تلك العملية التي يشارك فيها الجيش وجهاز الشاباك، لاستهداف قادة الجهاد على رأسهم القيادي البارز مسؤول منطقة شمال القطاع، تيسير الجعبري، الذي ارتقت روحه جراء إحدى الهجمات، فيما صادق وزير الدفاع الإسرائيلي بيني غانتس على أمر عسكري استثنائي باستدعاء 25 ألفًا من قوات الاحتياط، وتعزيز قواته على الحدود مع قطاع غزة بقوات من اللواء الـ36 ولواء جولاني ولواء المدرعات.
تحاول حكومة الاحتلال تحقيق أكبر قدر ممكن من المكاسب، السياسية والعسكرية، من تلك العملية دون التورط في حرب مفتوحة داخل القطاع الملتهب بطبيعة الحال، إذ لا تزال أجواء معركة “سيف القدس” عالقة في أذهان الإسرائيليين، قادة وشعبًا، وعليه تنتهج إستراتيجية مغايرة تمامًا لما اعتادته قبل ذلك، تستند في المقام الأول إلى سياسة “فرق تسد”.
“The innocent girl. Was she in charge of rockets or was she fighting? What did she do?”
Alaa Qadoom, the five-year-old girl killed by an Israel Air strike on a residential building in Gaza, prepared her body for funeral.
–#GazaUnderAttack#غزه_تقاوم pic.twitter.com/Yl3PCustG7
— ألم مـلكــ?ــــــــ??ــ??ــــي (@Usama2080) August 6, 2022
عزل الجهاد الإسلامي
بات من الواضح أن إقصاء حركة الجهاد الإسلامي من المشهد الفلسطيني وتقليم أظافرها انتقامًا من عملياتها الأخيرة ضد الإسرائيليين هو الهدف الأول والأبرز من وراء تلك العملية، وبسياسة “فرق تسد” تحاول حكومة الاحتلال زرع الفتنة بين حماس والجهاد وتوسيع الهوة بينهما في ضوء الحسابات المعقدة، بما يسقط جدار “التوحد واللحمة” الذي كان عامل الحسم الأبرز في نجاح المقاومة طيلة السنوات الماضية.
وفق المعلق العسكري الإسرائيلي، يوآف ليمور، فإن دولة الاحتلال ستواصل عملياتها ضد الجهاد لعدة أيام وأنها بذلك تحاول منع حماس من الانخراط في الرد على الهجمات الصاروخية، وإبقاءها خارج المواجهة الحاليّة تمامًا، تكرارًا لسيناريو نوفمبر/تشرين الثاني 2019 حين التزمت الحركة الصمت العملي عندما اغتالت “إسرائيل” بهاء أبو العطا، أبرز قياديي “سرايا القدس”، الجناح العسكري لـ”الجهاد”.
وأوضح ليمور في تقريره المنشور على صدر صحيفة “يسرائيل هيوم” وترجمه “العربي الجديد” أن حكومة لابيد حرصت على نقل رسائل لقادة حماس عبر عدد من الوسطاء تفيد بأنها لا تريد الدخول في حرب شاملة في قطاع غزة، وأن العملية تستهدف قادة الجهاد فقط ردًا على ممارستهم في الآونة الأخيرة، محذرًا من أنه في حال انخراط حماس في الرد فإنه من المتوقع إطالة أمد المواجهات التي ستصبح “أكثر قسوة” على حد تعبيره.
المحلل العسكري العبري ذاته في مقال سابق له قبل يومين كشف عن ضرورة ممارسة حماس لضغوطها على “الجهاد” للحيلولة دون شن أي هجمات ضد أهداف إسرائيلية مهما بلغ الأمر، منوهًا أن حكومة بلاده وعبر وسطاء عدة ضغطت على قادة الحركة لأداء هذا الدور.
ورغم الضغوط الممارسة، فإن رد الجهاد لم يتأخر، أيًا كانت الحسابات المعقدة، إذ أعلنت الحركة عن إطلاق أكثر من 100 صاروخ باتجاه مدن وبلدات إسرائيلية، أسفرت عن إصابة 4 إسرائيليين، فيما قال الجيش الإسرائيلي إن نحو 130 قذيفة عبرت الحدود أطلقتها الجهاد، اعترضت القبة الحديدية 60 منها، فيما أفاد مدير مكتب “الجزيرة” في القدس وليد العمري، أن صفارات الإنذار دوت مجددًا في عسقلان والمستوطنات المتاخمة للحدود مع غزة، وأن 40 إسرائيليًا تم إسعافهم خلال الساعات الماضية، لكن معظمهم أصيب إما نتيجة التدافع خلال الركض إلى الملاجئ وإما بسبب الرعب.
استفزاز إيران
استهداف الجهاد الإسلامي تحديدًا، ذات العلاقات الجيدة مع طهران، دون حماس، محاولة واضحة لاستفزاز الدولة الإيرانية وجرجرتها نحو مزيد من العنف في محاولة لاستغلال ذلك لتحقيق العديد من المكاسب السياسية والعسكرية لدولة الاحتلال التي تتعامل مع إيران كـ”شماعة” لتبرير انتهاكاتها لتحقيق أجندتها الإقليمية.
تحاول حكومة لابيد تحقيق انتصار عسكري من خلال استنزاف قدرات الجهاد العسكرية، وإخراجها قدر الإمكان عن المعادلة المؤثرة في المشهد الفلسطيني، بما ينعكس على نفوذ طهران في المنطقة ويقوض من حضورها الإقليمي ويدفعها لاتخاذ ردود فعل تهدد أمنها القومي وتشتت تركيزها وتجهض أي خطوات تقدمية في ملفاتها الحساسة.
وتعاني العلاقات الإيرانية الإسرائيلية – رغم التنسيق غير المباشر بينهما والتعاون الواضح في كثير من المجالات – من توترات حادة في الآونة الأخيرة، استثمرتها تل أبيب في تعزيز علاقاتها مع دول الخليج والشرق الأوسط، وحققت عبر فزاعتها ما لم تحققه في حربها الممتدة لسنوات، وعليه تحاول من خلال عمليتها الأخيرة إخراج إيران من التشكيل الرسمي للاعبين المؤثرين في الملف الفلسطيني، حتى لو نظريًا.
وفي المقابل فإن التصعيد الحاليّ في مضمونه ربما يخدم الأهداف الإيرانية إلى حد كبير، فطهران التي تعاني من تآكل أجندتها في العراق ولبنان وسوريا، تبحث عن موطن جديد لشرعنة أجندتها الإقليمية، وليس هناك أفضل من الساحة الفلسطينية لاستعادة شعبيتها في الحواضن العربية، وإعادة فرض حضورها الدولي مرة أخرى بما يخدم مصالحها في مسار الاتفاق النووي المتعثر مع الجانب الأمريكي مؤخرًا.
نتوجع، نتألم، نبكي؛ لكننا لا نموت..#غزه_تقاوم الآن.. شاهدوا pic.twitter.com/2OpYWT0lrJ
— أدهم أبو سلمية #غزة_العزة ?? (@adham922) August 5, 2022
مأزق حماس
لم تتعرض حركة المقاومة الإسلامية “حماس” لمأزق حقيقي كما تتعرض له خلال تلك العملية، ورغم تشابه الأجواء مع سيناريو 2019، فإن الوضع هذه المرة أكثر تعقيدًا في ظل التشابكات والحسابات المتداخلة التي فرضت تموضوعات جديدة في ظل المستجدات التي تشهدها الساحة الإقليمية والدولية.
تواجه الحركة اليوم اختبارًا داخليًا غاية في الصعوبة، إما الالتزام بلحمتها الوطنية وتعهداتها السياسية وتمسكها بسياقها العام نحو دعم كل حركات المقاومة وأن تكون في مقدمة الصفوف في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية كما جرت العادة، وهو ما يضعها في مواجهة مباشرة مع المحتل، ربما يقود إلى حرب شاملة في القطاع برمته، وإما التزام الصمت لا سيما أنها لم تكن الهدف الأبرز للاعتداء الإسرائيلي، وهو ما سيعرض سمعتها للخطر.
حتى كتابة تلك السطور، اكتفت الحركة ببيان إدانة وشجب، حمّلت خلاله على لسان المتحدث باسمها حماس فوزي برهوم حكومة لابيد مسؤولية التصعيد، واصفًا العملية بأنها “جريمة جديدة” تستوجب المحاسبة، مشددًا على أن “المقاومة الباسلة ستدافع عن شعبنا وأهلنا وبكل ما تملك، وستوازن الردع وستبقى تلاحق الاحتلال وستهزمه كما هزمته في كل المعارك وفي كل الساحات، وفي مقدمها هذه المعركة أيضا، وعلى كل الساحات أن تفتح نيرانها على العدو وقطعان المستوطنين”.
ورغم تأكيد برهوم على أن “المقاومة بكل أذرعها العسكرية وفصائلها موحدة في هذه المعركة، وستقول كلمتها وبكل قوة، ولم يعد ممكنًا القبول باستمرار هذا الوضع على ما هو عليه”، فإن الأمر لم يتجاوز بعد حاجزه الدبلوماسي، دون الانخراط بشكل عملي في المقاومة وهو ما أثار الكثير من التساؤلات.
تتجنب الحركة في الوقت الحاليّ الدخول في حرب مباشرة مع الكيان المحتل في ظل الظروف الدولية التي تخيم على الأجواء، وتقلص خريطة حلفاء المقاومة في ضوء حسابات المصالح المعقدة التي غيرت الكثير من المرتكزات الوطنية والقومية لبعض الدول والقوى الداعمة للقضية الفلسطينية قديمًا، ومن ثم تميل إلى الهدوء النسبي لعبور تلك الموجة العاتية بأقل الخسائر الممكنة، لكنه المبرر الذي ربما لم يقنع معه الشارع الفلسطيني.
وفي هذا السياق، غرد المحلل الأمني والعسكري الإسرائيلي، يوسي ميلمان قائلًا: “يجب على “إسرائيل” أن تعلن انتهاء الجولة وتوقف القتال قبل أن يتعقد الوضع.. الإنجاز الأهم في الجولة الحاليّة ليس قتل الجعبري.. فقتل قيادي يأتي غيره كما جرى مع أبو العطاء.. الإنجاز رقم 1 هو أن حماس لم تطلق صاروخًا أو رصاصة واحدة وهذه إشارة أن حماس تريد الهدوء”.
⚫️Al-Quds Brigades – Jenin Brigade mobilizes in the streets armed with weapons in preparation to respond to the Israeli entity in the various occupied cities.#Palestine #Israel #غزه_تقاوم #غزة_العزة #جنين pic.twitter.com/tYWAqA7M6y
— Unit 84 (@IntelPasha) August 5, 2022
فاتورة الداخل.. ما دوافع الاحتلال؟
السؤال الأبرز الذي يفرض نفسه الآن: لماذا لجأت “إسرائيل” إلى هذا التصعيد في هذا التوقيت بالذات؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال يتطلب الأمر التعريج على سياقات العملية وأجوائها العامة، البداية مع الأزمة الداخلية التي تواجهها تل أبيب، حيث الإعداد لانتخابات خامسة من أجل تشكيل حكومة توافقية، في ظل الفوضى السياسية التي تعاني منها دولة الاحتلال طيلة السنوات الماضية، بجانب رفض واشنطن دعم المخطط الإسرائيلي لشن حرب على إيران ووقف مسار الاتفاق النووي، وهو ما يتطلب ردة فعل إسرائيلية اعتراضًا على الموقف الأمريكي.
من جانب آخر فإنه رغم موجة التطبيع التي شهدتها الفترة الأخيرة وانخراط 4 دول عربية في اتفاق “إبراهام” التطبيعي، فإن “إسرائيل” فشلت في تحقيق الهدف الأبرز من هذا التطبيع وهو بناء تحالف عسكري مع القوى العربية يعزز من حضورها الإقليمي، وهو ما تحاول دولة الاحتلال تدشينه بأي ثمن ممكن.
ومن ثم أجمع محللون سياسيون وعسكريون ومختصون في الشأن الإسرائيلي أن “الفجر الصادق” تأتي في سياق التنافس لانتخابات الكنيست وأزمة الحكم في “إسرائيل”، فيما يرى الكاتب والمحلل السياسي القريب من “الجهاد” حسن عبده، أن أزمات “إسرائيل” الداخلية تدفع قادتها لتصدير أزماتهم نحو غزة، واستخدام “الدم الفلسطيني في ماكينة الانتخابات والمنافسة”، وفق تصريحاته لـ”الجزيرة نت“، مضيفًا: “ستدرك “إسرائيل” أن حساباتها خاطئة، وسيكون للجهاد والمقاومة ردة فعل تتناسب مع حجم هذه الجرائم”.
ويتفق معه في هذا الرأي الباحث في الشأن الإسرائيلي أنطوان شلحت الذي أكد أن دافع العملية الأساسي انتخابات الكنيست ومأزق الحكم في “إسرائيل”، منوهًا أن لابيد القادم من خلفية أمنية يحاول الظهور بوصفه قياديًا سياسيًا وأمنيًا، مقللًا في الوقت ذاته من احتمالية انجرار دولة الاحتلال إلى حرب شاملة لوجود الانتخابات في الأفق، معتقدًا أنه منذ حرب لبنان 2006 يتجنب أي رئيس وزراء إسرائيلي الدخول في حرب مفتوحة، فكل المعارك التي خاضها المحتل مع المقاومة وعلى رأسها عملية “حارس الأسوار” لم تُحسم ولا تزال دوائر التوتر بشأنها مفتوحة على مصراعيها.
وفي الأخير.. يبقى التعويل الآن على جهود الوساطة الإقليمية، المصرية تحديدًا – التي تجد نفسها في مأزق هي الأخرى نتيجة التعنت الإسرائيلي -، لفض حالة الاشتباك وتبريد الأجواء وإخراج الملف الفلسطيني من دائرة الصراع الإسرائيلي الإيراني، قبل اضطرار “حماس” للدخول على خط الأزمة، وهي الخطوة التي إن حدثت ستزيد الأمور تعقيدًا وتصبح كل السيناريوهات مفتوحة.