بدأنا فى الجزء الأول من سلسلة “نقد الحركة الإسلامية من الخارج: العراق نموذجًا (1/2)” تاريخ الحركة الإسلامية فى العراق دون الغوص في تفاصيل وجزئيات المشهد العراقى حتى عام 2003 ، ومنذ هذا التاريخ وحتى الآن عانت الحركة الإسلامية فى العراق من حالة صدمة الانتقال وثنائية الخيارات، واللذان يمثلان مأزق تاريخى لأبناء الحركة الإسلامية عامة والإخوان المسلمين في العراق خاصة, في صورة من الارتباك والتردد بين أدب وفكر ووسائل العمل السري ومناهج العلنية وسياستها ووسائلها، وبين النضال السياسي ذو المقاومة السلمية والنضال العسكري ذو المقاومة المسلحة، وبين الحزب الإسلامي والاندماج المجتمعي والجماعة والتنظيم والانغلاق الطوباوي، وبين رسالية الإسلام وعالميته وقوميات العراق الضيقة من عرب وأكراد وتركمان، وبين القوميات المذهبية السنية والشيعية والأيديولوجية في الداخل والخارج.
ولقد عارض الإخوان الحرب الأمريكية على العراق2003، ثم شاركوا مع الأمريكان في المجلس الانتقالي للحكم الذي يشارك فيه محسن عبد الحميد الكركوكي، وزعيم الحزب وصلاح الدين بهاء من الإخوان المسلمين الأكراد، ويرجع ذلك لتأثير الدور الكردي في الحزب والذي لايجد غضاضة في التعامل مع الأمريكان، وأخذ قرار القبول بالمشاركة في مجلس الحكم الانتقالي الذي كان يرأسه ممثل جيش الاحتلال الأمريكي “بول بريمر” دون العودة لقيادة التنظيم العالمي ثم دون رضاه، وأصر الحزب على قراره في الوقت الذي أصدر جاره الإخواني في الأردن – جبهة العمل الإسلامي – بيانه بإدانة المجلس وتخوين بل وتكفير من يشارك فيه أو يقبل به! أما المرشد العام للجماعة السيد مهدي عاكف – فك الله أسره – فلم يعقب في المسألة وترك الأمر وحق حسمه إلى إخوان العراق دون غيرهم، واعتبر أن أهل مكة أدرى بشعابها!
وفى نيسان/ أبريل2003 أعلن الحزب عما أسماه “الظهور الجديد”، ومغادرة العمل السري، والمشاركة في مؤسسات الحكم مع وجود الاحتلال الأمريكى، وانتخب بن كركوك الكردي الأصل “محسن عبد الحميد” أمينًا عامًا للحزب وناطقًا رسميًا له وعضوًا في مجلس الحكم الانتقالي وأول جمعية وطنية، وفي 2005 انُتخب “طارق الهاشمي” أمينًا للحزب، وأصبح محسن عبدالحميد رئيس مجلس شورى الحزب، ودخل الحزب الانتخابات في جبهة التوافق، وحصلت الجبهة على 44 مقعدًا، وشاركت بوزراء في الحكومة، وأصبح “طارق الهاشمي” نائب رئيس الجمهورية.
ولا يخفى على أحد دور الهاشمي وحزبه في مرحلة ترسيخ الواقع والتعاطي معه وهو الذي امتدحه الرئيس الأمريكي جورج بوش عند مقابلته قائلاً: “شرفني استقبال نائب الرئيس العراقي للمرة الثانية، فقد سعدت بلقائه في بغداد وقد دعوته لزيارة واشنطن، وقفعلت ذلك لأني أدرك أهميته لمستقبل العراق .. عراق حر سيكون حليفًا لنا في الحرب على المتشددين الإسلاميين، وأنا يا سيادة نائب الرئيس أقدر شجاعتك ونصحك، فقد قضيت اليوم وقتًا مع نائب الرئيس في النقاش حول ما الذي يمكن أن تقدمه أمريكا لنصرة حكومة المالكي وهدفنا أن نقهر الإسلاميين المتطرفين ونهزمهم؛ لذا أرحب بك وأشكرك وأقدر شجاعتك”.
ليرد عليه الهاشمي قائلاً: “أود أن أعبر عن خالص شكري وتقديري لسيادة الرئيس الأمريكي، كما أود أن أعبر عن عظيم امتناني للدعم الفريد الذي يقدمه الرئيس الأمريكي، خصوصًا وهو دائمًا وأبدًا يؤكد عزمه على تحقيق النصر في العراق، وأنا أشاركه في همته وعزيمته القوية على الانتصار في العراق إذ ليس لدينا خيار آخر سوى الانتصار، وسنحشد قوانا مع أصدقائنا الرئيس الأمريكي وإدارته لتحقيق النصر في العراق، ومشورتي للرئيس الأمريكي ستكون عاملاً مهمًا للنصر، أشكر الرئيس الأمريكي على إتاحته الفرصة وأنا أغادر الولايات المتحدة ولدي امتنان عميق بأن لدينا أصدقاء مصممون على مساعدتنا للانتصار، مهما كانت التضحيات التي سنقدمها فإننا سنخوض هذا الصراع الذي لا بد منه لتحقيق غاياتنا بالانتصار في العراق”.
ولا ينكر الهاشمي هذا الدور بل يتفاخر به ولا ينسى أيضًا دوره ودور حزبه في حرب الصحوات حيث إن المقاومة – كمايقول الشيخ الدكتور”عبدالسلام الكبيسى” -وصلت في الشهر الثامن من عام 2006 إلى مرحلة أنها أدخلت الرعب في قلوب الأمريكيين، لكن في نفس الوقت دخل الرعب في أصحاب العملية السياسية؛ لأنهم ربطوا وجودهم بوجود الأمريكيين، وجًودا وعًدما، فماذا فعلوا؟ باعتراف طارق الهاشمي – نائب رئيس الجمهورية والأمين العام للحزب الإسلامي – في قناة العربية، قال: “سيكتب التاريخ أن (أبو ريشة) لم يكن هو الذي أوجد الصحوات، وإنما الحزب الإسلامي هو الذي أوجدها .. تمويلاً ودعمًا”، وهذا مسجل له بالصوت والصورة.
والذي حصل أنها دخلت (الصحوات) بواسطة الحزب الإسلامي، واخترقت فصائل المقاومة، واستطاعت أن تعطي أكثر أسماء المقاومين؛ وهو ما أدى إلى اعتقال الكثير منهم، كما خرج آخرون خارج العراق كلية؛ وهو ما أدى إلى إضعاف المقاومة حتى وصلت تقريبًا إلى 15% مما كانت عليه من قوة، لكن كما قلت العبرة ليست بالكم بقدر ما في القصد والتهيؤ والإخلاص، ولا ننسى سنن الله في الكون، ونحن حربنا في سبيل الله سبحانه وتعالى .. نحن نعيش حالة “تمحيص”{وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ } آل عمران 141
ولايخفى على المتابع للشأن العراقى أن إخوان العراق تعللوا بمشاركتهم فى العملية السياسية كي لا تخلو الساحة العراقية من السنة وأن يكون لهم دور بارز فى بناء عراق إسلامى حضاري – كماقال بيانهم الأول – فهل حصلوا على مرادهم؟ وأين العراق الآن؟ ومن يتحكم فيه؟ ومن يدير شئونه؟!
ولاينسى التاريخ أيضًا كلام أحد أكابر العمل الإسلامى ومنظريه وقائد من قادة الإخوان المسلمين في العراق وهو الشيخ “عبدالمنعم العزى” والمشهور بين أبناء الحركة الإسلامية باسم”محمد أحمد الراشد” في رسالته “نقض المنطق السلمي” والتي يعترف بل ويعتذر فيها عن خطأ الممارسة السياسية في ظل الاحتلال الأمريكي للعراق “مفاد البديهة، وتجربة الحياة: أن العمل السياسى الصحيح، وفق قواعد الفقه، وثوابت الإسلام، هو تكميل للجهاد الواع الشجاع، وهو الوجه الثاني له، والمستثمر لعطاياه ونتائجه، وكلا الرهطين فاضلان، وهما ميمنة وميسرة لقلب تمثله دعوة فكرية تربوية هي خط الإنتاج الخلفي ومصدر الإمداد في الابتداء والانتهاء”.
ولكن هذا الفهم الوسطي والتقدير المتناسب – ولازال الكلام له – : لم تستطع تجربة “العملية السياسية الإسلامية في العراق أيام الاحتلال الأميركي ” مجاراته بمهارة أو الالتزام بشروطه الضمنية، أو موازاة سمت الاعتدال وتمثيل السياسة الإسلامية في وصفها النموذجي الذي أورده الفكر الإسلامي الدعوي الحديث الذي يحرص على الأصالة كحرصه على التجديد والإبداع وملاءمة المستجدات، بل حصل اجتهاد في التطبيق هو إلى الخطأ أقرب، وتم رصد خروق ونزول عن المستوى المفترَض، ومن أسباب هذا التخلّف عن هذه السياسة الجريئة : لوثات الدنيويات، من دغدغات السمعة والرفاهية وبحبوحة المال، تثاقل بالمؤمن إلى الأرض في سويعات الغفلة، بل أيضًا لانعدام الدراسات الأولية التي توجه القرارات، وارتجال الرؤى بمعزل عن دقائق حيثيات الواقع، وحصول اجتهادات وقتية سريعة تصوغها أنواع من المنطق المِزاجي، فصار الفوز والحرص على الأصوات هو الديدَن والمعيار والقضية وسبيل الامتلاء النفسي ومقياس الإنجاز، وليس كذلك شأن الميزان الدعوي الأصيل.
ولعل الأحداث الأخيرة في العراق والثورة على المالكي وظهور داعش القوي على الساحة أثر على النخب والدول والأحزاب، إلا أن موقف الإخوان في العراق من هذه الأحداث جاء متناقضًا مرتبكًا، وأثار بيان صادر عن جماعة “الإخوان المسلمين”، بشأن الأحداث العراقية، جدلاً كبيرًا بين قيادات وأعضاء الجماعة في الخارج. وتضمّن البيان، الذي نُشر على الصفحة الرسمية للجماعة على موقع “فيسبوك”، والموقع الرسمي على الإنترنت، دعوة “الأطراف جميعًا إلى مراعاة حرمة الدماء، وعدم الانحدار نحو اقتتال طائفي”، وهو ما أثار غضب قيادات الجماعة المتواجدين في الداخل والخارج، وقد دفع الجدل الذي أثاره البيان، قيادات الجماعة إلى حذفه من الموقع، ونشر بيان آخر، أكدت فيه الجماعة أن “ما يجري في العراق هو انتفاضة شعبية، وعلى الجميع سماع صوت الشعب المنتفض، وتلبية مطالبه، وإعمال صوت العقل والحكمة”، مشيرًا إلى أن “كل المسلم على المسلم حرام، دمه وماله وعرضه”.
ولعل الجميع الآن يدرك حقيقة الأمور ويعلم مآلاتها، بعد مرور أكثر من خمسين عامًا على جماعة الإخوان المسلمين فى العراق، وأكثر من عشر سنوات على احتلال العراق، والعراق الآن يتألم ويصرخ من ويلات التقسيم العرقى والمذهبى، ولايزال السؤال قائمًا هل نجح مشروع الإخوان الحضارى في العراق؟ وهل تحقق مرادهم؟!
………………………………………..
المصادر:
– الموسوعة التاريخية الرسمية للإخوان المسلمين”الإخوان المسلمين في العراق” “الحزب الإسلامى في العراق”.
– رسالة محمد أحمد الراشد”نقض المنطق السلمي”.
– مائة عام على الإسلام السياسي في العراق”راشدالخيون”.
– الإخوان المسلمون في العراق وثنائية الخيارات”الجزيرةنت3/10/2004″.