قليلًا ما نسمع عن انتخابات حرة ديمقراطية في الدول الإفريقية، فالحكم هناك في أغلبه يجري عن طريق الوراثة رغم أننا لسنا أمام أنظمة ملكية، ذلك أن الرئيس الذي يصل الحكم يركز كل اهتمامه على توطين عائلته في مفاصل الدولة حتى تكون العائلة الآمر الناهي. في هذا التقرير لـ”نون بوست” سنحاول تسليط الضوء على حكم العائلة في بعض الدول الإفريقية جنوب الصحراء وكيف أصبح التوريث المصدر الأول للحكم في القارة السمراء وانعكاسات ذلك على التنمية والتطور والتقدم هناك.
عائلات حاكمة في إفريقيا تأبى التخلي عن السلطة
من المتعارف عليه عالميًا أن انتقال السلطة يتم عادة عن طريق انتخابات تنظم مرة واحدة كل أربع أو خمس سنوات وفق ما ينص عليه دستور البلاد، وهناك من ينظم انتخابات رئاسية مرة كل 6 سنوات كما كان عليه الوضع في فرنسا قبل أن يتم تعديل الدستور لتصبح خمس سنوات فقط.
تشترط غالبية الدساتير ولايتين رئاسيتين فقط للحكام، هذا طبعًا الأمر المعتاد في الدول التي تحترم شعوبها وتسعى إلى التطوير والتقدم، أما في الدول التي لا يرى حكامها إلا مصلحتهم ولا مكان لمصلحة الشعوب في قاموسهم فالأمر مختلف تمامًا.
رغم كون الدول الإفريقية غنية بالثروات الباطنية والموارد المالية، فإن نسب الفقر والبطالة فيها مرتفعة
تبرز هذه الظاهرة في القارة الإفريقية، فالعديد من الدول هناك لا تعترف بالانتخابات وحتى إن اعترفت بها فهي تُفصّل وفق مقاس الحاكم، ولا أحد له الاعتراض وإن اعترض فالسجن أو القتل مصيره وفي أفضل الأحيان النفي خارج البلاد.
في غياب الانتخابات، يبرز التوريث، فنكون بذلك أمام أنظمة وراثية تورّث الحكم لأفراد العائلة بعيدًا عن دساتير البلاد، وعادة ما يقوم الأب الذي يرأس البلاد بتهيئة ابنه وإلحاقه بالجيش وإسناد أعلى الرُّتب العسكرية إليه حتى يخلفه فيما بعد.
ترجع ظاهرة التوريث لأسباب عديدة منها خشية الحكام من المحاسبة في حالة مغادرتهم السلطة والضامن الوحيد لعدم المحاسبة هو توريث الحكم، ومن الأسباب أيضًا، سعي العائلات الحاكمة إلى الحصول على امتيازات إضافية وخوفها من خسارة الامتيازات السابقة ونفوذها، يحتم عليها البقاء في الحكم أكثر حتى إن كلفها ذلك معاداة الشعوب والتعدي على القوانين.
عائلات حاكمة
تعد عائلة ديبي في تشاد أبرز مثال على هذا النهج السياسي في إفريقيا، فهي تحكم البلاد منذ سنة 1990، عندما انقلب إدريس ديبي على الرئيس حسين حبري واستولى على السلطة في ديسمبر/كانون الأول من تلك السنة.
بقي ديبي الأب في الحكم حتى شهر أبريل/نيسان 2021، إذ قتل في أثناء وجوده في ساحة قتال ضد متمردي “جبهة التناوب والوفاق” القادمين من جنوب ليبيا بعد يوم واحد من إعلانه رئيسًا لتشاد للمرة السادسة.
انتهى حكم إدريس ديبي لكن لم ينته حكم العائلة، فقد تولى نجله محمد الحكم مباشرة، رغم أن دستور تشاد ينص على أن يتولى رئيس البرلمان رئاسة البلاد مؤقتًا عند وفاة الرئيس أو عجزه عن أداء مهامه، وتجرى انتخابات رئاسية جديدة خلال 45 يومًا على الأقل، و90 على الأكثر من تاريخ الشغور.
تم التوريث في تشاد برعاية فرنسية، رغم المعارضة الشعبية، يُذكر أن عائلة ديبي تحتل أبرز المناصب السياسية والعسكرية العليا في تشاد ولهم تأثير كبير في تسيير البلاد وفي السلطة، بالاستعانة بأفراد من قبيلة “الزغاوة” التي ينتمون إليها.
فضلًا عن عائلة ديبي في تشاد، نجد عائلة “غناسينغبي” في توغو، حيث تحكم هذه العائلة – البلد الصغير في غرب إفريقيا – منذ 55 عامًا، وفي سنة 2005 توفي الرئيس غناسينغبي إياديما، بسبب إصابته بأزمة قلبية وبموجب دستور توغو، كان ينبغي لرئيس البرلمان، فامباري واتارا ناتشابا، أن يصبح رئيسًا للبلاد، ريثما تجرى انتخابات رئاسية جديدة في غضون 60 يومًا.
تم منع ناتشابا الذي كان خارج البلاد، من دخول توغو، وصوّت البرلمان على إلغاء الشرط الدستوري الذي كان سيطلب إجراء انتخابات في غضون 60 يومًا، وأعلن أن نجل إياديما، فور غناسينغبي، سيرث الرئاسة ويتولى منصبه لبقية مدة والده.
لم يحكم فور غناسينغبي المدة التي بقيت من ولاية ولاده فقط، إذ يواصل إلى الآن حكم البلاد، وفي سنة 2020 فاز بولاية رئاسية رابعة وقبلها أجرى تعديلًا للدستور يفتح أمامه باب البقاء في الحكم حتى سنة 2030، مكرّسًا بذلك حكم عائلته للبلاد الممتد منذ 1967.
انتقالًا إلى الغابون، تستفرد عائلة “بونغو” بالسلطة في هذا البلد منذ نحو نصف قرن، حيث بدأت سطوة هذه العائلة على الحكم سنة 1967 بتولي عمر بونغو الأب السلطة بعد وفاة رئيس البلاد ليون مبا، وبعد وفاة الأب سنة 2009 تولى علي بونغو الابن السلطة.
حرمت العائلات الحاكمة، أفراد الشعب من الوصول إلى السلطة أو حتى مجرد التفكير في ذلك، كما حرمتهم من التمتع بثروات بلادهم
تسيطر عائلة بونغو على الحكم وعلى ثروات البلاد، فالرئاسة انتقلت من الأب إلى الابن فيما يتقاسم باقي أفراد العائلة أبرز المناصب الرئيسية في الدولة، فهم يمسكون بزمام الأمور والكلمة الأولى والأخيرة لهم، رغم محاولة الإطاحة بهم في العديد من المرات.
وفي كينيا نجد عائلة “كينياتا” التي تفرض سيطرتها على مقاليد الدولة، ويرأس البلاد أوهورو كينياتا منذ 9 أبريل/نيسان 2013، وهو ابن أول رئيس للبلاد بين عامي 1964 و1978 وزعيم استقلالها البارز، وتمتلك عائلة كينياتا حضورًا مؤثرًا في كينيا.
وترأس إمزي جومو كينياتا البلاد طيلة 12 سنة، تمكن خلالها من فرض سيطرة عائلته على الحكم هناك، رغم المنافسة الكبيرة لعائلة “أودينغا” وقبيلة “اللوو”، التي يمثلها رئيس الوزراء الكيني السابق رائيلا أودينجا.
تنتمي عائلة “كينياتا” إلى قبائل “الكيكويو” ذات الثقل السكاني والنفوذ السياسي والاقتصادي الواسع، وهي إحدى أكبر القبائل وأكثر الجماعات العرقية انتشارًا في كينيا، وتضم أكثر من 47 قبيلة، وتشتهر هذه القبائل بأن نسبة كبيرة من أفرادها من كبار الساسة في البلاد وصفوة المجتمع.
عرقلة التنمية والتقدم
توجد العديد من العائلات الحاكمة الأخرى في دول إفريقيا بما في ذلك في شمال القارة – في تونس والجزائر والمغرب وليبيا ومصر – وتساهم هذه العائلات في تدهور الوضع الاقتصادي والاجتماعي والسياسي في دول القارة.
رغم كون الدول الإفريقية غنية بالثروات الباطنية والموارد المالية فإن نسب الفقر والبطالة فيها مرتفعة، ويعود ذلك إلى تحكم العائلة الحاكمة في موارد الدولة وسيطرتها عليها وتخصيص أغلبها خدمة لمصالحها.
تمتلك هذه العائلات القصور والمنتجعات داخل بلدانها وخارجها، ما جعلها محلّ مساءلة قضائية، لكنها دائمًا ما تنفذ منها لارتباطها مع قوى خارجية ليس من مصلحتها التخلي عن تلك العائلات في الوقت الحاليّ، فهي سندها في نهب الثروات.
يُعيق “توريث السلطة” بين العائلات أي محاولات للإقلاع الاقتصادي والتطور وتحقيق التنمية في الدولة الإفريقية، فالاقتصاد أصبح حكرًا على هذه الأسر، كما أصبحت السلطة السياسية حكرًا لهم، في ظل ضعف المعارضة ولامبالاة الشعوب.
حرمت العائلات الحاكمة، أفراد الشعب من الوصول إلى السلطة أو حتى مجرد التفكير في ذلك، كما حرمتهم من التمتع بثروات بلادهم أو حتى مجرد التفكير بوجود ثروات أصلًا، فكل شيء في تلك البلدان حكر على الأسر الحاكمة.