قبل سنوات قليلة، زار أحد الأصدقاء تونس للسياحة، وفور عودته منها، سُئِل عن رأيه عن الأكل التونسي، فلم يكن تقييمه إيجابيًّا، مشيرًا إلى أن أكثر شيء منتشر في المطاعم التونسية، هو الوجبات الخفيفة بالتونة لا غير.
صديقي المشار إليه، هو عيّنة من كثير من السيّاح والزائرين لتونس، ممّن يحملون فكرة مشوَّهة عن المطبخ التونسي، ولهم في دعم هذا الموقف أدلّة قوية، أبرزها عجزهم خلال فترة سياحتهم وبقائهم في تونس، عن العثور على عناوين ومطاعم عتيقة، تقدّم الأكل التونسي التقليدي على أصوله.
أطباق تونسية مفقودة
إن رحلة البحث عن مطاعم تقدّم الأطباق التونسية التقليدية على أصولها ليست بالأمر السهل، خاصة خارج العاصمة تونس، فغالبية المطاعم المنتشرة على طول البلاد وعرضها، تقدّم أكلات خفيفة لا تمتّ للأكل التونسي بصلة في غالبية الأحيان، على غرار أنواع مختلفة من الساندويتشات والمعجّنات والبيتزا.
في قلب العاصمة تونس، وبالتحديد في أكبر شارع سياحي فيها، وهو شارع الحبيب بورقيبة، لا يستطيع السائح العثور على مطعم تونسي يقدّم الأكلات التقليدية على أصولها، على غرار الكسكسي والملوخية والمرقة الحلوّة والبرزقان والبركوكش والمحمّصة المفوّرة والأرز بالكالمار المحشي، وغيرها من الأطباق والأصناف المتنوّعة من المشويات والأسماك، رغم وجود عشرات المطاعم المنتشرة في هذا الشارع.
في هذا الشارع السياحي وتفرّعاته، تخصّصت معظم المطاعم في تقديم الأكلات الخفيفة على غرار الكفتاجي والصحن تونسي واللبلابي والعجّة وأصناف متنوعة من الساندويتشات، بالتزامن مع تخصُّص مطاعم أخرى في تقديم الأطباق التقليدية، لكن بطريقة ربحية أكثر منها تقليدية، ما يعطي انطباعًا سيّئًا عن المطبخ التونسي لمن يجرّب هذه الأطباق.
غير بعيد عن شارع الحبيب بورقيبة، وتحديدًا في المدينة العتيقة، يمكن لعشّاق استكشاف المطبخ التونسي العثور على بعض المطاعم المشهورة المتخصصة في تقديم الأطباق التقليدية على أصولها، على غرار دار الجلد ودار صلاح والمرابط والعلي وغيرها، والتي تعتبر قبلة سياحية لعشّاق الأكل التونسي التقليدي، الذي توارثت أجيال عن أخرى طرق إعداده المثلى.
صورة سلبية ومشوَّهة
شارع الحبيب بورقيبة ليس إلا مثالًا صغيرًا عن المطاعم في المناطق الأخرى من العاصمة التونسية والمحافظات الأخرى، حيث بالكاد يمكن للسائح العثور عل مطعم تونسي أصيل، يقدّم الأطباق التونسية التقليدية بالطريقة المثلى المتوارثة عن الأجداد، لهذا يحمل السائح المغادر لتونس صورة سلبية ومشوَّهة عن المطبخ التونسي.
خلال السنوات الأخيرة، زار عدد كبير من المدونين الرقميين وصنّاع المحتوى العرب تونس، وقاموا أثناء زيارتهم بتصوير فيديوهات عن الأكل التونسي وأكلات الشوارع المنتشرة، لكنّ أغلبهم قدّموا للعالم صورة متواضعة عن المطبخ التونسي عن غير قصد.
الكفتاجي، الصحن التونسي، الفريكاسي، البريك، الشاباتي، اللبلابي والعجّة، كانت هذه الأطباق وغيرها القاسم المشترك بين هذه الفيديوهات التي حاز كثير منها على مشاهدات مليونية، لكنّها في الوقت نفسه قدّمت صورة سلبية عن المطبخ التونسي الغنيّ بأطباقه وتنوعه.
صحيح أن هذه الأكلات الشعبية التي تمَّ تصويرها من طرف هؤلاء الأشخاص، تعدّ من أكثر الأكلات استهلاكًا وانتشارًا في المطاعم المنتشرة في المدن التونسية، إلا أنها تعدّ وجبات خفيفة، ولا تعكس حقيقة ما يتناوله التونسي في بيته.
سفراء المطبخ التونسي
خارج تونس، فتحت مطاعم تونسية عديدة في دول عربية وغربية مختلفة، فشل معظمها في تقديم صورة إيجابية مشرّفة عن المطبخ التونسي، بسبب عدم تمكّن العاملين أو المشرفين على هذه المطاعم من الصنعة، وعدم امتلاكهم الخبرة الكافية لتقديم وتحضير الأكلات التقليدية بالطريقة المثلى.
فالأطباق التونسية التقليدية، مثل الكسكسي والبركوكش والعصبان والمرقة الحلوّة وغيرها من الأكلات، التي يستعمَل في تحضيرها اللحم أو السمك، يتطلّب تحضيرها اتّباع مراحل محددة ودقيقة للغاية.
في معظم الأحيان، تغلق المطاعم التونسية المهاجرة أبوابها بعد فترة قصيرة من افتتاحها، بسبب فشلها في منافسة المطاعم العربية والغربية الأخرى، على غرار المطاعم السورية والتركية والمصرية والإيطالية واللبنانية وغيرها.
أسباب فشل المطاعم التونسية في الدول العربية والغربية، مقارنة بنجاح المطاعم السورية والتركية خاصة، عديدة، لكن يبقى أهمّها عدم قدرة هذه المطاعم على تطوير نفسها، وتحسين جودتها والإبداع والابتكار وحسن استخدام المكوّنات الموجودة، حيث بقيت قائمة الطعام والأطباق المقدّمة هي نفسها، ولم تحاول التطوّر والتأقلم مع متطلّبات السوق من خلال حسن استخدام المواد الموجودة.
ليس مفاجئًا اليوم الاعتراف بفشل المطبخ التونسي في المنافسة عربيًّا وعالميًّا، فالأكلات التقليدية التونسية، وإن كانت وفق وجهة نظر معظم التونسيين الأفضل في العالم، إلا أنها على أرض الواقع لم تنل استحسان كثير ممّن تناولها في تونس أو خارجها، لأسباب تمَّ ذكر بعضها في المقال.
وسط كل هذا، تقف وزارتا السياحة والثقافة في تونس جامدتَين دون تحرُّك، لإيجاد الحلول الضرورية لإصلاح ما يمكن إصلاحه، وتحسين صورة المطبخ التونسي وتطويرها والتعريف بها، خاصة أن سياحة الطعام اليوم صارت تستهوي الملايين حول العالم، ممّن صاروا يبحثون عن الأكلات والمطاعم المعروفة في البلد الذي ينوُون زيارته، قبل تحديد وجهتهم النهائية والبحث عن تذكرة السفر.