سلطت عملية “الفجر الصادق” التي شنتها قوات الاحتلال الإسرائيلي الجمعة 5 أغسطس/آب 2022 ضد قطاع غزة، الضوء على التوتر المكتوم بين فصائل المقاومة الفلسطينية في القطاع، على رأسها حركة الجهاد الإسلامي التي قال جيش الاحتلال إن العملية تستهدفها في المقام الأول بعد ضغوطه التي مارسها لتحييد حركة المقاومة الإسلامية “حماس” وإبعادها عن ساحة المواجهة، وفق السردية الإسرائيلية.
وتعتبر حماس والجهاد أكبر فصيلان على الساحة الفلسطينية، ورأسا حربة المقاومة المسلحة منذ أكثر من 3 عقود كاملة، وعاملا الحسم الأبرز في إبقاء القضية الفلسطينية على قيد الحياة بعد فشل كل الجهود والمحاولات الدبلوماسية التي تعاملت معها دولة الاحتلال كـ”مطية” لكسب الوقت لتوسيع دائرة استيطانها داخل الأراضي الفلسطينية.
ورغم تشابه أجواء نشأة الحركتين، فكلتاهما خرجت من رحم جماعة الإخوان المسلمين، وتحمل أجندة إسلامية في المقام الأول، فإن التطورات السياسية التي شهدها الملف الفلسطيني خاصة، والعربي والشرق أوسطي بصفة عامة، خلقت العديد من التباينات في رؤيتهما إزاء الكثير من القضايا والمسائل، ما جعلهما في كثير من المحطات تسيران في خطوط متوازية – قد تكون متباعدة نسبيًا في بعض الأوقات – وليست متطابقة.
المشروع الإسلامي المشترك لكلتا الحركتين كان الضمانة الأبرز لبقائهما في المنطقة الآمنة والحائل دون الانزلاق إلى مستنقع الصدام المباشر في ظل التوتر الذي يشوب العلاقة بينهما، ثم جاءت التحديات الوطنية والإقليمية الأخيرة لتضفي أجواءً من التوافقات قادرة بشكل كبير على تفتيت كل الأمواج المتلاطمة وتجاوز الأزمات البينية مهما كانت درجة سخونتها.. فما أوجه الاتفاق والاختلاف بين قطبي المقاومة الفلسطينية؟
خلفية متشابهة
كانت جماعة الإخوان المسلمين الأم في القاهرة الحاضنة الأساسية لنشأة المقاومة الفلسطينية، فبداخلها تلقى قادة حماس ومن قبلها الجهاد تعليمهم التربوي والديني وربما السياسي، خلال فترة السبعينيات والثمانينيات، حين التحق الشباب الفلسطيني بالجامعات المصرية ومنها انطلقوا نحو تدشين شبكة علاقات قوية بقادة الإخوان بعد خروجهم من السجون والمعتقلات إثر إفراج الرئيس المصري الراحل أنور السادات عنهم في صفقة سياسية أبرمها حينها لمواجهة المد الشيوعي في مصر.
وبعد السنوات التي قضوها في القاهرة بين الجامعة ومقرات الجماعة، عاد الشباب الفلسطيني المحمل بالعلم والدين معًا، إلى وطنهم، لتبدأ مرحلة الترويج للأفكار التي تربوا عليها، ونجحوا في استقطاب العديد من الشباب الثائر المفعم بروح الثورة والمقاومة بعد هزيمة يونيو/حزيران 1967 التي كانت مرحلةً فارقةً في تدشين حركات المقاومة.
جاءت الهزيمة بمثابة الصدمة للشارع العربي بصفة عامة الذي كان يحيا قبيلها نشوة المد القومي الناصري الذي كان يعتبر الانتصار على “إسرائيل” مسألة وقت لا أكثر، قبل أن يستفيق على صدمة النكسة، تبع ذلك فشل النظم العربية في مواجهة دولة الاحتلال، ومن ثم لم يكن هناك بد من المقاومة المباشرة ومناهضة الوجود الإسرائيلي داخل الأراضي الفلسطينية.
عول الشباب الفلسطيني القادم حديثًا من خندق الإخوان على الجماعة في دعم توجهه الثوري الجديد في مواجهة الاحتلال بالقوة، لكن سرعان ما اصطدم بأيديولوجية مغايرة نسبيًا لما يؤمن به، فالميل نحو الدبلوماسية والسلام والعمل الهادئ بعيدًا عن التصعيد وتجنب الخيار العسكري وهي المبادئ التي كانت تدين بها الجماعة في ذلك الوقت لم تكن مناسبة للشباب الثوري ومنهجه الجديد، وعليه لم يكن أمامهم إلا الانشقاق عن تلك العباءة مع الحفاظ على ثوابتها الدعوية الاجتماعية.
النشأة وظروف التأسيس
كانت هزيمة يونيو/حزيران شرارة الانطلاق الأولى نحو تدشين كيانات للمقاومة المسلحة بعيدًا عن الأطر النظرية وسياسات المهادنة التي كانت تتبعها النظم العربية في ذلك الوقت وتسببت في تشويه صورتها وسمعتها لدى الشارع الفلسطيني الذي أيقن أن الدبلوماسية لن تحرك ساكنًا في قضيته التي استقر في يقينه أن الدفاع عنها بالقوة هو الحل الوحيد.
الخبير في الشأن الفلسطيني، عدنان أبو عامر، تناول في دراسة له، العوامل التي أدت إلى خروج الجهاد وحماس للنور، كنتيجة منطقية لتوسع المد الإسلامي في المنطقة في ذلك الوقت، فبجانب الهزيمة وسقوط المشروع الناصري العربي القومي، تأثر الفلسطينيون كثيرًا بالطفرة النفطية التي شهدتها دول الخليج التي قدمت العديد من المساعدات المالية للشعب الفلسطيني، حكومة وتنظيمات، ما ساهم بشكل كبير في دعم الأنشطة الإسلامية للعديد من الفصائل، في ضوء التزام أنظمة تلك الدول بدعم المد الإسلامي في ذلك الوقت.
ثم جاءت الثورة الإيرانية وما رفعته من شعارات شعبوية داعمة للعمل السياسي الثوري، لتلقي بظلالها على المشهد الفلسطيني الذي انبهر في بعض محطاته بنجاح تلك الثورة التي استمدت منها بعض الحركات – وعلى رأسها الجهاد – أيديولوجيتها الرئيسية في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي.
رافق ذلك انحسار نفوذ منظمة التحرير الفلسطينية التي تعرضت لهزات عنيفة بعد حرب لبنان 1982 التي شهدت تجربة فريدة من نوعها في مقاومة المحتل، عبر إستراتيجية الأعمال الفدائية والبطولية التي أعطت دفعة كبيرة للتيار الإسلامي في فلسطين لتكرار السيناريو ذاته، بعدما فقدت المنظمة الكثير من مرتكزاتها الخاصة وعلى رأسها تخليها عن الكفاح المسلح لتحرير فلسطين، ما تسبب في عزوف الشباب عنها والتحول صوب الحركات المسلحة الأخرى.
ساعد على ذلك التعصب الديني اليهودي الذي حول الصراع مع العرب إلى صراع ديني وليس سياسيًا، مرجعًا الانتصارات التي حققتها دولة الاحتلال إلى تمسكهم بدينهم، وهو ما أعطى المشهد الفلسطيني زخمًا إسلاميًا غير مسبوق، فكان الانخراط في العمل السياسي عبر عباءة دينية هدفًا لمعظم الشباب الذي انخرط في تلك الكيانات في إطار تعدد جبهات مواجهة الاحتلال.
وفي أواخر سبعينيات وبدايات ثمانينيات القرن الماضي كانت انطلاقة الجهاد ومن بعدها حماس، تزامن ذلك مع اندلاع الانتفاضة الفلسطينية الكبرى التي استمرت حتى اتفاقات أوسلو 1993، تلك الاتفاقات التي تحولت إلى أرضية مشتركة لتلاقي أهداف الحركتين ومعهما أكثر من 5 حركات أخرى رفضت هذه الخطوة وأعلنت المقاومة لتحرير كامل التراب الفلسطيني.
وهكذا خرجت الحركتان من رحم واحد، وتبنتا مشروعًا واحدًا، والتقت رغبتهما في مسار واحد، تحرير فلسطين من قبضة الإسرائيليين انطلاقًا من رؤية إسلامية بحتة، لكن كثيرًا ما تكون الجذور واحدة فيما تتعدد التفرعات التي قد تحمل الكثير من الاختلافات والتباينات في ضوء مرتكزات الرؤية وأهدافها، وهو ما بدأ يلوح في الأفق بين الجهاد وحماس وقد أثر كثيرًا في توتير الأجواء بين الحين والآخر رغم عدم غياب التنسيق بينهما مطلقًا عن الساحة إلا في محطات قصيرة للغاية.
أبرز المسائل الخلافية
تتباين الحركتان في عدد من الملفات، منها خمسة رئيسية، تنبثق عن شكل ومضمون أيديولوجية كل منهما في التعاطي مع بعض المسائل، على رأسها العلاقة مع إيران، وهو الملف الذي طالما أثار خلافات وتوترات بينهما، فكثيرًا ما توجه حماس المحسوبة على الإخوان انتقادات حادة للجهاد المحسوبة بطبيعة الحال على إيران، وتتهمها بالتشيع وأنها بوابة لتعزيز نفوذ طهران داخل فلسطين.
تنطلق الجهاد في أيديولوجيتها تلك من إيمانها بأن إيران هي الدولة الأكثر دعمًا للحركة والمقاومة بصفة عامة، وأنها بعيدة تمامًا عن معادلات المواءمة التي يقع في مستنقعها التيار الإخواني الداعم لبقية الفصائل، في إشارة منها إلى حماس، وبلغ حد الخلاف بينهما في تلك المسألة أن قسم مسجد “الزيتون” في غزة إلى قسمَين، جزء خاص بالسنة ممثلة عن حماس وجزء خاص بالشيعة ممثلة عن الجهاد، وكانت تقوم فيه صلاتان وأذانان وفيه إمامان وجماعتان، وذلك في ثمانينيات القرن الماضي.
لم تكن “الجهاد” فقط هدف إيران في الداخل الفلسطيني، إذ تلقت حماس هي الأخرى خلال السنوات الأخيرة دعمًا ماليًا وعسكريًا من طهران في محاولة منها لاستقطاب التيار السني لتعزيز حضورها الفلسطيني، وهو الدعم الذي لم يرفضه زعماء الحركة ولم يتحفظوا عليه في وقت كانت تعاني فيه حماس من تجفيف مواردها المالية بفعل فاعل.
أما المسألة الخلافية الثانية بينهما تتعلق بـ”إستراتيجية التعامل مع المحتل“، فالجهاد تعتبر “إسرائيل” دولة احتلال لا يمكن قبولها بأي شروط كانت، وعليه فإن المواجهة والمقاومة المسلحة هي الحل الوحيد، رافضة أي مساعي للتهدئة أو الحلول الدبلوماسية، وهو ما يتناسب بشكل أو بآخر مع أيديدلوجيتها التي نشأت عليها والمتمحورة في إقامة دولة إسلامية خالصة وطرد “إسرائيل” من كل الأراضي التي احتلتها عام 1948.
وفي الجهة الأخرى تميل حماس للدبلوماسية في الكثير من تحركاتها، ورغم أن ذلك لم يكن ضمن وثيقتها الأولى التي نشأت عليها، فوفق الظروف والمستجدات اضطرت لإعادة النظر في بعض مرتكزاتها السابقة، ففي 2017 نشرت الحركة وثيقة المبادئ والسياسات العامة الخاصة بها التي كان من بينها قبول قيام دولة فلسطينية على حدود الرابع من يونيو/حزيران 1967 وهي الوثيقة التي رفضتها الجهاد متهمة حليفتها بإبرام اتفاقيات سرية مع المحتل، ورفضها لتلك السياسة أيًا كانت الدوافع والمبررات.
ثم يأتي “الطموح السياسي” كأحد المسائل الخلافية بين الحركتين، فالجهاد لا تميل مطلقًا للعمل السياسي، معللة ذلك بزوال الاحتلال ابتداء حتى تمارس أي نشاط آخر غير المقاومة، وعليه فهي لا تجيد إلا لغة القوة وفقط، دون أي اعتبارات سياسية أخرى وهو أحد الخلافات البينة مع حماس التي لديها طموح سياسي كبير في إدارة القطاع والسيطرة عليه كأحد أدوات المقاومة البناءة لتحقيق أهدافها الكاملة على أرضية صلبة، ولوأد أي تحديات أو عراقيل تحول دون ممارسة عملها العسكري.
ومن ثم فإن كانت الجهاد حركة دينية مسلحة فقط، فإن حماس تزيد عليها في البعد السياسي، وهو ما يوتر الأجواء بينهما بين الحين والآخر، فكثيرًا ما يرى الحمساويون في عسكرة الممارسات الجهادية عرقلة لمسيرتهم وتهديدًا لنشاطهم الذي يوازي بين السياسة والمقاومة، وهو الاختلاف الذي يحاول الجانبان تخفيف حدته من خلال التنسيق المشترك.
في سياق مختلف، تتبنى الجهاد إستراتيجية مغايرة نسبيًا عن حماس من حيث الانخراط في الداخل الفلسطيني، إذ تكتفي الأخيرة بالتوسع داخل القطاع فقط، وتحصر كل أنشطتها في تلك المساحة الضيقة، على اعتبار أنها مرتكز التماس والمواجهة مع المحتل، أما الأولى فتميل إلى التوغل ونسج شبكات اجتماعية قوية بين أطياف الشعب الفلسطيني، ساعدها على ذلك حياديتها المطلقة في التعامل مع طرفي النزاع الداخلي (حماس وفتح) وهو ما جعلها تبقي على قنوات الاتصال مع الجميع، وتلك كانت أحد النقاط الخلافية بين الحركتين التي زادت من توتر الأجواء بينهما.
وبينما قوقعت حماس نفسها داخل الإطار الغزاوي، انفتحت الجهاد على بقية مدن فلسطين وداخل أراضي عرب 48، فأنشأت العديد من الفصائل المسلحة هناك، أبرزها كتيبة “نابلس-سرايا القدس” في مدينة نابلس – كبرى مدن شمال الضفة الغربية – في مايو/أيار الماضي، ومن قبلها كتيبة “جنين” التي دُشنت عقب فرار 6 من الأسرى (5 منهم من الجهاد الإسلامي وواحد من كتائب شهداء الأقصى المحسوبة على حركة فتح) من سجن جلبوع مطلع سبتمبر/أيلول عام 2021.
أما على المستوى الخارجي، فهناك تباين واضح في التعاطي مع القضايا الإقليمية، إذ تؤمن الجهاد بسياسة عدم التدخل في الشأن الداخلي للآخرين، وهو ما اتضح جليًا في موقفها إزاء القضيتين، السورية واليمنية، ومن بعدهما الأزمة الخليجية، إذ تبنت الحركة موقفًا محايدًا ملتزمة الصمت واقفة على مسافة واحدة من جميع الأطراف، في مقابل حماس التي تحدد مواقفها مع تلك القضايا بناءً على موقف أطرافها من القضية الفلسطينية بصفة عامة، ومن الحركة على وجه خاص، وهو ما يوقعها كثيرًا في خندق الاستقطابات السياسية التي دفعت ولا تزال ثمنها غاليًا جدًا.
فارق كبير في القدرات العسكرية
رغم أسبقية الجهاد تأسيسًا، وأنها اللبنة الأولى لحركات المقاومة الإسلامية في غزة، فإن هناك فارقًا واضحًا في القدرات العسكرية بينها وبين حماس التي استطاعت في السنوات العشرة الأخيرة تحديدًا تعزيز ترسانتها التسليحية وإمكاناتها القتالية وبنيتها التحتية بشكل كبير كان له صداه في المعارك التي خاضتها مع قوات الاحتلال.
وتمتلك حماس قاعدة لا بأس بها من الصواريخ غير الموجهة، بعضها محلي الصنع والآخر قادم من الخارج، أبرزها الصاروخ فجر-5 الإيراني الصنع الذي يبلغ مداه 75 كيلومترًا وصواريخ إم-75 المصنعة في غزة ويبلغ مداها 80 كيلومترًا، هذا بجانب ترسانة أخرى من الصواريخ قصيرة المدى مثل القسام (يبلغ مداه 10 كيلومترات) والقدس 101 (يبلغ مداه نحو 16 كيلومترًا)، إضافة إلى نظام صاروخ غراد (ويصل مداه حتى 55 كيلومترًا)، وصاروخ سجيل 55 (ويصل مداه حتى 55 كيلومترًا)، حسبما أشار محلل الشؤون الخارجية والمراسل السابق لشؤون الدفاع والدبلوماسية في “بي بي سي” جوناثان ماركوس، الذي أكد أن القدرات العسكرية لحماس تمكنها من “استهداف القدس وتل أبيب على حد سواء، وتهديد الشريط الساحلي الذي يضم أكبر كثافة سكانية في “إسرائيل” والبنية التحتية الحيوية بأكمله” على حد قوله.
ورغم صعوبة حصر وتحديد قوة حماس العسكرية، في ظل عدم وجود أرقام رسمية، فإن جناحها العسكري وحده “كتائب القسام” لديه نحو 10 آلاف عنصر فيما يبلغ عدد مجموعات الأمن الداخلي نحو 12 ألفًا، وفق تقرير “الميزان العسكري لعام 2014” الصادر عن “المعهد الدولي للدراسات الإستراتيجية”.
في مقابل ذلك، لا تمتلك الجهاد ترسانة الأسلحة ذاتها التي تمتلكها حليفتها ومنافستها الأساسية في القطاع، إذ تفتقد البنية التحتية المؤهلة لبناء قاعدة عسكرية قوية، ومع ذلك فلديها قدرات لا بأس بها نسبيًا، استطاعت من خلالها مواجهة المحتل وتكبيده العديد من الخسائر، ومن أبرز الصواريخ التي أدخلتها إلى قائمة قدراتها: صاروخ “القاسم” برأس حربي متفجر يحمل 400 كيلوغرام من مادة TNT، ومدى قاتل 200 متر، و”بدر3″، الأكثر تطوّرًا من سلسة “بدر”، حيث سبقه “بدر1″ (جحيم عسقلان) و”بدر2″، و”بدر3” إيراني الصنع في الأساس، وهما الصاروخان اللذان استخدما في معركة “سيف القدس” في مايو/أيار2021.
2019: مرحلة فاصلة
شكل اغتيال “إسرائيل” لقائد “سرايا القدس” في المنطقة الشمالية من القطاع، بهاء أبو العطا، في 12 نوفمبر/تشرين الثاني 2019، مرحلة فاصلة في العلاقات بين الحركتين، فلأول مرة تمتنع حماس وذراعها العسكرية “كتائب القسام” عن دعم الجهاد في الرد على الانتهاكات الإسرائيلية، لتتركها وحيدة في ميدان المواجهة والمقاومة، وهو ما دفع بالتوتر بينهما إلى السطح.
ورغم الدوافع التي ساقتها حماس حينها لتبرير هذا الموقف الذي أرجعته إلى رغبتها في عدم التصعيد حفاظًا على الفلسطينيين في قطاع غزة من حرب شاملة قد تقوم حال انخراطها في الرد، فإن ذلك لم يقنع تيارًا كبيرًا من أنصار الجهاد وحلفائها والمتعاطفين معها، ممن برروا موقف الحمساويين بالتزامهم بسياسة المواءمات مع المحتل الذي أكد عبر وسائله الإعلامية أنه نجح في تحييد حماس وإبعادها عن ملعب الأحداث، فيما اعتبره البعض “تخليًا رسميًا” للحركة عن دعم حليفتها التاريخية.
وظلت درجة حرارة الأجواء بين الحركتين في مستوياتها العليا قبل أن تنخفض في أعقاب لقاء رئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية بالأمين العام لحركة الجهاد الإسلامي زياد النخالة، لتهدئة الأمور وإزالة اللبس وتخفيف التوتر، ورغم ذلك كثيرًا ما كانت تتهم الأخيرة الأولى بأنها كبلت نفسها بتفاهمات مع الاحتلال الإسرائيلي، سواء بطرق مباشرة أم غير مباشرة، لكنها لم تحدث أي تغيير في حياة الفلسطينيين ومسار قضيتهم، وأنها تراعي البعد السياسي الدبلوماسي على حساب تثبيت قواعد الاشتباك.
ولم ينجل بعد غبار تلك الأجواء المفعمة بالتشكيك والتوتر حتى طفت إلى السطح العملية الحاليّة “الفجر الصادق” التي شنتها قوات الاحتلال قبل 3 أيام ضد أهداف ومواقع تابعة للجهاد، أسفرت عن ارتقاء أكثر من 40 شهيدًا، بينهم قيادات صف أول، فيما التزمت حماس الصمت العملي، مكتفية ببيانات إدانة وشجب، في محاولة منها لإفشال مخطط “إسرائيل” لشن حرب شعواء داخل القطاع سيكون تداعياتها كارثية على الجميع.
ولعل إدارة الجهاد لتلك المعركة التي استهلتها برشق مستوطنات المحتل بأكثر من 150 صاروخًا، أثارت الرعب في الداخل الإسرائيلي رغم عدم إحداثها خسائر في الأرواح حتى اليوم، سيكون لها تداعياتها على حضور وثقل الحركة داخليًا، إذ فرضت نفسها كأحد المؤثرين في المشهد بعيدًا عن حماس التي كانت دومًا في ظهرها الداعم خلال المواجهات السابقة.
تحديات مشتركة
ظاهريًا هناك تطابق أيديولوجي بين الحركتين، تطابق نابع من الخلفية الأيديولوجية التي تعززت بوحدة موقفهما السياسي إزاء مسارات القضية الفلسطينية المتعرجة، لكن في الواقع فإن حجم الخلافات بينهما حال دون الإجابة عن التساؤل الأبرز الذي يفرض نفسه بين الحين والآخر: لماذا لم يندمج الكيانان في جسد واحد حتى اليوم؟
يبدو أن مسألة الاندماج باتت من الصعوبة بمكان، فالتباينات تسير بمتوالية متصاعدة في ظل تشابك خريطة التحالفات والحسابات المعقدة لكلا الفصيلين، فضلًا عن موجة التطبيع الأخيرة التي أعادت تشكيل منظومة الحلفاء والداعمين للقضية الفلسطينية بصفة عامة.
لكن في الجهة الأخرى، فإن التحديات التي تواجه فلسطين وتهدد مستقبل قضيتها ربما تكون العامل الأبرز في تنحية الخلافات بين حماس والجهاد مؤقتًا، وإعلاء مصلحة الوطن فوق أي مصالح أخرى، وهو ما يفسر نجاحهما في تشكيل جبهة سياسية عسكرية موحدة في إطار مشروع المقاومة الأكثر شمولًا.
وساعد في جهود تنحية الخلافات وتبريد أي أزمات تطرأ بين الحين والآخر بين الحركتين، تصعيد الاحتلال لاعتداءاته التي تعززت بفضل التطبيع المجاني مع بعض الدول العربية، وتخلي الكثير من القوى الداعمة للقضية الفلسطينية عن زخمها السابق، فيما مارست أخرى ضغوطًا كبيرة على المقاومة عبر تجفيف منابع التمويل، كما يحدث من بعض الدول النفطية، وهي التطورات التي اتخذتها فصائل المقاومة كأرضية مشتركة نحو تعزيز التعاون في مواجهة دولة الاحتلال.
وعليه فإن إخراج القضية الفلسطينية من معادلة التوازنات بين إيران ودول الخليج و”إسرائيل” بات ضرورة ملحة لتقليل حجم الفجوة بين حركات المقاومة التي تتعامل معها بعض القوى كـ”أوراق ضغط” لتنفيذ أجندات إقليمية محددة، ويساعد على ذلك الخلفية الأيديولوجية والسياسية المشتركة لكل تلك الحركات.
دفع الشعب الفلسطيني وقضيته ثمنًا فادحًا للنزاع التاريخي بين رام الله وغزة ممثلًا في صراع النفوذ بين فتح وحماس، وها هو اليوم على وشك دفع الفاتورة مرة أخرى، لكن هذه المرة حين يصطدم طموح الحمساويين بتمسك الجهاديين بأيديولوجيتهم التقليدية، وهو ما يجب أن يعيه الطرفان جيدًا حفاظًا على الهدف المشترك والأسمى وهو نصرة القضية وتحرير التراب الفلسطيني من دنس الاحتلال.
في ضوء ما سبق، ربما قدمت حماس والجهاد للكيان الصهيوني هديةً على طبق من ذهب، بما يشهدانه من تباينات وخلافات، لكن سرعان ما يتم تطويقها عبر أروقة التفاهم والحوار والنقاش، لتفسد على المحتل مخططه في تفتيت لحمة المقاومة الوطنية، الأمر الذي جعل الكثير من الجنرالات الإسرائيليين يستبعدون نجاح سياسة “فرق تسد” التي تتبعها تل أبيب في غزة.