ارتفعت حصيلة الشهداء جراء الهجمات التي شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلي الجمعة 5 أغسطس/آب 2022 إلى 32 وإصابة المئات، بينهم القيادي البارز في حركة الجهاد الإسلامي ومسؤول منطقة شمال القطاع، تيسير الجعبري، وقائد المنطقة الجنوبية في سرايا القدس، الجناح العسكري للحركة، خالد منصور.
تقول حكومة الاحتلال إن العملية التي أسمتها “الفجر الصادق” وشارك فيها الجيش وجهاز الشاباك، تستهدف حركة الجهاد بعد توتر أمني دام عدة أيام بسبب اعتقال القيادي بالحركة بسام السعدي الذي ألقت شرطة الاحتلال القبض عليه عقب اقتحام مخيم جنين في 9 من الشهر الحاليّ.
شددت دولة الاحتلال في عمليتها على تحييد حركة المقاومة الإسلامية “حماس” ومحاولة إبعادها عن المشهد بدعوى أن الهجوم محدد بخطة ممنهجة، تستهدف الجهاد وقياداته فقط، دون أي نية في توسعة العملية، محذرة من أن أي رد حمساوي سيكون له تداعيات على القطاع برمته.
اكتفاء “حماس” ببيانات الشجب والإدانة دون الإعلان عن الانخراط في المقاومة لليوم الثالث على التوالي منذ انطلاق العملية، أثار الكثير من التساؤلات عن دوافع الحركة إزاء هذا الموقف الذي ربما يضع سمعتها على المحك كونها الحاضنة الأم لحركات المقاومة الفلسطينية، غير أن استمرار التصعيد والانتهاكات الإسرائيلية إزاء القطاع وتزايد أعداد الشهداء ساعة تلو الأخرى ربما يدفعها إلى التخلي عن تحفظاتها وحساباتها المتشابكة، ويزج بها إلى الدخول على خط المواجهة والرد بشكل رسمي مهما كانت العواقب.. فهل تنجح الاستفزازت الإسرائيلية في جرجرة الحركة للرد المباشر؟
التزام الحياد.. تكتيك له حساباته
عزفت كثير من الصحف العربية على وتر “حياد حماس” في تعاملها مع العملية الإسرائيلية الحاليّة، وتركها لحركة “الجهاد” في مواجهة المحتل دون دعم أو تنسيق كما كان في السابق، مستشهدين بما حدث في 2019 حين تعرضت لهجوم إسرائيلي أسفر عن استشهاد القائد في سرايا القدس بهاء أبو العطا، فيما التزمت “حماس” حينها الصمت.
وحتى الساعة، اكتفت حماس ببيانات وتصريحات رسمية وغير رسمية، حمّلت فيها دولة الاحتلال مسؤولية تلك الاعتداءات، مطالبة بتدخل المجتمع الدولي لوقف العملية، كما جاء على لسان المتحدث باسمها فوزي برهوم الذي شدد على أن المقاومة ستدافع عن الشعب الفلسطيني بكل ما تملك، وستوازن الردع وستبقى تلاحق الاحتلال وستهزمه كما هزمته في كل المعارك وفي كل الساحات، مؤكدًا في الوقت ذاته على وحدة فصائل المقاومة وأنها “ستقول كلمتها وبكل قوة، ولم يعد ممكنًا القبول باستمرار هذا الوضع على ما هو عليه”.
تتجنب الحركة الدخول على خط المواجهة حفاظًا على التزاماتها وتفاهماتها مع الوسيط المصري بشأن تفويت الخطة الإسرائيلية لشن حرب شاملة في القطاع تخدم الحكومة الإسرائيلية الحاليّة وتعزز من فرص رئيسها المؤقت، يائير لابيد، في الانتخابات المقبلة، ومن جانب آخر تجنيب الغزاويين ويلات تلك الحرب وتداعياتها مع التمسك بمبادرة إعادة إعمار غزة التي بلا شك ستتوقف حال نشوب حرب مباشرة بين المقاومة بشتى فصائها وقوات الاحتلال.
الصمت الحمساوي إزاء ما حدث كان مفاجئًا للجميع، حتى لدى صناع القرار والمحللين الإسرائيليين، كما جاء على لسان المحلل الأمني والعسكري الإسرائيلي، يوسي ميلمان، الذي غرد قائلًا: “يجب على “إسرائيل” أن تعلن انتهاء الجولة وتوقف القتال قبل أن يتعقد الوضع.. الإنجاز الأهم في الجولة الحاليّة ليس قتل الجعبري.. فقتل قيادي يأتي غيره كما جرى مع أبو العطاء.. الإنجاز رقم 1 هو أن حماس لم تطلق صاروخًا أو رصاصة واحدة وهذه إشارة أن حماس تريد الهدوء”.
ضغوط على حماس
تتعرض حماس لضغوط داخلية وخارجية مشددة لتحييدها من جانب، والضغط على “الجهاد” لعدم التصعيد في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي من جانب آخر، وقد لعبت القاهرة دورًا محوريًا في هذا الاتجاه، في ضوء السردية الإسرائيلية التي تعزف على وتر تحميل “الجهاد” مسؤولية توتير الأجواء مع حكومة الاحتلال.
وكان المعلق العسكري الإسرائيلي، يوآف ليمور، قد كشف في مقال له قبل 3 أيام في صحيفة “يسرائيل هيوم” عن ضرورة ممارسة حماس لضغوطها على “الجهاد” للحيلولة دون شن أي هجمات ضد أهداف إسرائيلية مهما بلغ الأمر، منوهًا أن حكومة بلاده وعبر وسطاء عدة ضغطت على قادة الحركة لأداء هذا الدور.
التعويل على بقاء “حماس” على الحياد على طول الخط مقامرة إسرائيلية لا يحمد عقباها، وهو التوجه الذي بات يفرض نفسه على الداخل الإسرائيلي، حيث طالب أكثر من محلل عبري بضرورة إنهاء العملية في أسرع وقت بدعوى أنها حققت أهدافها
وأوضح ليمور أن دولة الاحتلال التي قررت مواصلة عملياتها ضد الجهاد لعدة أيام، ستحاول عبر طرق عدة منع حماس من الدخول على خط الأزمة والانخراط في الرد على الهجمات الإسرائيلية، وأنها قد أرسلت رسائل عدة مع الوسيط المصري للضغط على الحركة في هذا الاتجاه.
تحييد حركة المقاومة الإسلامية في مواجهة الانتهاكات الإسرائيلية ليست المرة الأولى، ويبدو أنه تكتيك إسرائيلي يهدف إلى زرع الفتنة والوقيعة بين حركات المقاومة الفلسطينية، إذ تكرر الأمر في 2019 حين تجنبت حماس الرد على الهجمات الإسرائيلية ضد أهداف تابعة للجهاد في القطاع، ورغم دوافع الحركة وقتها والتأكيد على حرصها على تجنب دخول غزة في حرب شاملة سيكون لها تداعياتها على أكثر من مليوني غزاوي، كما أنها ستؤكد سردية الاحتلال بتحميلها مسؤولية أي توتير في الأجواء ما يكون له ثمن كبير يدفعه الشعب الفلسطيني في المقام الأول، فإن ذلك كان له تأثير سلبي على سمعة حماس وصورتها، داخليًا وخارجيًا.
إلى متى ستظل على الحياد؟
التعويل على بقاء حماس على الحياد على طول الخط مقامرة إسرائيلية لا يحمد عقباها، وهو التوجه الذي بات يفرض نفسه على الداخل الإسرائيلي، حيث طالب أكثر من محلل عبري بضرورة إنهاء العملية في أسرع وقت بدعوى أنها حققت أهدافها في مواجهة الجهاد الإسلامي، وأنه ليس من الضروري استمرارها أكثر من ذلك.
يؤمن الإسرائيليون أن دخول حماس على خط المواجهة سيغير الكثير من المعادلة في ظل ما تمتلكه من مقومات وقدرات تسليحية وقتالية قادرة على إحداث الفارق، وهو ما ثبت خلال معركة “سيف القدس” العام الماضي، التي لقنت فيها المقاومة دولة الاحتلال درسًا قاسيًا في فنون القتال والتسليح.
ورغم ذلك هناك قطاع ليس بالقليل يهدف إلى إشعال الموقف في غزة ودفع حماس للدخول في المواجهة المباشرة، بما يمكن استثماره سياسيًا لدى لابيد الحالم برئاسة الحكومة بشكل رسمي ولمدة أطول، غير أن هذا القطاع يخشى من تكرار سيناريو العام الماضي وأن تكون تلك الحرب شهادة وفاة سياسية لرئيس الحكومة كما حدث مع بنيامين نتنياهو.
لا يمكن لـ”الجهاد” الرد على تلك الاعتداءات بأكثر من 150 رشقة صواريخ، استهدفت الداخل الإسرائيلي، دون استخدام البنية التحتية الحمساوية وقدراتها اللوجستية، وهو ما يعني وجود تنسيق وتناغم غير معلن
المحلل السياسي طلال عوكل، يستبعد إبقاء الحركة على الحياد لفترات طويلة، معتقدًا أن هناك تكتيكًا فلسطينيًا جديدًا في التعامل مع الاعتداءات الإسرائيلية “بمعنى أن الفصائل قررت أنها لن تبدأ كلها بالرد بقوة، هذه المرة هناك حديث عن حرب استنزاف طويلة، وحتى (الجهاد) لم تستخدم قوتها الأساسية. أعتقد أننا أمام استخدام متدرج للقوة ورد يتسع أكثر وأكثر حتى مشاركة باقي الفصائل” حسب تصريحاته لـ”الشرق الأوسط“.
كما أن استمرار حماس على الحياد سيعرض صورتها للخطر إذا طال أمد المواجهة بين الجهاد ودولة الاحتلال، بحسب المحلل السياسي الذي حذر من إعطاء “إسرائيل” فرصة الاستفراد بـ”الجهاد” وحدها في غزة، بما يقوض المعيار المهم الذي توصلت إليه حركات المقاومة خلال حرب العام الماضي الذي كان يرتكز على توحيد الساحات ووحدة الموقف والهدف وإفشال كل مخططات التقسيم.
في ضوء المعطيات السابقة يبقى السؤال: هل حماس بالفعل خارج الملعب؟ ردود الفعل الداخلية والخارجية التي تتسم نسبيًا بالهدوء مقارنة بما حدث قبل ذلك، تشير إلى أن الحركة لم تكن أبدًا بعيدة عن المشهد، وإن لم تعلن ذلك رسميًا وفق الحسابات سالفة الذكر، لكن في الوقت ذاته لا يمكن لـ”الجهاد” الرد على تلك الاعتداءات بأكثر من 150 رشقة صواريخ، استهدفت الداخل الإسرائيلي، دون استخدام البنية التحتية الحمساوية وقدراتها اللوجستية، وهو ما يعني وجود تنسيق وتناغم غير معلن.
تعلم حماس جيدًا أن تركها لحليفها في المقاومة “الجهاد” وحيدًا في مواجهة المحتل سيكون له تداعياته السلبية على سمعتها وصورتها لدى الشارع الغزاوي تحديدًا والفلسطيني العربي بوجه عام، لا سيما أنها على يقين بمخطط المحتل في تفتيت لحمة المقاومة عبر سياسة “فرق تسد”، خاصة أن لها واقعة سابقة في 2019، رغم الدوافع حينها التي تتشابه إلى حد كبير مع دوافعها الحاليّة.
وفي الأخير فإن إعطاء “حماس” ومعها “الجهاد” مهلة للوساطة المصرية القطرية لإنهاء تلك الاعتداءات في أسرع وقت ممكن تجنبًا للدخول في حرب شاملة، ليس توجهًا مطلقًا، بل هو مرهون باستجابة الاحتلال لتلك الوساطات وإلا فالمشهد سيدخل في منعطف كارثي لا يمكن توقعه فيما تبقى كل السيناريوهات متاحة، وهو ما ليس في صالح كل الأطراف مهما كانت المكاسب المحققة مؤقتًا.