مرة كل شهر، تزور آية وزميلاتها مخيمًا أو حيًّا أو مدينة أو قرية فلسطينية، تستقبلهن سيدة وتأخذهن في جولة لتشرح لهن عن تاريخ المكان ومجتمعه وقضاياه الاجتماعية والسياسية والاقتصادية بشكل واقعي وقريب من الأحداث ضمن “حلقات استقبال”، وهي محاولة جادة لإعادة إحياء عادة نسائية فلسطينية قديمة، كانت تمارسها المقتدرات والمثقفات في منازلهن، فيستضفن نساء ليناقشن مقالات علمية وأدبية وسياسية، بالإضافة إلى حضور الشعر والموسيقى، وكل ما يدور في واقعهن من أحداث.
توثيق المصدر الأول للحكاية
تقول الناشطة النسوية والسياسية آية زيناتي، إنه عند احتلال فلسطين هجر الاحتلال وشرد شعب كامل، وبطبيعة الحال لم يبق أي مجال لإقامة “حلقات الاستقبال”، حتى الأرشيف الذي يحمل بين صفحاته تاريخ القضية تمَّ تدميره ونهبه.
لنسمع الرواية من النساء اللاتي ما زلن معنا، منذ النكبة وحتى اليوم، ولنوثّق الرواية من منظور النساء
وتتابع زيناتي في حديث مع “نون بوست”: “خلال فترات مختلفة من حياتي سمعت من النساء عن حياة شعبنا وحياتهن قبل النكبة، وما كنّ يعملن ويمارسن حتى قدوم الاحتلال، وشعرت بالحسرة والغصة لتفاصيل كثيرة لم أعرفها، ولحياة كاملة عاشها شعبي وتمَّ اغتيالها”.
ولهذا قررت زيناتي أن تعيد “حلقات استقبال”، لتبقى حاضرة في ذاكرة الفلسطيني، وألا تكون تاريخًا وأرشيفًا فقط، مضيفة: “لنعيد ما كانت تقوم به نساؤنا الفلسطينيات وشعبنا الفلسطيني أجمع. لنتواجد في كل فلسطين، ولنسمع الرواية من النساء اللاتي ما زلن معنا، منذ النكبة وحتى اليوم، ولنوثّق الرواية من منظور النساء، ولنعزّز التواصل بيننا ولنستعيد الحيّز العام ونتواجد فيه”.
وتابعت: “أريد أن أشعر بأنني نجحت في إعادة ما مارسته نساء شعبي العظيم، رغم الاحتلال وسياسة التهجير والقتل المتعمّد لشعب سُرق ونُهب ودُمّر أرشيفه، واُغتصبت أرضه بقوة”.
يقوم مشروع “حلقات استقبال” على تحفيز الوعي وتعزيز الرواية الفلسطينية، من خلال توثيق نسوي سياسي وطني فلسطيني، وتحكي زيناتي: “يهمني أن يكبر أبناؤنا وهم واعين ومدركين للرواية والقصة، وأن نقوم نحن بتوثيقها لتبقى الرواية حاضرة وموجودة، ولنبقى شاهدات جيلًا بعد جيل حتى تحرير فلسطين وعودة كل اللاجئات واللاجئين”.
في سياق متّصل، أكّدت الناشطة السياسية، نزار هواري، أن “النضال ليس فقط بالمقاومة المتعارف عليها أمام الجيوش، بل في الإصرار بالعودة والحفاظ على البيت ولمّ شمل العائلة في الوطن”.
وبيّنت الناشطة السياسية أهمية التوثيق على لسان المرأة، بالقول: “هناك نضالات يومية قدمتها النساء، ليس بالرصاص وأمام الجيوش فقط، فالتوثيق النسائي هو توثيق للرواية الفلسطينية التي تتعرض للاندثار والتغييب ومحاولة المحتل إحلال رواية أخرى، ومن المهم توثيق الرواية الفلسطينية النسائية الغائبة عن كتب التاريخ، فالمرأة هي المصدر الأول في نقل الرواية الفلسطينية، والتي تنقل لنا المنظومة الاجتماعية العائلية الفلسطينية للمجتمع الفلسطيني التقدمي، وذلك بحسب الروايات التي نستمع إليها ضمن حلقات استقبال”.
بعد عام على هبّة الكرامة
منذ تأسيس “حلقات استقبال” عام 2017 وحتى اليوم تنظَّم جولات نسوية، كانت آخر محطات “حلقات استقبال” في مدينة البحر عكا، وذلك بعد عام على هبّة الكرامة، حيث شاركت ما يقارب الـ 30 سيدة وشابه في جولة، تحت شعار “عكا بعد الهبّة”، ضمن مشروع المجموعة، للاستماع وتوثيق الرواية والنضال الفلسطيني للأحداث المتعلقة بالشعب الفلسطيني منذ النكبة وحتى اليوم، وتخلل الزيارة لقاء مع عدد من النساء والاستماع إلى قصص نضالهن.
وأشارت الناشطة شذى شيخ يوسف، من مجموعة “حلقات استقبال”، إلى أهمية النشاط النسوي في تاريخ فلسطين والزيارة إلى عكا، شارحةً: “وجدنا أهمية لزيارة مدينة عكا وخصوصًا بعد هبّة الكرامة، حيث أن عكا لا تزال تدفع ثمن الهبّة، من تقديم لوائح اتهام قاسية ضد الشبّان المعتقلين، وفرض أحكام قاسية ضد البعض منهم، عدا عن حملة الاعتقالات التعسفية التي يتعرض لها شبابنا في عكا”.
الهبّة لا تزال مستمرة من ناحية المضايقات ضد العرب في عكا، من حملة الاعتقالات التعسفية والاعتداءات المتواصلة ضد الشباب العكي
وتختتم حديثها: “هنا يأتي دورنا كنضال نسوي فلسطيني بالتواجد إلى جانب أمّهات المعتقلين، ونؤكد لهن أننا لم ننسَ أبنائهن الذين شاركوا في المظاهرات، ولتوثيق رواياتهن كأمّهات للمعتقلين، ومن واجبنا أيضًا الدعم والمساندة وتوثيق الرواية من منظور نسوي، الذي ينظر إلى الشعب الفلسطيني بشكل أوسع حيث يوثق الرواية كاملة بكل أفراده”.
وعن نشاط “عكا بعد الهبّة”، أوضحت القائمة على المشروع آية زيناتي، بالقول: “نعود مجددًا هذه المرة إلى مدينة عكا لأهمية تواجدنا في عكا ما بعد الهبة، هبة الكرامة في مايو/ أيار 2021، وذلك إثر الهجوم المستمر لشعبنا الفلسطيني فيها لسماع روايات النساء والحديث عن عكا من خلال نسائها، فالهبة لا تزال مستمرة من ناحية مضايقات ضد العرب في عكا، من حملة الاعتقالات التعسفية والاعتداءات المتواصلة ضد الشباب العكي”.
نضالات نسائية حاضرة في عكا
ما يقارب الـ 25 أسيرًا من أبناء عكا ما زالوا معتقلين في السجون الإسرائيلية حتى اليوم، منذ هبّة الكرامة في العام الماضي، ومحمد حلواني الذي كان صيادًا هو واحد من بين هؤلاء، على خلفية اتهامه بإطلاق الرصاص في الهواء في منطقة جامع الجزار في عكا خلال هبّة الكرامة.
في مطلع الزيارة، وقفت أميرة حلواني، والدة المعتقل، أمام ضيوفها من الشابات من مختلف المدن والقرى الفلسطينية، قائلة: “نريد الوقوف إلى جانبنا لنشعر أن لدينا سندًا هو أبناء مجتمعنا”، ثم لم تتمالك حلواني نفسها وذرفت دموعها على ابنها المعتقل، وقالت إن “محمد سندي ونفسي في الحياة، حياتنا دُمّرت منذ اعتقاله، لم يطرق بابنا كبار البلدة، ولا شيوخها أو أعضاء الكنيست، ولا غيرهم”.
وتساءلت والدة المعتقل: “أليس أبناء عكا أبناء مجتمعنا العربي، ما يصيبهم يصيبنا جميعًا؟ نحن في مصاب حوّل أعيادنا إلى أتراح، لو أنها زفة عريس لخرج الجميع ليزفه، لكنه الضيق الذي نعيشه فأين أنتم أهل بلدي ومجتمعي؟ عندما أسأل الناس عن عدم المشاركة في نشاطات اللجنة الشبابية للدفاع عن المعتقلين، الجواب هو الخوف من تعرضهم أو أبناؤهم للاعتقال أو الملاحقة”.
قصة أخرى تخوضها جهاد الرامي من قرية الرام في الضفة الغربية، وهي متزوجة ومقيمة في عكا منذ سنوات طويلة، حيث تعيش إحدى القضايا الفلسطينية المركزية وهي “لمّ الشمل”، إذ تحدثت عن نضالها ومقاومة وجودها في عكا أمام المؤسسة الإسرائيلية بسبب قانون لمّ الشمل.
وروت الرامي كيف سلب هذا القانون حقوقها الطبيعية كأمٍّ وسيدة، حين تحرم من التأمين الصحي عند الولادة، أو أن يسجَّل أطفالها على اسمها، وحقّ التوظيف بشهادتها دون انتقاص أو تبخيس بالراتب، إلى جانب الاستفزاز المتواصل من قبل الدوائر التابعة للحكومة الإسرائيلية عند تواجدها دون هوية.
وسردت الحاجة منيرة أبو حميد من نساء عكا، من مواليد عام 1937 وشاهدة على النكبة، أنها لجأت مع عائلتها إلى لبنان في عام النكبة، وقد بقيت فيه لمدة عامَين قبل أن تعود إلى عكا، وتضيف أن العائلة ظنت أنها سوف تغيب لمدة أسبوعَين حتى تهدأ الأحوال، لكن الأمر طال.
وأخبرت الحاجة منيرة الزائرات أن “والدتنا كانت تأخذنا من مخيم برج البراجنة (الضاحية الجنوبية لبيروت) إلى مخيم المية ومية (جنوب لبنان) لكي تزور فلسطينيين من أبناء بلدها، وعندما كنت أسال والدتي: “لماذا تحضريننا إلى هنا؟”، كانت تجيب: “هؤلاء الناس من بلدنا وجاؤوا إلى هنا.. إلى الغربة””.
وتؤكد الحاجة منيرة: “لم يكن سهلًا عليها (الوالدة) في ذلك الوقت أن تجول في المخيمات لتسأل عن أحوال الناس وعن احتياجاتهم، رغم أنها لم تكن تملك شيئًا، لكن كانت تؤمن بأن الكلمة الطيبة والاطمئنان عليهم سوف يسعدانهم. هكذا كانت والدتي”.
رغم تلك الحواجز، بذلت القائمات على “حلقات استقبال” جهودًا للحديث مع النساء من غزة والتعرّف إلى قصص نضالاتهن
وعندما عادت الحاجة منيرة مع عائلتها من لبنان إلى عكا، وجدوا أن ثمة عائلات يهودية تسكن في بيتهم وقد عمدت إلى طردهم، بالنسبة إليها “كانت الصدمة الأولى أن بيتنا لم يَعُد لنا وقد طُردنا منه، ومدرستي لم تَعُد مدرستي”.
التحديات والمستقبل
تتمثل المعيقات، بحسب الناشطة زيناتي، لمشروع قائم على جولات ميدانية في دولة محتلة، في غياب النساء الفلسطينيات من الضفة الغربية المحتلة وقطاع غزة، وكذلك ممّن هنّ في مخيمات اللجوء والشتات خارج فلسطين، والافتقار للدعم المادي اللازم لعمليات التوثيق الرسمي.
وتأمل المشاركات في إزالة الحدود والحواجز مع غزة، والتجوُّل والاستماع إلى المرأة هناك، وتوثيق نضالها وحكاياتها، كما الوصول إلى المدن والقرى الفلسطينية في أراضي الـ 48 والضفة، لتعزيز التواصل والترابط والعلاقات.
ورغم تلك الحواجز، بذلت القائمات على “حلقات استقبال” جهودًا للحديث مع النساء من غزة والتعرّف إلى قصص نضالهن ضمن فعاليات وأنشطة المشروع، إلا أن الوصول لم يكن ميدانيًّا بل من خلال ندوات وحوارات عبر “سكايب”، إلى جانب عرض فيلم يتناول نساء مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في لبنان، للحديث عن أحوالهن وذكرياتهن ومعاناتهن، تأكيدًا على رسالة مشروع “حلقات استقبال” في تناول الحديث عن الكل الفلسطيني في كل أماكن تواجده، بما يشمل قضية الأسرى وحق العودة، في إطار خطاب نسوي سياسي واضح.