اختارت الولايات المتحدة الأمريكية في السنوات الأخيرة، خاصة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب، الوقوف على الربوة وعدم التدخل المباشر في مناطق كثيرة من العالم من بينها القارة الإفريقية، حتى إنها رفضت في أكثر من مرة المشاركة في تمويل نشاطات الجيوش التي تحارب الإرهاب في منطقة الساحل والصحراء الإفريقية، رغم طلب الحليف الأوروبي ذلك.
هذه الإستراتيجية جنبت الإدارة الأمريكية خسائر بشرية كثيرة كانت ستتكبدها لو تدخلت مباشرة، لكنها أفقدتها في الوقت ذاته مكانتها هناك لصالح قوى دولية وإقليمية صاعدة على غرار الصين وروسيا، ما حتم على إدارة بايدن التفكير بجدية في الرجوع إلى إفريقيا وإنقاذ الوضع، علها تتمكن من إحياء بعض نفوذها.
غياب أمريكي
نتيجة غيابها عن إفريقيا، فقدت الولايات المتحدة نفوذها التاريخي هناك، ويظهر هذا الغياب في تراجع الوجود العسكري الأمريكي في القارة الإفريقية خاصة في مناطق التي تشهد نزاعات دامية على غرار منطقة الساحل والصحراء وخليج غينيا.
سحبت الإدارة الأمريكية عددًا كبيرًا من الجنود المتمركزين في القارة الإفريقية في إطار خطة لإعادة تموضع نحو 200 ألف جندي في الخارج، رغم تأزم الوضع في ليبيا وتنامي نشاط الجماعات المسلحة في مالي والصومال وجيبوتي والسودان ودول أخرى.
كما يظهر هذا الغياب أيضًا في بقاء بعض المناصب الدبلوماسية الأمريكية الأكثر أهمية في العواصم الإفريقية شاغرة منذ سنوات، إذ عرفت السنوات الأخيرة تثاقل خطوات تعيين سفراء واشنطن في العواصم الإفريقية بما في ذلك جنوب إفريقيا ونيجيريا وتشاد وتنزانيا وتونس.
استغلت العديد من القوى الإقليمية والدولية هذا الفراغ الذي أحدثته الإدارة الأمريكية في القارة الإفريقية للتغلغل هناك وتثبيت مكانتها
حتى منصب الممثل الدائم لوزارة الخارجية الأمريكية للشؤون الإفريقية بقي شاغرًا لفترة طويلة، رغم تأكيد وزارة الخارجية الأمريكية في أكثر من مرة أنها تقدّر شراكاتها في جميع أنحاء إفريقيا، كما أن التزامها قوي كما كان دائمًا.
ليس هذا فحسب، إذ يظهر الغياب الأمريكي عن القارة الإفريقية في تراجع مؤشرات التجارة بين الطرفين، ذلك رغم وجود اتفاقية التجارة الحرة المبرمة بين الولايات المتحدة وإفريقيا بموجب القانون المعروف باسم قانون إتاحة الفرص والنمو في إفريقيا (أغوا).
يذكر أن سياسة الرئيس السابق ترامب أدت إلى أخذ بعض القادة الأفارقة مسافة من واشنطن، خاصة في ظل التصريحات السلبية التي أدلى بها ترامب تجاه القارة، إذ سبق أن وصف ترامب الدول الإفريقية بـ”دول قذرة”، وتحدث عن إفريقيا كمكان حاول أصدقاؤه الثراء فيه.
حتى بعد انتخابات جو بايدن مكان ترامب رئيسًا للولايات المتحدة الأمريكية، لم تتغير سياسة واشنطن كثيرًا تجاه إفريقيا، إذ لم تضع إدارة بايدن إستراتيجيةً واضحة للتعامل مع القارة في ظل تركيزها على الوضع في الشرق الأوسط وأفغانستان وأمريكا اللاتينية.
تغلغل روسي وصيني في إفريقيا
استغلت العديد من القوى الإقليمية والدولية هذا الفراغ الذي أحدثته الإدارة الأمريكية في القارة الإفريقية للتغلغل هناك وتثبيت مكانتها في دول عديدة من القارة السمراء، مستغلة إمكاناتها الكبرى ورغبة الأفارقة في تنويع الشراكات العسكرية والاقتصادية.
وجدت الصين في هذا الأمر فرصة مواتية لمزيد من التغلغل في إفريقيا اقتصاديًا وعسكريًا وسياسيًا، وذلك عبر استثماراتها الاقتصادية البالغة مليارات الدولارات في دول القارة السمراء ووجودها العسكري في سواحل جيبوتي والمساعدات والمنح التي تقدمها لدول القارة.
كما ساهمت الصين في إيجاد حلول لبعض الأزمات المشتعلة هناك، حتى إن بعض الخبراء أكدوا في وقت سابق أن القارة الإفريقية في طريقها لأن تكون مقاطعة صينية جديدة تضاف إلى المقاطعات الصينية التقليدية.
تتحرك أمريكا نحو إفريقيا، خلال هذه الأيام يقوم وزير الخارجية الأمريكي أنطوني بلينكن برحلات إلى دول إفريقية مختلفة وتوقيع إتفاقيات شراكة إقتصادية
تريد الولايات المتحدة أن تستثمر في القارة السمراء وتحارب النفوذ الصيني في المنطقة. pic.twitter.com/sPZAiA3ZFa
— John F. Kennedy ??? (@KennedyFJohnn) August 9, 2022
فتح الأفارقة أبواب القارة على مصراعيه للصين، فعرفت التيارات التجارية بينهما ازدهارًا كبيرًا، وتعاظم حجم الاستثمارات في البنى التحتية الأساسية، وتم تمتين العلاقات الدبلوماسية والسياسية والثقافية بينهما، ناهيك بحجم المعونة التقنية والمالية.
على عكس الإدارة الأمريكية، اختارت الصين تغليب لغة المصلحة المتبادلة والاحترام والمساواة دون التدخل في شؤون الآخرين، وحرصت على إعفاء 32 دولة إفريقية من ديونها المتأخرة لديها، كما قدمت هبات جزافية وقروضًا ماليةً دون فائدة وأخرى تفضيلية بعشرات المليارات، وانخرطت في عمليات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.
فضلًا عن الصين، استغلت روسيا الأمر نفسه، إذ وطدت علاقاتها مع دول عدة في القارة الإفريقية ويظهر ذلك في ارتفاع عدد السفارات الروسية في القارة السمراء وارتفاع التمثيلات الدبلوماسية الإفريقية في موسكو، فضلًا عن تنامي الزيارات الرسمية لكبار المسؤولين بين الطرفين.
كما يظهر الأمر أيضًا في تنامي الوجود العسكري الروسي في دول القارة على غرار ليبيا ومالي وإفريقيا الوسطى وبوركينافاسو، رغم أن هذه الدول كانت إلى وقت قريب تمثل امتدادًا تاريخيًا للدول الغربية وقرارها السيادي بيد الغرب.
تعمل موسكو منذ سنوات على إحياء الدور السوفيتي والظهور كقوة إقليمية مهمة في إفريقيا، خاصة أنها تقدم الأسلحة بسخاء إلى حلفائها هناك، كما أنها تستغل عضويتها الدائمة في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة لدعم الأفارقة دبلوماسيًا وتستغل أيضًا خبرتها في مجالي المناجم والتنقيب عن النفط.
إلى جانب روسيا والصين، برزت مؤخرًا العديد من القوى الإقليمية الأخرى في إفريقيا من ذلك الهند وتركيا، إذ أظهرت أنقرة منذ تولي الرئيس أردوغان السلطة اهتمامًا كبيرًا بالقارة الإفريقية ويظهر ذلك في ارتفاع عدد السفارات التركية في إفريقيا وارتفاع نسق المبادلات التجارية، فضلًا عن تنامي الوجود العسكري التركي في القارة السمراء.
سعي أمريكي للعودة إلى إفريقيا
هذا الوضع يحتم على الأمريكان العودة بسرعة للقارة الإفريقية حتى لا يخسروا نفوذهم هناك بشكل نهائي، وقد فهمنا ذلك في الجولة الأخيرة التي بدأها الأحد وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن إلى كل من جنوب إفريقيا وجمهورية الكونغو الديمقراطية ورواندا.
تأتي هذه الجولة الإفريقية في أعقاب جولة مماثلة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف للقارة الإفريقية، وسارعت الإدارة الأمريكية لإرسال وزير خارجيتها لإفريقيا لإنقاذ الوضع والإعلان عن عودتها الرسمية إلى هناك.
لدى حلوله في بريتوريا، قال بلينكن إن الولايات المتحدة تريد “شراكة حقيقية” مع إفريقيا، مؤكدًا أنهم “لا يريدون علاقة غير متوازنة”، إلا أنه أكد في الوقت ذاته أن بلاده لا ترغب في “تجاوز” نفوذ القوى العالمية الأخرى في القارة.
تأمل واشنطن أن تعيد هذه الإستراتيجية الجديدة المياه إلى نصابها وأن تسترجع نفوذها في القارة السمراء رغم صعوبة الأمر
من المنتظر أن تستمر هذه الجولة حتى يوم الخميس، في مسعى من واشنطن إلى تقريب وجهات النظر مع حلفائها الأفارقة والتصدّي للنفوذ الروسي الصيني المتنامي في القارة السمراء، ذلك أن هذا الأمر يمثل مصدر قلق كبير للإدارة الأمريكية.
بدوره، قال وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن، إن إفريقيا تواجه تحديات متعددة على مختلف الجبهات، محذرًا من تدخل روسي بالقارة السمراء، وأضاف أوستن في مؤتمر عقد بمدينة شتوتغارت الألمانية “الغرباء يحاولون الإمساك بهذه القارة ونحن نحاول مساعدة إفريقيا على زيادة قدرتها الاقتصادية في وجه محاولات تقويض العلاقات الإفريقية الأمريكية”.
ضمن مساعي العودة القوية إلى إفريقيا، من المقرر عقد قمة أمريكية إفريقية يوم 13 ديسمبر/كانون الأول المقبل في واشنطن، على أن يسبقها لقاء بين الرئيس الأمريكي جو بايدن ونظيره الجنوب إفريقي سيريل رامافوزا في واشنطن.
إستراتيجية جديدة
ضمن هذه المساعي أيضًا، أطلقت واشنطن إستراتيجية جديدة تجاه إفريقيا تم كشف النقاب عنها أمس الإثنين، وتؤكد الوثيقة مصلحة واشنطن في ضمان إبقاء القارة الإفريقية مفتوحة ومتاحة للجميع، وأن الحكومات والشعوب يمكنها بنفسها اتخاذ خياراتها السياسية.
وأوضحت الوثيقة التي تحمل عنوان “إستراتيجية الولايات المتحدة تجاه إفريقيا جنوب الصحراء” أن مجتمعات مفتوحة تميل عمومًا إلى العمل بالتنسيق مع الولايات المتحدة وجذب المزيد من التبادلات التجارية والاستثمارات الأمريكية (…) ومواجهة الأنشطة الضارة لجمهورية الصين الشعبية وروسيا والجهات الأجنبية الأخرى”.
?بلينكن يصل إلى جنوب إفريقيا لإطلاق استراتيجية الولايات المتحدة لـ “أفريقيا جنوب الصحراء”
?الاستراتيجية الأمريكية تهدف إلى تعزيز دور القارة الإفريقية كلاعب جيواستراتيجي وشريك رئيسي للولايات المتحدة. pic.twitter.com/mLXYhdyzhy
— El-djazair daily (@ElDjazair_Daily) August 7, 2022
كما تقترح ضرورة بذل جهود متزايدة “لوقف الموجة الأخيرة من الاستبداد والانقلابات العسكرية من خلال العمل مع الحلفاء والشركاء في المنطقة للرد على التقهقر الديمقراطي وانتهاكات حقوق الإنسان”، وأضافت أن الولايات المتحدة ستستخدم “قدراتها الأحادية”، أي العسكرية، ضد أهداف إرهابية “فقط عندما يكون ذلك قانونيًا وحيث يكون التهديد أكثر حدة”.
وتعرض الإستراتيجية الجديدة أربعة أهداف تمتد لخمس سنوات، وتتلخص هذه الأهداف في دعم المجتمعات المفتوحة وتقديم مكاسب ديمقراطية وأمنية والعمل على الانتعاش بعد الجائحة وإتاحة الفرص الاقتصادية ودعم الحفاظ على المناخ والتكيف معه والتحول المنصف للطاقة.
تأمل واشنطن أن تعيد هذه الإستراتيجية الجديدة المياه إلى نصابها وأن تسترجع نفوذها في القارة السمراء رغم صعوبة الأمر، فالروس والصينيون فضلًا عن بعض القوى الإقليمية الأخرى استطاعوا في السنوات الأخيرة مد نفوذهم في مناطق عدة من القارة ويصعب إخراجهم من هناك بسهولة.