انتهت تقريبًا قبل ساعات واحدة من أقصر جولات القتال بين المقاومة الفلسطينية في غزة والاحتلال، والجولة، في المعجم السياسي الفلسطيني المعاصر، هي ما يدلُّ على القتال لعدة أيام من أجل تحقيق أهداف مرحلية لأحد الأطراف، إذ يكون بين كل معركة حامية والأخرى عدد كبير من الجولات القصيرة.
في هذه الجولة، التي استمرت نحو 72 ساعة فقط، وهو رقم ينبغي العناية به كثيرًا لأسباب ستُذكر في طيات الموضوع، بعد وساطة مصرية، مدعومة أمريكيًّا وأمميًّا وقطريًّا، بدا أن الاحتلال أكثر جهوزية واستعدادًا لهذه الجولة، على عكس جولات سابقة كان للمقاومة اليد العليا فيها.
في عقل الدوائر الرفيعة للمحتل
الظاهر من أحداث هذه الجولة، أن الدوائر رفيعة المستوى في الاحتلال، بين العسكري والاستخباري والسياسي، وهي دوائر متداخلة جدًّا في السياق الإسرائيلي إلى درجة يصعب معها الفصل بينها، إذ نجد أن القائد العسكري اليوم كان رئيسًا للحكومة بالأمس والعكس؛ وضعت نصب أعينها عدة مشاهد قبل إطلاق الصواريخ جو-أرض على مقرِّ وجود القائد العسكري لسرايا القدس، الذراع المسلح للجهاد الإسلامي، تيسير الجعبري.
هذه المشاهد تعود إلى مطلع نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، حينما شنَّ الاحتلال حربًا قصيرة زمنيًّا، كبيرة أثرًا، على القطاع، قام خلالها باغتيال القائد العسكري السابق لسرايا القدس، بهاء أبو العطا، الرجل الذي وصفته وسائل الإعلام العبرية كثيرًا بأنه واحد من 3 قادة ميدانيين في المنطقة يشكّلون خطرًا جسيمًا على الاحتلال، إلى جانب حسن نصر الله، الأمين العام لحزب الله، وقاسم سليماني، القائد السابق لفيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني، قبل اغتياله.
أراد المحتل في هذه الجولة أن يكرر ما حدث خلال جولة اغتيال بهاء أبو العطا بحذافيره
في تلك الجولة المباغتة قبل 3 أعوام تقريبًا، استطاع الاحتلال قطف تلك الرأس الكبرى في السرايا، ثم قام طيّاروه وطيرانه المسيَّر معظم الوقت باصطياد العناصر الميدانيين للسرايا، ممّن كانوا يتحركون بتلقائية على فتحات وعيون الأنفاق من أجل مقارعة القصف الإسرائيلي بقصف صاروخي ردًّا على العدوان، وانتقامًا لمقتل قائدهم العسكري.
بدا حينئذ أن العدو أكثر جهوزية واستعدادًا للمعركة من خصمه، عسكريًّا وسياسيًّا، حيث نجح، إلى حدٍّ كبير، في تحقيق بنك أهدافه العسكري، كما روّج لسردية أن حماس تركت الجهاد وحدها في الميدان، ما أدّى إلى تصدُّعات سياسية وميدانية، لم تعالجها كليًّا إلا معركة “سيف القدس” مايو/ أيار 2021، وهي المشهد الثاني الذي كان يسيطر على عقل المحتل قبل أن يدخل الجولة الأخيرة.
اختصارًا، أراد المحتل في هذه الجولة أن يكرر ما حدث خلال جولة اغتيال بهاء أبو العطا بحذافيرها، عبر قطف رأس ميدانية كبرى واصطياد العناصر الوسطى في قلب المعركة والفصل -الظاهري على الأقل- بين الفصيلَين الأخطر في القطاع، كما أراد، في الوقت نفسه، أن يتلافى وأن يتجاوز آثار ما كابده ماديًّا ومعنويًّا قبل أكثر من عام في سيف القدس.
كيف استعدَّ الاحتلال للجولة؟
في تقييم نتائج الجولات العسكرية الخاطفة تلك، يعتمد الخبراء على عدة “ثيمات”، منها وعلى رأسها من بادرَ بإطلاق الطلقة الأولى؟ ومن أنهى المعركة؟ إذ يكون لصاحب الطلقة الأولى أفضلية ميدانية لأنه من قرّرَ تحديد الوقت المناسب له، إلى جانب المحددات الأساسية الأخرى، مثل عدد القتلى، ونسبتهم، وهوياتهم، وطُرق قتلهم، بالإضافة إلى الخسائر المالية والنفسية والسياسية في كل جانب.
تذرّع الاحتلال، في سبيل إمساكه بالمبادرة في هذه الجولة، بذريعته الأثيرة والمفضّلة: “لقد تحرّكنا استباقيًّا لمنع خطر أكبر ضد مصالحنا”، وهو ما روّجه إعلام الاحتلال الرسمي بالقول إن حركة الجهاد، دون غيرها، تنوي القيام بأعمال انتقامية ردًّا على ملابسات اعتقال الشيخ بسام السعدي، أحد قيادات الحركة، في الضفة الغربية.
وبناءً عليه، استوفى الاحتلال استعداداته العسكرية لتلك الجولة عبر غلق الكيبوتسات الملاصقة لقطاع غزة غلقًا شبه كلي، قبل أيام من اغتيال الجعبري، وحشد أعدادًا غير بسيطة من قوات الاحتياط ضمن ما يسمّى “الأمر 9″، بحيث هيَّأ سكان الجنوب والرأي العام المحلي وقوات الجيش لتلك الضربة، حتى أنّ “يديعوت أحرونوت” وصفت تلك الاستعدادات، قبل البدء الفعلي للقصف والاغتيال، بأنها “أهدأ عملية تصعيد قبل 20 عامًا”، باعتبار أنّ هناك استنفارًا شديدًا غير مفهوم.
أدركت فصائل المقاومة أن الفخ كان معدًّا جيدًا والشرك كان منصوبًا بدقة، وللعدوّ اليد الطولى في الاستطلاع والجهوزية
يلاحَظ أيضًا أن الاحتلال سارع في تسمية عمليته العسكرية اسمًا رمزيًّا (بزوغ الفجر)، وهو تكتيك يدلُّ عادة على القصدية والإرادية والمبادرة في بدء الجولة، وأنه لم يذهب إليها قسرًا، حيث أشارت مصادر أمنية رفيعة في وقت مبكّر أن هذه الجولة ستكون قصيرة وسوف تنتهي في غضون 72 ساعة.
كما بثّت وسائل الإعلام لاحقًا مشاهد قيل إنها خلال عملية التوقيع على قرار اغتيال الجعبري وإصدار الأوامر العسكرية للطائرات بقصف موقعه، وهو ما حدث أيضًا قبل اغتيال أبو العطا، وقد تزامنت الجولة أيضًا مع قيام المستوطنين باقتحام الأقصى في ذكرى الـ 7 من أغسطس/ آب، وهو السبب -المباشر- الذي قامت لأجله معركة “سيف القدس”، ما يشي بأن الاحتلال لا يزال متأثرًا ومحمّلًا بآثار انتصارات المقاومة فيها، مع وجود إرادة لتحسين صورته في الوقت الحالي.
لماذا لم تدخل حماس المعركة؟
على أرض الواقع، كان هناك تنسيق حتمي بين الجهاد وباقي الفصائل، بما فيها حماس، تحت لواء الغرفة المشترَكة، ولأن الوضع في غزة اجتماعيًّا لا يتحمّل أن يترك فصيلٌ فصيلًا آخر يُفتَك به من قوات الاحتلال، وفي الوقت نفسه لم يرقَ ذلك التنسيق إلى ما حدث في يوليو/ تموز 2014 أو مايو/ أيار 2021، حيث يشارك الجميع في القصف والقتال والتضحية على نطاق واسع في تناغم لافت.
أما هذه المرة، أدركت فصائل المقاومة أن الفخ كان معدًّا جيدًا والشرك كان منصوبًا بدقة، وللعدوّ اليد الطولى في الاستطلاع والجهوزية، فكان تقدير الموقف أن تخرج الجولة بأقلِّ الخسائر العسكرية للمقاومة، فإن تضرّرَ فصيلٌ فليس من الفطنة أن يتضرر الجميع، لأن في النهاية الخسارة واحدة، مع الأخذ في الاعتبار أن القطاع نفسه تضرر كثيرًا، إنسانيًّا واقتصاديًّا، خلال “سيف القدس”، ومن ثم هناك حاجة ماسّة إلى “احتواء” الصدمة والنهوض سريعًا.
وفي الأخير، لا بدَّ أن نعرف أن عملية الوعي بالمحتل عملية تراكمية، وأن أهل غزة أدرى بشعابها، متى يقاتلون، ومتى يقبلون الهدنة، ومتى يضغطون، وإن كان المحتل قد سجّل نقاطًا في هذه الجولة، بدت واضحة في إبرام الهدنة دون التزامات ملموسة تقريبًا، فإنه خسر كثيرًا من قبل، كما خسر في هذه الجولة، وكما سيخسر كثيرًا بصلابة وتجلُّد أصحاب الأرض، وهو ما عهدناه من المقاومة.